إيمان شمس الدين، كاتبة كويتية
مركز البحرين للدراسات
المحتويات
مقدمة
إشكالية الدولة والمفهوم
الإصلاح وسياسة الاحتواء
السيادة المفهوم الملتبس
الشيعة والدولة علاقة ملتبسة
خلاصة وتوصيات
تطرح الورقة إشكالية الدولة وملابسات المفهوم في الخليج، على ضوء رؤية هابرماس للدولة الحديثة خاصة أنه يجد ضرورة التصالح بين الدين والعلمانية، وتسلط الضوء على مراحل نشوء الأنظمة الخليجية وطبيعة تلك الأنظمة، والتباسات الممارسة في النظام السياسي بين الدولة والنظام الرعوي، وكذلك على علاقة الشيعة مع الدولة في ظل هذا الالتباس في الممارسة، وتحاول تقديم معالجات لتطوير مفهوم الدولة والخطوات الاصلاحية التي سارت في هذا الاتجاه.
١. ما هو مفهوم الدولة الحديثة عند هابرماس؟
٢. مفهوم الدولة في الخليج: ما هي مراحل تطور الأنظمة الخليجية وكيف نشأت؟
٣. كيف واجهت الأنظمة الخليجية المطالب الداعية للإصلاح؟
٤. ما هي علاقة السيادة بمفهوم الدولة الحديث؟ وكيف استغلت الأنظمة مفهوم السيادة في سبيل تعزيز هيمنتها؟
٥. في ظل بنية النظام القبلي لدول الخليج، كيف كان شكل العلاقة بين الشيعة وهذه الأنظمة؟
٦. خاتمة وتوصيات على ضوء الواقع من جهة ورؤية هابرماس للدولة الحديثة من جهة أخرى.
مقدمة
“الوطنية الدستورية لا تعني أن يتبنى المواطن مبادئ الدستور في مضمونه المجرد فقط، بل يجب أن يفهمه ويتمثله من خلال مضمونه التاريخي الخاص وفي معناه التطبيقي”[1].
الدولة الفاعلة عند هابرماس هي الدولة التي تنبني على التضامن الاجتماعي وقيم العدالة، والتطبيق الفعال للمواطنة الدستورية، وهو لا يعتبر أن القانون الذي تفرضه جهة في الدولة أداة ضبط، كونه سيطبق فقط على الشعب وقد لا يصل تطبيقه إلى الأشخاص المتمثلين في السلطة، بل يجد أن مشاركة المواطن في تقنين القوانين وفهمها ومن ثم ترشحها من الشعب إلى الجهات الرقابية والتشريعية تشكل معايير ضابطة يمكن تطبيقها على الجميع.
ولا يعتبر هابرمس أن مجرد وجود دولة دستورية يذهب فيها المواطنين للانتخاب، أن هذه الدولة باتت فعليا دولة ديموقراطية، بل يشترط وعي الجمهور بحقوقه وواجباته وفهم الدستور والقانون، وتطبيق هذا كله في الحياة الاجتماعية والسياسية ممارسة واقعية تظهر فيها العدالة جلية في واقع الناس.
ويجد هابرماس أن من حق المتدينين وأصحاب الأديان أن يكون لهم دور فاعل مدني وسياسي طالما هم يخدمون الدولة والمجتمع، ويرفض إقصاء الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية شريطة أن يخضع الدين للتطهير من خلال العقل أي تخليصه بالعقل من كل الأساطير والشوائب، وهو هنا لا يعني قيام دولة دينية، بل يقول: “لا يحق للمواطن العلماني، طالما أنه يقدم نفسه في دوره كمواطن، لا أن ينكر الصحة الممكنة للتصورات الدينية حول العالم ولا حرمان المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينية وطرح مواضيع للمناقشة عموما.[2]
ويجد أن هناك تشابك حقيقي بين الديموقراطية وحقوق الإنسان في صيرورة تشريع الدستور، لأن التأسيس القانوني لصيرورة تطبيق القانون الديموقراطي يتطلب في الوقت نفسه توفير الحقوق الأساسية سواء كانت ليبرالية أو سياسية.[3]
ويؤكد الدستور يوضع بمشاركة المواطنين وليس استعباد سلطة الدولة، فالدولة تنتج من وجهة نظره عن طريق التشريع الدستوري الديموقراطي، والذي يكون الشعب شريكا في وضعه، بالتالي يكون شريكا في السلطة.
