جواد عبدالوهاب
صحافي بحريني
مركز البحرين للدراسات
في فبراير الحالي تدخل الثورة الشعبية في البحرين عامها الثامن وسط قتامة المشهد وتعقيدات خطيرة وانقسام مجتمعي حاد، وتصعيد للحالة الأمنية التي تطورت بشكل مخيف بعد اعتقال الشيخ علي سلمان (ديسمبر ٢٠١٤)، وحل الجمعيات السياسية واقتراب السلطة من سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم، والاجراءات التي اتخذتها السلطة ضد معارضيها. وأيضا التراجع الكبير على المستويات الحقوقية والسياسية والاقتصادية، الامر الذي باتت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لوضع خيارات التغيير السياسي على سلم الأولويات الوطنية.
منذ فبراير 2011، شهدت البحرين أزمة سياسية فرّخت أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية شديدة. ومذّاك، طُرحت مبادرات عدّة من السلطة والمعارضة لكنها لم توضع ضمن خارطة طريق ولم يتم استغلالها بشكل صحيح نتيجة لتعنت السلطة، ما فاقم من أزمة الثقة وعمّق الشرخ المجتمعي الذي ترافق مع تزايد حدة الاستقطاب الطائفي في المنطقة، وانخفاض مداخيل النفط، وتوافر عوامل استقوت بها السلطة وجعلتها تصر على التعاطى مع المطالب الشعبية تعاطيا أمنيا وتجعل من الخيار الأمني خيارا استراتيجيا وحيدا لحل الأزمة السياسية، ومن هذه العوامل:
أولا: التدخل الإقليمي
شكل اجتياح قوات درع الجزيرة للبحرين منعطفا خطيرا في الأزمة السياسية، ففي خضم الاحتجاجات الشعبية التي تفجرت في الرابع عشر من فبراير عام2011، طلبت سلطات البحرين الاستعانة بقوات درع الجزيرة وزعمت الحكومة أن القوات جاءت لتأمين المنشآت الحيوية، فيما اعتبرتها المعارضة بمثابة غزو للبحرين متهمة اياها بممارسة القمع وقيامها بانتهاكات فظيعة لحقوق الانسان وبارتكاب جرائم خلال تدخلها في البحرين منها منع الطواقم الطبية من تقديم العلاج للجرحى وقتل المدنيين.
ثانيا: العامل الطائفي
لم يتفاجأ أحد بما تعرض له المعتصمون في دوار اللؤلؤة من مجزرة وحشية على يد قوات الجيش والأمن، خاصة أن الجيوش في منظومة مجلس التعاون الخليجي ليس لها أي مهمة لحفظ حدود دولها المفتوحة للقواعد العسكرية الأجنبية، بل مهمة تلك الجيوش هي فقط توفير الحماية للنخب الحاكم.
لقد كان حكام الخليج ومن يحميهم يعلمون علم اليقين ان ما جرى في البحرين يوم الرابع عشر من فبراير عام 2011 هو بداية – وليس نهاية – الزلزال الذي هز المنطقة كلها، إيذانا ببداية عصر جديد، طالما تطلعت له الشعوب، التي فقدت في أوطانها إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم، على أيدي حكوماتهم.
ولقد كان أشد أحداث الثورة البحرينية خطرا، هو تصريح وزير الداخلية بأن القمع الوحشي الذي مارسته قوات الأمن كان لمنع الانزلاق إلى فتنة طائفية.
إن استغلال (فوبيا الطائفية) من قبل السلطات البحرينية، يؤكد بأنها هي التي تقف وراء الفتن الطائفية، وهي التي تخترعها وتؤججها، لحماية النظام الذي فقد صلاحيته داخليا وخارجيا.
لقد تعامت سلطات البحرين عن الحقيقة التي يعلمها الجميع، وهو أن الشعب البحريني المستضعف انما تحرك من أجل نيل حريته، وحقوقه الإنسانية، في عصر لم يعد فيه مسوغ لبقاء الأنظمة الأسرية الشمولية.
