طبيب وناشط بحريني
على مدى السنوات السبع من عمر ثورة فبراير 2011 تمسكت بعض الأطراف بطروحاتها السياسية وبسقوفها ورسخت قناعتها بضرورة التغيير الجذري، وأعادت بعض التيارات تموضعها، كما برزت أصوات تدعو للمراجعة السياسية ومراجعة المطالَب والأهداف ضمن عملية ممارسة النقد الذاتي او إعادة التموضع.
كما تزايدت في السنوات الأخيرة – وبعد السحق الأمني – دعوات للتصالح والتطبيع مع النظام من شخصيات او مجموعات مصالح تأطرت بعناوين مختلفة بين كونها مستقلة او كونها تنتسب لبعض العوائل او كما يحلو لبعضها تصنيف ذاتها بأنها من الأعيان.
أغلب هذه الدعوات جاءت بمبررات تراوحت في محتواها بين دعوات عامة هلامية لحل الأزمة وإخراج الوطن من أزمته، الى دعوات محددة تدعي معالجة أحد تداعيات إجراءات النظام وما صاحبها من رزء الحالة المعيشية للمجتمع المعارض، الى جانب أصوات تدّعي الحرص والخوف على وضع الطائفة الشيعية من انتقام النظام الموجه ضدها.
وبنظرة سريعة الى اصحاب الدعوات نرى ان أكثر ما يميزهم هو كونهم مقربين من النظام أو في طور سعيهم التقرب منه، وإنهم يعيشون وينتمون الى بيئة المجتمع المعارض، مع تفاوت في قناعاتهم السياسية غير المنسجمة مع الحركة المطلبية وربما وقفت بالضد من ثورة فبراير 2011.
ويمكن تفهّم بعض هذه الدعوات ومبررات ودوافع رافعيها، فمنها الأمين والمخلص والحريص، ومنها المُرجِف والانتهازي وما دون ذلك، ومنها ما يصنف تحت دعوات التوهين، او التكسب او التزلف او تقديم أوراق الاعتماد عند النظام، ومنها ما هو غير ذلك أيضا.
وضمن هذا السياق تعالت في الآونة الأخيرة دعوات للإفراج عن المعتقلين – الذي يتجاوز عددهم الأربعة آلاف سجين من مختلف الأعمار جميعهم ينتمون الى مجتمع المعارضة – لكون قضية السجناء السياسيين تمثل أحد مواضع الألم الذي يتعمّد النظام إنزاله بالمجتمع المعارض، عبر الزج بشباب هذا المجتمع في السجون لزعزعة قناعاتهم السياسية ولتعطيل دورهم في الحياة والإنتاج.
صحيح ان ملف المعتقلين السياسيين المقدر عددهم بالآلاف يعتبر بحق عامل ضاغط اجتماعيا ومكلّف انسانيا على كافة أفراد المجتمع المعارض ولهذا يتمسك به النظام كخيار فاعل لِلَجْم التمرد المجتمعي ضده.
وبسبب تداعيات هذا الملف الإنسانية، ليس من المستغرب أن تجد هناك من هو متحمس لمشروع التسوية الانسانية ويتفاعل مع هذه الدعوات غير الموثقة والفاقدة للصدقية بدون تفكر او تمحيص، ويمكن تفهم هذا السلوك على انه استجابة فطرية وطبيعية عند اي إنسان يتوق للحرية ويمقت العزل الحرمان خلف قضبان السجون والتي ربما استغلها البعض وجيّرها لحساباته الشخصية.
أما واقع الغالبية من أفراد الحاضنة الاجتماعية لهؤلاء المعتقلين ورغم أمانيهم ودعواتهم بتحقق الإفراج عن معتقلي الرأي جميعا وبأسرع وقت، فإنهم بدوا أقل انسجاما وتصديقا لهذه الدعوات، واكثر تحفّظا على هويّة مُطلقيها وأكثر التزاما بالمنطق في تناول الدعوات التي تُطلق من هنا او هناك، والتي تتناول قضايا ذي علاقة مباشرة بالمطالب الوطنية وتداعياتها، من مثل قضية المعتقلين.