يلخص هابرمس بذلك مفهوم الدولة الحديثة ومقومات الديموقراطية وعلاقتها بحقوق الإنسان، ودور المجتمع المدني وفعالية الدين بالتعاضد مع العقل، ودور الشعوب في صناعة الدولة الحديثة، ولا ينطلق هابرمس الفيلسوف الألماني من مجرد نظريات بعيدة عن واقعه المعاش، بل هو ينطلق من واقع استطاع أن يقيم معالم الدولة الحديثة ويعمد إلى نقد ثغراتها على الواقع، ليقوم مسيرتها من خلال تقييم التجربة التطبيقية وإعادة النظر في ملابسات التطبيق على أرض الواقع.
وهو ما يدفعنا إلى طرح تساؤلات حول مفهوم الدولة في العالم العربي وخاصة في الخليج، وعن معالم الأنظمة الحاكمة وعلاقة مكونات المجتمع كافة بما فيهم الشيعة بها، على ضوء نظرية هابرمس حول الدولة والشعب والدين وحقيقة الديموقراطية وعلاقتها بحقوق الإنسان.
إشكالية الدولة والمفهوم
في الخليج هناك التباس معرفي يتبعه سلوكي تطبيقي في مفهوم الدولة، ففي الواقع الجمعي معرفيا، حينما تذكر مصطلح الدولة ينصرف الذهن الجماعي للأفراد إلى السلطة المتمثلة بالحاكم، ويرجع العروي ذلك إلى أن تخلف مفهوم الدولة ناتج من صعوبة وصف الدولة في الأساس. هذه الصعوبة لا تتأتى من قلة المعلومات بقدر ما تصدر من عملية تَكَوُّنْ الدولة ذاتها.[4]
فمهوم الدولة في الخليج ظلت كما يصف أحمد شهاب مرتبطة بوعي قبلي أو ديني وليس سياسيا، فهي تكتسب أهميتها من كونها إطارا يحفظ الأفراد المرتبطين بقرابة الدم أو الدين لا على أساس المواطنة، ولذا يكون محل البحث هو شيخ القبيلة أو الخليفة وليس الدولة.[5]
ولذلك يعتبر إعادة إنتاج نفس الفهم من قبل الأنظمة السياسية في الخليج هو الضمان الذي يحفظ استمراريتها ووجودها ومصالحها المحصورة في مجموعة من الأفراد متحكمين بموارد الدولة ومقدراتها.
كان قيام كيانات على أساس عائلي يَدْعَم من تنامي التعاضد القبلي وثقافته العصبوية، ويْدَعِّمْها سلوك تلك الكيانات في التوسع من جهة، وفي تثبيت علاقاتها مع المحيط الذي تحكمه بطريقة النسب المتشابك مع القبائل من جهة أخرى، و الرعوية من جهة ثالثة، وهي قيام تلك الكيانات المتحكمة بثروات المحيط الذي تحكمه بتوزيع الأموال على الرعية دون مقابل إنتاجي وبطريقة تعطيلية لقدرات الشعوب وعقولهم، مما يجعلها خارج دائرة المحاسبة من قبل هذه الشعوب التي ارتبطت بالولاء للحاكم وليس للوطن، ارتباطا عشائريا وليس على أساس مبدأ الحقوق والواجبات.
تدريجيا تحولت هذه الكيانات لدول وعززت وجودها من خلال عدة دعامات:
- داخلية من خلال تعزيز نظام البيعة بينها وبين القبائل الكبيرة المؤثرة، وهذه البيعة كانت إما تتحقق بالنسب مع تلك القبائل أو بتقريب شيوخ عشائرها والإغداق عليهم بالمال والمناصب وتمييزهم عن الباقي، ليكونوا مقابل ولائهم المطلق في مواقع متميزة ومتقدمة.
- ويضاف إلى ذلك تشابك المصالح المتبادلة بين العائلة الحاكمة ومشروع رجال الدين في الدولة القائمة، حيث كان للفتوى دور كبير في توجيه الناس وتثبيت دعائم حكم العائلة، فالشعوب الخليجية سابقا كانت شعوب تميل للمحافظة والتدين البسيط، وتم استغلال ذلك في تثبيت الكيانات العائلية سواء بالسيف أو بسلطة الدين.