وإذا كانت السلطات البحرينية قد سقطت في أول اختبار لها، وذلك في هجومها الهمجي على تظاهرة سلمية تضم شبابا ونساء وأطفالا أبرياء، واستدعاء جيوش خارجية لقمع تحركات سلمية داخلية، واستخدام سلاح الطائفية كمبرر لممارسة القمع، فان شعب البحرين قد نجح في افشال ذلك المبرر بالتمسك بشعاراته الوطنية التي لم يتخللها شعار طائفي واحد، وأيضا بتمسكه بخيار السلمية الذي جعل منه خيارا استراتيجيا أمام همجية السلطة.
لقد اثبتت أحداث السنوات الماضية أنه ليست هناك فتنة طائفية كما ادعت السلطة، وليس هناك تدخل أجنبي وراء هذه المظاهرات، كما زعمت، بل هناك شعب مضطهد يتطلع للخلاص من حكومته التي لم يعد لها أي رصيد شعبي، ولا مستند شرعي، لتستمر في حكمه على هذا النحو العشائري، ولتستأثر دونهم بالحكم والثروة، لا لشيء إلا لأنها تحالفت مع دول الاستكبار، التي ضمنت لها بقاء سلطتها دون حاجة للتفاهم مع شعبها.
ثالثا: الاستثمار في موضوع الارهاب
بعد ما يقارب السبع سنين، لا تزال جماهير البحرين تمارس احتجاجاتها الصريحة في الشارع السياسي على خلاف ما توقع صناع قرار اخماد الثورة، وما تنبأ به داعموهم ومستشاروهم.
وقد كان التصور المرجح في مراكز القرار في واشنطن ولندن أن يتم احتواء المعارضة وترضيتها ، الى درجة ان السلطة لم تشغل نفسها بأن تضع خطة حقيقية لاحتواء القوى المعارضة لها، وحوارها، واحترامها، مكتفية بترديد بعض لأكاذيب من قبيل اتهام المعارضة بممارسة العنف.
وفي الحقيقة، إن السلطة -التي كانت ولا تزال حريصة على ألا تعطي أي مكاسب لشعب البحرين على خلفية الاحداث، فإنها سرعان ما أعلنت نيتها العداء للأغلبية السياسية دون أي مبرر مقبول.
وفي هذا الإطار الشاذ في الفقه السياسي، فقد ارتأت السلطة اللجوء إلى الاستثمار في ميدان الكلمة السحرية التي تضمن سرعة توريط الغرب في تأييدها، وهو ميدان محاربة “الإرهاب”.
ومضت السلطة في استراتيجيتها هذه بفضل تدفقات سريعة ومتلاحقة من التمويل الخليجي السخي وشركات العلاقات العامة العالمية التي تعاقدت معها والتي قامت بدور نشط في نشر رؤية السلطة للجهات المؤثرة في العالم الى درجة أنها أطاحت بجمعية الوفاق وأمينها العام بغطاء أمريكي وبريطاني.
ومع ذلك، فإن الأثر القمعي المتوقع لم يتحقق ولو بنسبة بسيطة، حيث لا تزال المعارضة الحية تتجلى في صور إنسانية نبيلة تؤكد قيمة المبدأ، وفي صور سياسية تؤكد قيمة الانتماء.
وفي مقابل ذلك، فقد حصرت السلطة نفسها في مربع الحديث المفبرك والمضطر عن الإرهاب ومحاربته، وقد اضطرتها الظروف في بعض المراحل إلى أن تصنع الإرهاب لتزعم أنها تحاربه، وإلى أن تفجّر القنابل لتشير إلى أنها المستهدفة، وهكذا تحول اداء السلطة من فعل سياسي يعمل على استعادة المشروعية التي فرطت فيها السلطة وخسرتها، إلى فعل صناعي يستند في وجوده واستمراره إلى فكرة وصناعة الاستثمار في الإرهاب والاستمرار فيه.
وفي مقابل استراتيجية السلطة، كان رد فعل الثورة وقادتها أكثر ذكاء ومنطقية حيث اعتمدت استراتيجية الصمود، بدلا من فكرة رد الفعل المضاد للإرهاب أو الفعل الإرهابي المضاد: “ستعجزون ولن نعجز”.
واستمرت السلطة في هذا النهج ولاتزال بفضل ثلاثية: التواطؤ البريطاني – الأميركي، والدعم والتمويل، والآلة الأمنية الخليفية. وقد كانت هذه الثلاثية تمثل عناصر قوة لا يستهان بها، وهي عوامل تبدو فاعلة لكنها عقيمة، لأنها تقوم على فكرة وضع اليد، وتطبيع المشهد، وتقوية المنكر، وتصفية الحق.