وعليه فهؤلاء غير مستعدين للسير في خارطة طريق لا تقود الى الخلاص الحقيقي لأبنائهم المعتقلين او أن ترتب عليهم وعلى المفرج عنهم التزامات او توصيفات نمطية او قيود قانونية تنتقص من كرامتهم وعزّتهم وحقِّهم في الحياة بكرامة.
وبخلاف هذه المفارقة، فليس هناك من يتحفظ او يضع عقبة تؤخر تحرير المعتقلين الذين آمنوا ببراءتهم، وأيقنوا بحقيقة تلفيق النظام أسوأ التهم لهم.
ومن هنا، لا يسعنا الا ناسف لتلك الإشاعات المُغرضة المُصاحبة لدعوات الإفراج عن المعتقلين، المُرّوجة لأكذوبة ان المعارضة تقف بالضد من دعوات الإفراج عن المعتقلين، وبأنها غير مبالية بالجانب الإنساني للمعتقلين وأهاليهم! وهو قول إضافة الى كونه يجانب الحقيقة، فإن هدفه الأول هو التحريض والإساءة و التدليس على مواقف المعارضة من جهات موالية للنظام تعيش على ضفة المجتمع المعارض.
المتتبع للواقع المجتمعي البحراني، يستبعد جدا أن يقوم أحد ما بمنع اي من الناشطين المتطوعين بالسعي لدى “حكم الأمر الواقع” سواء بصفتهم الشخصية او كتشكيل جماعي بهدف الطلب منه او التوسل اليه بتخفيف معاناة الحاضنة الاجتماعية للناشطين والمعتقلين، وهو أمر وارد الحدوث متى ما أراد النظام التعاطي مع هذه الخطوة بناء على حساباته ومصلحته حتى في حال افترضنا جدلا أن أطرافا معينة من المعارضة تقف بالضد من هذا التوجه.
وما يستهجن هنا هو ما اقدمت عليه هذه الجهات الداعية للإفراج عن المعتقلين من الترويج لإشاعة ان المعارضة تقف ضد الإفراج عن المعتقلين، ظَنّا منها بأن هذا يقرّبها من النظام عبر نشر الإشاعات التي تساهم في إحراج المعارضة مع حاضنتها الشعبية.
من الواضح ان أطراف المعارضة بمختلف تلاوينها ترحب دوما، واليوم قبل الغد، بإطلاق كافة المعتقلين، صغيرهم قبل كبيرهم، بما فيهم الرموز السياسية والدينية، وهي تُجمع بأطيافها ان المكان الصحيح لهؤلاء الشباب والشابات هو خارج السجون وسط احضان عوائلهم، بل هي تستعجل النظام للقيام بهذه الخطوة دون انتظار من وسطاء، وتُجرّم النظام لاعتقاله الظالم لهم.
إن الإرجاف الذي حاول بعض أصحاب الدعوات إشاعته حول موقف المعارضة من دعوات الإفراج عن المعتقلين هو نتيجة لتحفظ أطراف في المعارضة على عملية الإيهام بإفراج عن معتقلين لا واقع له على الأرض، ومحاولات الاستغلال غير الشريف للجوانب الإنسانية في قضية المعتقلين من قبل هذه الجهات، واستثمارها في عملية التخادم بينها وبين النظام، بحيث لا تكون قضية السجناء أكثر من صفقة للمتاجرة، بين نظام يعتقل ويؤذي ظلما وجهات تتقرب له وتتسلق على حساب المعتقلين وابتزازهم وأهاليهم إنسانيا!
إن التقييم الموضوعي لمسارات النظام يدرك بأن النظام المهيمن على كل القرار السياسي والإداري والقضائي في البلاد، والذي أقدم على اعتقال هؤلاء الأبرياء وغلّظ الأحكام الصادرة بحقهم، بغرض استخدامهم كأوراق ضغط على المجتمع المعارض، لهو قادر متى ما أراد ان يطلق سراحهم بقرار من أعلى سلطة فيه بلا عرائض شعبية ودون توسلات نخبوية.