- القبضة الأمنية التي استحكمت حلقاتها ومدت أذرعها بطريقة جعلت مجرد التعبير عن الرأي جزاؤه الموت في بعض دول الخليج، والسجن في دول أخرى مما يعني تدمير مستقبل من يسجن وتداعيات ذلك على حياته العملية وأسرته ومحيطه، وهو مما زاد من عسكرة المجتمعات لدرجة باتت هذه المجتمعات تُراكِم هي بذاتها هذه العسكرة وتخلق لها تبريرات. هذا فضلا عن صناعة فبركات أمنية تعزز من الحاجة للأمن على حساب الحاجة للحرية، وهي فبركات تُرَوِّج لوجود عدو خارجي يهدد أمنها، بل وتَعْمد لاتهام مواطنين بتشكيل خلايا تابعة لهذا العدو وتحاكمهم على أساس ذلك. وهذا لا ينفي عدم وجود مخاطر خارجية على تلك الدول، ولا ينفي وجود مجموعات تعمل على زعزعة الاستقرار، لكن تم استغلال ذلك دوما في تضخيم الحدث وإشغال المجتمعات الداخلية بقضايا هامشية تعزز من القبضة الأمنية، وتكرس ثقافة انعزال المجتمع وعزله عن حقوقه في المشاركة السياسية، وعمل إصلاحات سياسية ترفع من منسوب الحريات كافة، وتزيد من مساحة إشراكه في الثروة والقرار.
- الاعلام الذي يتحرك تحت إشراف السلطة، فمقدرات البلد بيدها وهي الأقدر على صناعة إعلام قادر على ترسيخ روايتها ورؤيتها وما تريد أن تكرسه على مستوى وجودها ومستقبلها، هذا فضلا عن قدرتها على تسخير كثير من النخب الفاعلة والمؤثرة في سبيل تكريس منهجها في الحكم، وصناعة وعي شعبي وفق مقابيسها الخاصة.
- أما الدعامات الخارجية فأهمها على الإطلاق الاعتماد في الحفاظ على كياناتها الحاكمة على مبدأ الصفقات والمصالح المتبادلة مع الدولة الغربية وعلى رأسهم أمريكا، فهي تكفل حماية وجودهم في الحكم واستمراريتهم شريطة أن يلتزموا بتعزيز وجودها العسكري في منطقتهم، وتدفق النفط إليها وتنفيذ أجندتها الخاصة بالوجود الغاصب للكيان الصهيوني ومواجهة حركات المقاومة والتحرر بكافة الأشكال الممكنة.
- الاستثمارات الخارجية في دول غربية مؤثرة والهيمنة فيها على الاقتصاد والاعلام، هذا فضلا عن صفقات السلاح التي تستفيد منها الشركات الأمريكية والغربية المهيمنة على جزء كبير من اقتصاد العالم، في مقابل مواقف تلك الدول من تلك السلطات ودعمها لها.
- تصاعد ثقافة الاستهلاك وتحويل السوق الخليجية لسوق مستوردة ومتصدرة في استيراد البضائع من الخارج، وعدم دعم مشاريع الاكتفاء الذاتي والنهضة في الاعتماد على الذات والتوازن بين الانتاج والتصدير، وهو ما يجعل من هذه الشعوب ملكا للأنظمة تُسَيِّر حياتهم بالطريقة التي تمكن فيها وجودها، وتعزز ثقة الغرب بها لتكريس وجودها اقتصاديا وحتى ثقافيا، خاصة بعد العولمة.
وبذلك تكون تأسست الدولة لا على أساس دولة المواطنة والدستور التي تتعاضد بها الديموقراطية مع الحريات وحقوق الإنسان، وتتشكل فيها الدولة من مؤسسات دستورية والسلطات الثلاث ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والأحزاب السياسية، ويكون البرلمان أحد أوجه العمل السياسي وليس كله، وتعتبر السلطة فيها موظفة لخدمة الشعب ونهضة الدولة بالتعاضد والتعاون مع باقي المؤسسات الدستورية كما وصف هابرمس.
بل تأسست على أساس الرمز والقائد والحاكم الشخص، وعلى أساس ثقافة العائلة والقبيلة والرعية، فإذا مال الحاكم للإصلاح نعمت الرعية بالراحة، وإذا مال للتعصب والتشدد انشغلت الرعية بالهاجس الأمني الفردي وحفظ الذات وتمجيد الحاكم. وهو ما يعني أن الحاكم ومزاجه السياسي وهواه هو المتحكم غالبا في علاقاته مع مكونات المجتمع في الداخل ومع المحيط الخارجي، وليس مبنيا على أساس عقد سياسي واجتماعي يحدد الحقوق والواجبات وبنية مؤسسات الدولة والقوانين الناظمة لهذه العلاقة.