التضليل لا التعتيم الإعلامي
في موازاة القمع وقساوة الممارسة التي استخدمتها السلطة ضد معارضيها، مارست السلطة (التضليل الاعلامي) الذي هو أخطر بكثير من التعتيم الذي يقتصر على منع انتشار الخبر. الضرر الأكبر في التضليل، ذلك أن التعتيم على خبر ما يمكن تجاوزه بالحصول على نفس الخبر أو المعلومة من مكان آخر، وعبر وسيلة إعلامية أخرى، خاصة في هذا الوقت حيث التكنولوجيا الحديثة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي سهلت مهمة الحصول على المعلومات من مصادر متعددة وبأيسر السبل وأسرعها على الإطلاق.
أما التضليل الإعلامي، فهو اذاعة الخبر لكن بمبررات وتفسيرات أخرى، أو صرف انتباه المتلقين إلى أمر آخر بعيدا عن المضمون الحقيقي الذي تكشفه المعلومة أو الخبر.
وهناك العشرات إن لم تكن المئات من الشواهد والأدلة على أن سلطات البحرين مارست طوال سنين الأزمة والى اليوم التضليل الاعلامي، لكنني سأكتفي بشاهد واحد وهو مقتل الشهيدة فخرية التي قتلت برصاص حرس موكب أحد المسؤولين الذي كان يمر بالشارع الذي كانت الشهيدة تقود سيارتها فيه. ولقد مارست السلطة أبشع صور التضليل عندما ادعت أن الشهيدة قتلت جراء انفجار قامت به المعارضة. وقامت باعتقال عدد من الافراد واتهمتهم بتفجير عبوة أدت الى مقتل الشهيدة فخرية.
وهكذا مارست السلطة أبشع مظاهر التضليل الإعلامي وعزفت لحنا نشازا تم تأليفه وإخراجه في أقبية المخابرات. وفي اليوم التالي غرد الجميع داخل السرب، وتعاملوا مع الأمر بروح القطيع. بعضهم طالب بإنزال اشد العقوبة بالذين قاموا بالتفجير، وبعضهم نقل عن مصادر أن القنبلة ايرانية الصنع، فيما أعلنت وزارة الداخلية انها القت القبض على منفذي التفجير. وحاول آخرون تشتيت انتباه الناس إلى قضايا فرعية هامشية في القصة بعيدا عن مضمونها الحقيقي.
لقد عملت السلطة طيلة السنوات الماضية وبشتى الاساليب على انهاء الحراك وعودة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل الرابع عشر من فبراير ٢٠١١ معتمدة في ذلك على استراتيجيتها الامنية وعمليات القمع الوحشي التي ينسبها بعض المراقبين إلى الصراعات الحاكمة داخل السلطة، ولكن العلاقات الدولية لعبت دورا كبيرا في ديناميكيات القمع، حيث السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة يؤثرون على طبيعة القمع في البحرين، الأمر الذي ادى الى تراجع الوضع بشكل خطير ومزعج، خاصة بعد السماح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
وتزامن هذا المنعطف الوحشي مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأعلن دعم سلطات البحرين، مما شجع حكومتها على تصعيد قمعها للمعارضة.
ومع تعامل السلطات بهذا الشكل مع المعارضة، يأتي موقف ترامب ليكون، عاملا لتمكين نهج التشدد، وبالتالي زادت الازمة تعقيدا وقتامة بالنسبة للنظام الذي حرق جميع أوراقه سواء مع الشعب أو مع المعارضة، ودخل الى ما يصطلح عليه بمنطقة الفراغ الاستراتيجي.
واليوم وبعد قرابة السبع سنوات تقريبا من “هجوم” الدوار، فإن الحل السياسي وصل لطريق مسدود وقيام علاقات طبيعية بين المجتمع البحراني والنخبة الحاكمة أصبح شبه مستحيل، الأمر الذي يعد فشلا ذريعا لمشروع وخطط السلطة في مواجهة الثورة واخمادها.