ولكنه وفِي طور سعيه لصنع بدائل شعبية ورموز مجتمعية، فإن النظام قد يرغب بالفيء على هذه العناصر التي تبادله الود والوئام بشيء من إحسانه في محاولة لرفع رصيدها الشعبي، لعلها تحل في المخيال الوطني والمكانة الشعبية بديلا عن الرموز الحقيقية المغيبة قسرا، والذين إما تم تغييبهم خلف قضبان السجون، او ان العمل جارٍ لاجتثاثهم من المسرح السياسي والنشاط المجتمعي عبر سلسلة القوانين التي تصدرها مفرخة التشريع البرلماني، لتقييد نشاط كل من لا يرتضيه النظام ولتمهيد المنصة لمتعهدين آخرين اكثر تكيّفا وانسجاما مع مشاريعه وخياراته في الوقت الذي يحدده وبالمقدار الذي يرتئيه.
ان النظام لم يقم بما قام به من إجراءات قمعية، واستخدام أساليب الترويع والإذلال والإهانة ضد الحاضنة الاجتماعية للمعارضة عبثا، او لانفلات جلاوزته من عقال سيطرته، في ممارسات جاوزت غريزة الانتقام الى حد الفجور، بل كانت لغرض إحداث الصدمة المجتمعية المطلوبة لتحقيق التحول في القناعات وتغيير السلوك السياسي كمحصلة لمرارة تلك التجربة.
وباعتبار ان القتل العشوائي والتعذيب وممارسات الإرعاب والترهيب والاعتقال والاحكام الصارمة والمُغلّظة والمطاردات والتهجير وإسقاط الجنسيات والتعذيب وتوطين البطالة والضنك المعيشي وزيادة وتيرة التمييز ضد مجتمع المعارضة هي للوصول بهذا المجتمع لحالة التطويع والخضوع السياسي، وبالتالي فإن النظام لن يتراجع عن حصاد هذه الإجراءات الجائرة التي يتمسك بها كأوراق مساومة بدون مقابل.
وقد يتساءل البعض عن ماهية هذا المقابل الذي يسعى إليه النظام للحصول عليه مقابل تخفيف إجراءاته القهرية ضد حاضنة المعارضة المجتمعية؟ وباختصار شديد فما يطلبه النظام هو مقايضة هذه الأوراق المؤلمة شعبيا وإنسانيا برأس الثورة، أي بالعودة والتراجع عن المطالب الشعبية التي رفعت في ثورة فبراير 2011!
والنظام يعلم ان القبضة الأمنية وإن حققت له بعض الإنجازات ولكنه لم ينتصر في معركة القناعات الراسخة والقارة في العقول، وهو هنا بحاجة للمساعدة من قبل أطراف على مستويات مختلفة من بيئة المعارضة لتمرير هذه المقايضة بأقل الخسائر عليه وأعظم الخسائر لمجتمع المعارضة.
النظام من جهته يعي جيدا انه يعيش مأزقا وطنيا مع غالبية مثخنة بجراحها وناقمة، وإن مثل هذا الوضع غير قابل للاستمرار لما لا نهاية، وإن عليه التراجع عن بعض إجراءاته.
وهو يعلم أيضا ان مجرد الرغبة في طَي صفحة التداعيات المؤلمة لثورة فبراير 2011 التي أنزلها هو بمجتمع المعارضة لا يمكن ان تنتهي او تُنسى بمجرد اتخاذ إجراءات مؤقتة، من قبيل وقف الاعتقالات التعسفية والتراجع عن احكام الإعدام والإفراج عن بعض المعتقلين، أو برفع الحظر عن توظيف طالبي العمل والخريجين وإعادة الجنسية لمن أُسقطت عنهم، أو بِردّ بعض الاعتبار للمواطنة المنتقصة لأبناء مجتمع المعارضة، وهي كلها حلول مؤقتة لقضايا قد تتكرر فورتها حين تسنح الظروف نظرا لبقاء مسبباتها.