لكن هذه التجمعات لم تبق مجرد كيانات عائلية بشبكة علاقات قبلية ودينية، بل استفادت من الحداثة وتحولت إلى دولة اعتمدت على الحداثة العمرانية والتطور الشكلي وأصبحت شكل دولة تقودها عقلية شيخ العشيرة وكبير العائلة، يحكمها نظام رعوي وليس عقد بين الحاكم والمحكوم يكون الشعب فيه شريك في القرار.
ولكن ماذا عن الحركات الإصلاحية الشعبية في المنطقة، وهل تأثرت النخب بالعولمة وقدمت رؤى إصلاحية؟
في ستينيات القرن الماضي كانت هناك حركات إصلاحية في كل من البحرين والكويت، وإن كان حراك البحرين في المطالبة بالإصلاح وبناء علاقة إيجابية بين الحاكم والشعب أقدم، إلا أن في ذلك الزمن وقعت أحداث كانت ثمرة لتلك الحراكات المطالبة بالإصلاح، هذه الحراكات أحدثت تطورا شكليا في مفهوم الدولة اعتمد هذا التطور على سياسة الاحتواء. وهو ما يشير إلى تطور مفهوم الدولة عند كثير من النخب في الخليج وتأثرها بموجة الحداثة وبالنظريات الغربية حول مفهوم الدولة وطبيعة نظم العلاقة فيها، رغم بقاء الواقع كما هو على مستوى الأنظمة والتطبيق السياسي الداخلي والخارجي، لذلك وخاصة بعد العولمة ازدادت المطالبات في الإصلاح السياسي في الخليج وتنوعت المطالب وأشكالها، بين عرائض واعتصامات سلمية وحوارات مع السلطة، ولست هنا في صدد سرد لكل منها ولكن مجرد مرور سريع يوضح وجود حراكات إصلاحية تفاعلا مع العولمة وتداعياتها، ولكن ماذا كانت ردود فعل الأنظمة على ذلك؟
الإصلاح وسياسة الاحتواء
طالب الحركات القومية واليسارية الأسرة الحاكمة في الكويت في نهاية خمسينيات القرن الماضي بعمل إصلاحات سياسية يكون فيها للشعب دورا في المشاركة السياسية والقرار، وكان للتجار خاصة دور بارز في هذه المطالبات، ولجأ البعض للحاكم البريطاني الذي وجد استمرار هذا التصادم لأجل الاصلاح ليس من صالحه، فعمد إلى الضغط على حاكم الكويت آنذاك الشيخ عبد الله السالم الملقب بأبو الدستور للاستجابة للمطالبات، وتم الاتفاق على كتابة دستور للدولة و السماح للشعب بانتخاب ممثليه في برلمان وظيفته تشريعية ورقابية، على أن يتم اختبار الدستور الجديد لمدة خمس سنوات، يقوم بعدها المـؤسسون له بكشف ثغرات الدستور في التطبيق، وإعادة مراجعته وسد ثغراته، وهو ما قام به هابرماس في فلسفته حول الدولة والسياسة والمجتمع، إذ أنه يقيم نظريات تم تطبيقها لسنوات ومن ثم يعيد النظر في تلك النظريات على ضوء التطبيقات على مستوى الدولة والمجتمع.
ولكن خلال هذه الفترة التجريبية توفي أبو الدستور قبل انتهاء مدة التجربة، ولم ينفذ الوعد في إعادة النظر بالدستور وتحول الدستور بعد ذلك إلى قرآن معصوم صعب المساس، وهو ما يدلل على ارتباط مشروع الديموقراطية الكويتية بالحاكم وليس ارتباطها ببنية الدولة والمؤسسات.
وكانت خطوة الدستور والديموقراطية سياسة احتواء لتنامي الاحتجاجات وتدجين المعارضة ضمن انتخابات شكلية، وضع الدستور منهجيتها ورسمها بطريقة تكون مخرجاتها معروفة النتائج مسبقا.
ويمكن القول Yن الحياة الديموقراطية في الكويت اليوم شبه معطلة، وأن مجلس الأمة تحول من سلطة تشريعية رقابية إلى سلطة تنازعات مذهبية وقبلية وعائلية يتم تقاسم الغنائم فيها وفق المصالح الخاصة، وليس وفق مصلحة الكويت، وهذا لا ينفي وجود مخلصين لكنهم قلة مغمورة لا تملك في البرلمان إلا أفرادا لا يشكلون عددا مؤثرا في عملية التصويت في التشريع والرقابة.