إن واقع السلطة المر الذي وصلت اليه نتيجة افراطها في القمع وجعل الخيار الأمني خيارا وحيدا للتعاطي مع مطالب شعب البحرين العادلة والمشروعة أوصلها الى “مرحلة الفراغ الاستراتيجي” الذي يتمثل في فقدان السلطة لمشروع ايجابي أو حتى سلبي ينهي الأزمة السياسية، وأزمة اقتصادية حادة، وتبعية مطلقة للشقيقة الكبرى افقدتها التحكم في قرارها السياسي، والاقتصادي، وانقسام مجتمعي خطير، ووضع اقليمي ودولي متقلب، الأمر الذي يطرح تساؤلات كبيرة عن قدرة السلطة في إدارة دفة الأمور خاصة فيما يتعلق بتصويب المسار الوطني، فضلا عن انهاء الأزمة السياسية.
ولأن السلطة احتكرت موقع القيادة ومهمة رسم السياسات العامة، سواء تعلق الأمر بتحديد الأهداف الاستراتيجية أو الوسائل المناسبة لكل مرحلة، أو شبكة التحالفات العربية والدولية، ولذلك فهي المسؤول الوحيد عن كل ما وصلت اليه البحرين من أزمات على جميع الأصعدة.
إن فشل السلطة في حل الأزمة السياسية وما تفرع عنها من أزمات، يعني فشل ومأزق استراتيجي يجعل الكرة في ملعب السلطة يتوجب عليها العمل على وضع استراتيجية المرحلة القادمة حتى لا تبقى معلقة في فراغ استراتيجي من المؤكد أن المعارضة ستملأه.
والسؤال: هل الوضعية الراهنة للسلطة تؤهلها للقيام بهذه المهمة؟
الخروج من حالة الفراغ الاستراتيجي والقيام بالمراجعة الاستراتيجية يتطلب من السلطة العمل على تغيير مرجعيتها السياسية المبنية على التبعية المطلقة للشقيقة الكبرى، والمرتهنة للإرادتين البريطانية والامريكية، والإقرار بفشل الخيار الامني لحل الازمة السياسية وبالتالي بالمطالب العادلة والمشروعة لشعب البحرين الأمر الذي يتطلب إعادة بناء النظام السياسي برمته باتجاه معاكس لما هو عليه الوضع الحالي، ومن ثم تغيير استراتيجيتها بشكل تصويب علاقاتها الوطنية وخصوصا مع الأغلبية الشيعية وإنهاء حالة الانقسام المجتمعي الذي قامت هي بصناعته.
السلطة دون غيرها هي المسئولة للقيام بالمراجعة الاستراتيجية، ومدخل المراجعة أن تباشر استنهاض نفسها وفكرها حتى تكون مؤهلة لإعادة استلام زمام الأمر الوطني، وهذا يتطلب التحرر من التبعية واستحقاقاتها وأن تتولى مهمة إعادة بناء وتفعيل النظام السياسي بما يخدم المشروع الوطني.
خيارات صعبة أمام المعارضة
على الرغم من النجاحات التي حققتها المعارضة في مجال الميدان السياسي والحقوقي، وجعل خيار السلطة الأمني مكلف على المستوى الاقتصادي، والصمود الاسطوري أمام آلة النظام القمعية، فإن المعارضة لا تزال تواجه تحديات كبيرة وخيارات صعبة.
ولاشك أن غياب الدعم الدولي الحقيقي للمعارضة ومحدودية الامكانيات أضعف قدرتها على الحسم وأخر تحقيق مطالبها، الا انها استطاعت افشال جميع المشاريع والخطط التي ابتدعتها السلطة من أجل اخماد الثورة والقضاء على المطالب السياسية التي تكرست أكثر وأكثر جراء عمليات القمع الممنهجة واتساع رقعة انتهاكات حقوق الانسان.
وما يسمى بالمجتمع الدولي الذي كان من الممكن أن يلعب دورا حاسما في تقصير عمر الصراع انحاز للسلطة، هذا الانحياز صب في مصلحة السلطة وأعطاها مساحة واسعة للتنكيل بالمعارضة الأمر الذي ادى الى تحجيم قدرة الثورة على التصدي للحملة الأمنية التي تقودها السلطة من خلال أجهزتها الأمنية، وهذا يعني أن على قوى الثورة والمعارضة الامساك بعصا المبادرة بأنفسهم، والعمل على شحذ قدراتهم الذاتية وتوظيفها لقلب موازين القوة.