ولذلك وبناءَ على المعطيات المستشفة من طبيعة العلاقة المتوترة بين الشعب والحكم في الماضي والحاضر، فإن النظام كما الشعب والمتابعين يعلمون ان هذه الإجراءات الآنية لن تُوقٍف احتجاجات مؤرقة ضد النظام في المستقبل.
ولأنه ليس في وارد الإصلاح الجذري للنظام السياسي، فإن النظام متيقن بأن ليس هناك من بين هذا الشعب من يستطع تقديم ضمانات بتمام الانصياع الشعبي له، مهما علت مرتبة الوسيط او تعاظم موقع الضامن سواء أكان شخصية كاريزمية او جماعة سياسية.
وعليه، فإن النظام وفِي هذا الظرف الزمني يسعى للاستفادة من جميع الطاقات والقوى الناعمة المتوفرة ضمن المجتمع المعارض ليستخدمها كرديف يتكامل مع أساليب العنف والقهر، لتحقيق غاياته في تطويع المجتمع وتكييفه وليكون اكثر تقبلا لتغيير سلوكه المدني وقناعاته السياسية بشكل يمنع لأطول فترة ممكنة حالات التمرد السياسي الذي ينال من استقراره.
وفِي هذا الاتجاه هناك من يسعى كذبا وافتراء لتحميل الذئب دم يوسف، وأعني ان بعض الساعين للتصالح مع النظام او هكذا يُفهم من تحركاتهم ودعواتهم، وتحت عناوين المساعي الإنسانية والجهود الخيّرة فإنهم يكرّسون إعلامهم وأقلامهم للنيل من كل عناصر القوة والمنعة للمجتمع المعارض وتوهين حالة التماسك فيه وتسخيف المطالب الوطنية واستهداف الرموز الوطنية وتقزيمهم وتحميلهم مسئولية ما تعرض له المجتمع المعارض من نكبات تسبب بها النظام من مثل مآسي الاعتقالات والمطاردات والتهجير وإسقاط الجنسيات واحكام الإعدام، والضنك المعيشي وفي الوقت الذي يسعون فيه هؤلاء ضمنا وتلميحا او جَهْرًا الى تبرئة النظام وإخلاء مسئوليته عما جرى ويجري ضد هذا المجتمع.
وهناك من يعتقد بأن تحرّك هؤلاء الأشخاص بصفتهم الفردية او المنسقة يمكن تصنيفه تحت فصل التخادم مع النظام وسياساته الهادفة لاستئصال القناعات الشعبية الراسخة والتي تطالب بالعدالة والمساواة وحُسن التمثيل الشعبي والسيادة على القرار الوطني وحرية التعبير والتجمع الخ من مطالب مشروعة ومُحقة، والاستعاضة عنها بمفاهيم تُخطِّئ العمل السياسي الحقيقي وتسيء للرموز السياسية المتجذرة في الوجدان الشعبي.
في مقابل ذلك، يقوم النظام برفع الرصيد الشعبي لهؤلاء الوسطاء (أفرادا وجماعات) عبر منحهم او تمكينهم من تحقيق بعض الإنجازات الشعبية تخفف مما انزله هذا النظام في وسط المجتمع المعارض من آلام ومواجع من قبيل إعطاءهم شرف تخليص بعض المعتقلين لديه من قبضته او ما شابه من إنجازات على سبيل المثال، وذلك في إطار سعيه لصناعة الرموز البدلاء لإحلالهم كبديل مجتمعي لمناوئيه الحقيقيين.
ختاما، نرى إنه من المهين لكرامة هذا المواطن هو ان تكون حقوقه وحريته وآلامه وتضحياته موضع مساومة: بين جلاد متسلط يسلبه حقوقه ويصادر حريته، وبين متزلّف يسعى لاستغلال حالة الألم التي سببها هذا النظام، لتحقيق طموحاته الشخصية او لتوسيع هامش مكتسباته، وليبقى مصير أبناء المجتمع المعارض ووجودهم هو رهن لهذا التخادم بين النظام والمتناغمين مع سياساته.