أما في البحرين والسعودية – كما يورد موقع مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية – فقد مورست ضغوط سياسية على دول المنطقة اضطرت بعد ذلك الدولتين للقيام بحزمة إصلاحات سياسية، لكنها كانت وفق مقاييس الإدارة الأمريكية للإصلاح، فمثلا في البحرين كان عام ٢٠٠١ م عام الميثاق الذي تضمن العديد من المبادئ أهمها:
- إنشاء برلمان مكون من مجلسين، أحدهما منتخب ويمارس مهمة التشريع، وللمرأة حق الانتخاب تصويتا وترشيحا، والآخر استشاري ومهامه استشارية فقط، يعين أعضاؤه من أصحاب الخبرة والاختصاص.
- سيادة القانون واستقلال القضاء، وذلك باستكمال الهيئات القضائية المنصوص عليها في الدستور، وتعيين الجهة القضائية التي تختص بالمنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح والنيابة العامة، مع مراعاة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
- كفالة الحرية الشخصية والمساواة بين المواطنين، وضمان الحقوق الأساسية لهم، وأهمها حرية العقيدة، والحق في العمل وفي المشاركة في الشؤون العامة.
- إنشاء ديوان للرقابة المالية وآخر للرقابة الإدارية، لزيادة شفافية العمل في كافة إدارات الدولة.
أما في السعودية فقط استقبل ولي العهد السعودي آنذاك أصحاب عريضة الاصلاح عام ٢٠٠٣ م، وكان ذلك بعد عامين من عام الميثاق في البحرين، وهو مؤشر على التداعي في المطالبات وانتقالها للجوار الجغرافي، رغم وجود خلل حقيقي في التنسيق بين المعارضات في الخليج ونشطاء الحراكات السياسية المطالبة بالإصلاح.
وقد تم العمل على إعداد عريضة ” رؤية لحاضر الوطن ومستقبله” في أكتوبر٢٠٠٢ وأرسلت لولي العهد في يناير ٢٠٠٣ بعدما وقع عليها ١٠٤ من الشخصيات السياسية والاجتماعية، يمثلون مختلف مكونات المجتمع السعودي، ولخصت مطالب الإصلاحيين ضمن خمسة محاور:
- بناء دولة المؤسسات الدستورية.
- معالجة المشكل الاقتصادي
- تقوية التفاعل بين المجتمع وقيادته
- إطلاق مبادرات إصلاحية
- الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني عام.[6]
وفي الكويت خاضت الحكومة الكويتية معركة سياسية كي تمرر مشروع حقوق المرأة السياسية عام ٢٠٠٥ م، وتمكينها من المشاركة السياسية رغم استمرار تحفظ النواب الإسلاميين والمحافظين.[7]
كانت هذه الإصلاحات ناتجة عن ضغوط الإدارة الأمريكية التي كانت ترتئي أن استمرار الاستبداد يؤدي لخلق بيئات حاضنة للإرهاب نتيجة ارتفاع منسوب السخط الفردي والاجتماعي، وبالتالي يرتفع بذلك منسوب الإرهاب في منطقة تعتبر منطقة حيوية وفاعلة للإدارة الأمريكية اقتصاديا، وهو أيضا ما قد يهدد أمنها خاصة بعد أحداث ١١ سبتمبر.
ومن الملاحظ أن نوعية الاصلاحات جاءت لتتناسب وكل دولة على حدة، بحيث راعت الفروقات التاريخية والثقافية ومتطلبات كل حركة إصلاحية في كل دولة وحاكت تلك المتطلبات من خلال مجموعة اصلاحات تتناسب وسقف الدولة من جهة، والجهات المطالبة ونوعية مطالبهم من جهة أخرى، وهو ما يؤكد سياسة الاحتواء ومحاولة إخماد أي نيران مستقبلية يمكنها أن تشتعل ضد هذه الأنظمة، نتيجة تزايد السخط الشعبي.