الخيار الأمثل للمعارضة يتمثل في التحرك بالتوازي على المسارين السياسي والحقوقي لمحاصرة النظام والاستثمار في المنجز الميداني لقلب المعادلة السياسية.
لكن المشكلة في اعتماد هذا الخيار تكمن في الاصطفافات السياسية داخل قوى المعارضة، وغياب العمل المؤسساتي فيها من جهة، وحالة عدم الثقة السائدة بين القوى السياسية والقوى الثورية. وهذا يعني أنه يتوجب على المعارضة توحيد صفوفها من خلال صياغة مشروع سياسي وخطاب اعلامي موحد يظهرها أمام العالم بأنها مؤهلة بأن تكون ند لنظام محمي من دول الاستكبار.
النظام وحلفاؤه
اتبع النظام طوال السنين الماضية استراتيجية تقوم على أساس حل الأزمة السياسية أمنيا مع إظهار مرونة شكلية في التعاطي مع خصومه السياسيين من خلال دعواته المستمرة إلى الحوار للوصول إلى حل سلمي.
وترك النظام لفريق صغير من المساعدين السياسيين مهمة التعاطي مع الملف السياسي للأزمة، والذي شكل وزير العدل رأس الحربة فيه.
وفي موازاة ذلك حاول ولي العهد الظهور كوجه إصلاحي داخل النظام – في السنة الأولى من الثورة – من خلال “مبادرة النقاط السبع” التي تقدم بها ومن ثم الحديث عن سلة من الإصلاحات السياسية والدستورية، بدءا برفع حالة الطوارئ ومرورا بتعديل الدستور وانتهاء بتسمية حكومة تشارك فيها بعض قوى المعارضة.
كما حاول رأس النظام (الملك) أن ينأى بنفسه عن القمع العنيف وذلك من خلال تشكيل (لجنة تقصي الحقائق) التي ترأسها بسيوني. بيد أن دور الملك المحوري في أعمال العنف وإصراره على الحل الأمني بدأ يتوضح من خلال خطاباته للشعب وتصريحات معاونيه ومستشاريه.
قمع في الداخل ومرونة في الخارج
منذ البداية لم يكن النظام في وارد تقديم أي تنازلات سياسية على خلفية الثورة، أو القيام بأي إصلاحات تؤثر على ما اسماه بـ”المشروع الاصلاحي”. وسعى إلى قمع الثورة والقضاء عليها من خلال استدعاء قوات درع الجزيرة متهما الثورة والمعارضة بتبعيتها للخارج.
ومع اتساع دائرة القمع، وسقوط المزيد من الشهداء وتفشي حالة انتهاكات حقوق الانسان صبت السلطة جهودها لكسب التأييد العالمي لإجراءاتها الأمنية وذلك من خلال تقديم نفسها كضامن للتنوع الديني والعرقي، ومدافع عن حقوق المرأة، وأيضا تقديم الثورة على أنها تابعة للخارج وبالتحديد (إيران) وأن هدفها زعزعة أمن واستقرار المنطقة، وأنها لا تحمل مشروعا سياسيا بل تسعى إلى احداث فتنة طائفية ونشر الفوضى في المنطقة.
اتساع دائرة العمليات الأمنية والأحكام القاسية التي أصدرتها محاكم السلطة ضد الرموز وعموم الذين قامت الأجهزة الأمنية باعتقالهم، والانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان والاعتداء على مقدسات الشعب كلها عوامل أضعفت النظام سياسيا عند الأغلبية الشعبية والسياسية ووسعت من قاعدة الثورة ضده، الأمر الذي أجبره على نقل دائرة اهتمامه إلى الأقليات الدينية والعرقية عموما والطائفة السنية على وجه الخصوص لتكوين قاعدة شعبية مؤيدة له ولإجراءاته، خاصة أنه بدأ يعزف على السمفونية الطائفية من خلال خطابه الذي خاطب به الطائفة السنية وتخويفها من أن الثورة شيعية وتهدف الى استلام الحكم بدعم من ايران، وأن الطائفة السنية ستتعرض للذبح في حالة سقوط النظام.
هذا الخطاب الطائفي ادى الى كسب التأييد من قبل الذين استهدفهم النظام بهذا الخطاب، ولو بشكل نسبي. ولا زال النظام يتمتع بتأييد حذر داخل الطائفة السنية. هذا التأييد الحذر نابع من المخاوف التي زرعها اعلام النظام في وعيهم، وخشيتهم من قيام نظام شيعي على أنقاض النظام يحرم هذه الطائفة من نفوذها، ويسعى إلى إقصائها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
في موازاة خطاب السلطة، تعددت الخطابات من قبل فصائل الثورة والمعارضة السياسية فضلا عن التعتيم الاعلامي والغطاء الذي وفرته دول الاقليم والاستكبار على الثورة، وأيضا الحملات الاعلامية التي قام بها النظام وعززها الاعلام الغربي الذي حاكى في أهدافه أهداف السلطة.
تحديات أمام المعارضة السياسية
ما ذكر آنفا يؤكد أن أمام المعارضة تحديات عديدة، لعل أهمها التباين بين المعارضة السياسية في الخارج والداخل، وعجز بعض قوى الداخل عن تقديم نفسها قيادة للثورة في الداخل، ورفض بعض الأطراف الثانية اجراء ولو عملية التنسيق المنشودة مع الأولى.
كما أن المعارضة تعيش حالة انقسام بين أطيافها المختلفة. وسبب ذلك في اعتقادي يرجع الى ثقافة سياسية تشكلت في فترة في ظل غياب القواعد الشعبية، وتحول العمل السياسي إلى صراع نخبوي. هذه الثقافة لا تزال تتحكم في فكر وسلوك المعارضة ويمنعها من اتخاذ قرارات تقربها من بعض ولو بمستوى متدني من التنسيق.
القوى الثورية تفتخر بأن مواقفها تتماشى مع نبض الشارع، لكنها فشلت بالقيام بدور الوسيط بين الحراك الثوري الداخلي والعالم الخارجي، وأيضا عجزت عن قيادة الثورة سياسيا. والسبب في ذلك أن المعارضة بجميع أطيافها لم تعمل على صياغة استراتيجية واضحة للتنسيق السياسي والتشاور، مما ولد حالة من الخصام بين الثوري والسياسي.
ويتضح هذا الخصام في أن معارضة الخارج لا تمارس العمل السياسي بل تكتفي بالتأكيد نظريا على مطالب الثورة، ومعارضة الداخل تفتقد الى الأدوات السياسية التي من شأنها اجبار النظام على الرضوخ للمطالب خاصة أن العمل السياسي يحتاج إلى مهارة وحنكة في التعاطي مع خصم يجيد المكر والخداع.
لا يمكن ادارة الصراع السياسي مع هكذا نظام بالتشديد على الحقوق والتنديد بالإجراءات. القيادة السياسية الناجحة بحاجة إلى ذكاء خارق لإحداث خلل في توازن الخصم وإفشال مكره ودهائه، والعمل على احداث اختراقات عندما تصل الأمور إلى طريق مسدود.
الصراع السياسي يتطلب الدهاء والمرونة ممن يديرونه، كما يحتاج قبل هذا وذاك إلى مبادرات توظف انجازات الشارع في الميدان السياسي، وتجاوز التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة.
الأداء السياسي الراقي هو الذي يحدث خللا في حملات النظام الأمنية والاعلامية ويكشفه أمام الرأي العام الدولي الذي تغيب عنه تفاصيل الصراع، وإلى إحراج “الأصدقاء” الذين يؤكدون الدعم قولا ويمنعونه فعلا. ولذلك فان القيادة السياسية يجب أن تقود فعلا ولا تكتفي فقط بالتظلم والتنديد.
خاتمة
السطور السابقة تؤشر أن الصراع مع النظام قد يستمر طويلا ما لم يتم تغيير التوازنات الداخلية والخارجية بصورة جدية ومؤثرة. فالنظام يتلقى دعما أساسيا ومهما من حلفائه الاقليميين والدوليين. ويتجلى هذا الدعم بتوفير المال والسلاح والاستشارات.
أن المعارضة بحاجة ماسة الى العمل المؤسساتي الذي تبتعد به عن الاصطفافات الحزبية والفئوية السائدة، وايجاد اليات للتعاون والتواصل بين فصائلها وقوى، خاصة بين الجناحين السياسي والثوري.