واللافت أن هذه السياسة استطاعت إلى حد كبير احتواء الحراكات السياسية ضمن أطر إصلاحية تتحكم في مفاصلها الأسرة الحاكمة في كل دولة والتي هي بدورها خاضعة للإدارة الأمريكية، فهي من جهة احتوت السخط الشعبي المتصاعد بانزياحات سياسية شكلية، لكنها لم تضعف هيمنة هذه الأنظمة على الدولة وقدرتها على توجيه دفة الاقتصاد وفق رؤيتها الخاصة، والمتابع للأحداث بعد ذلك يخرج بشبه يقين أن تطبيقات تلك الاصلاحات كانت في مجملها فاشلة، واستطاعت أن تحد من المعارضات السياسية وتدمجها ضمن برنامج معد مسبقا من الأنظمة، استطاع تحجيم العمل السياسي كما في البحرين والكويت فقط في إطار البرلمان، مع مساحة أوسع في البحرين لمؤسسات المجتمع المدني، مقارنة مع المساحة الضيقة التي سمحت فيها الكويت لتلك المؤسسات للتحرك ضمنها بعد أن ألزمتها قانونيا بعدم السماح لها بالتدخل في الشأن السياسي، وهو ما عطل أهم دور في الاصلاح لمؤسسات المجتمع المدني وحولها لهيئات شكلية لا تأثير كبير لها في المجال السياسي ومراكز القرار.
فالأنظمة رضخت للضغوط الأمريكية لكن ما أن تمس مصالح هذه الأنظمة حتى تعطي أمريكا الضوء الأخضر في الانقلاب على كل التعهدات الإصلاحية، وإيقاف تلك الإصلاحات تحت شعار الأمن والسيادة وتهديد الخارج، واتهام قيادات سياسية فاعلة بالانتماء والولاء للخارج على حساب أوطانهم، وهي عملية تنتقص فيها هذه الأنظمة من مواطنيتهم، وتجعلهم عرضة للعقاب وبقبول المجتمع الذي يرى أنهم خونة.
وهو ما حدث في البحرين ويحدث بين فينة وأخرى في السعودية، ويحدث في الكويت وإن بنسبة جدا ضئيلة، كون الكويت حالة خاصة تحتاج تحليل خاص بها ليس محله هنا.
أي أن المطالبات بالإصلاح كانت تهدف لإعادة بناء الدولة وفق المفهوم الحداثي الذي تكون فيه السلطة أحد مكوناتها ولا تكون فيه هي الدولة، إلا أن الاستجابة كانت رضوخا للضغوط واحتواء للنقمات المتصاعدة، وليس اقتناعا بضرورة تطوير مفهوم الدولة فهما وأداء وإعادة رسم معالم تلك الدول لتتحول إلى دول متقدمة، وهو ما يشير إلى ارتباط مفهوم الدولة في ذهنية تلك الأنظمة غالبا بمفهوم القبيلة والعشيرة. ورغم تطور مفهوم الحقوق والواجبات لدى فئات شعبية مختلفة، وعبور المنظمات الحقوقية العالمية بثقافتها الحقوقية إلى الخليج، وتوقيع كثير من المعاهدات الحقوقية من قبل دول الخليج، وافتتاح مراكز حقوقية راصدة في الخليج من قبل الخليجيين أنفسهم ترصد الانتهاكات الحقوقية التي ترتكبها الأنظمة بحق مكونات المجتمع سواء من المواطنين المطالبين بالإصلاح من المعارضة أو غيرهم وسواء كانوا مواطنين أو غير مواطنين، إلا أن هذه الإجراءات في غالبها كانت شكلية، وكانت السلطات عند أي تقرير انتهاك حقوقي يقدم ضدها تلجأ إلى التحريض العلني ضد الحقوقيين واتهامهم بالخيانة، للجوئهم للمنظمات الحقوقية العالمية مما يعتبر مساسا بالسيادة الوطنية، وتدخلا في شؤون الدولة الخارجية.
ولكن ما علاقة مفهوم الدولة بمفهوم السيادة والذي تم استغلاله دوما في تقويض حركات إصلاحية، وشيطنة مطالبات بالإصلاح؟
السيادة المفهوم الملتبس
السيادة ليست سيادة دين السلطة على الناس، ولا عقيدتها، ولا سيادة مفاهيمها وعداواتها، ولا ولاءاتها، خاصة عندما تكون الدولة منحصرة في شخص الحاكم أو في أسرته، بالتالي تصبح السيادة في فهمه ترتكز على فهم قبلي قطبي إقصائي.
وكثير من الأنظمة العربية تعني لها السيادة بسط نفوذ الحاكم على الشعب وإجباره على إطاعته من خلال القبضة الأمنية، والخلط بين الولاء له والولاء للأرض.
هذه الطاعة التي تنتزع من الشعب بالسلطة الدينية والفتوى، تحدث رغم تقصير الحاكم في القيام بمهامه تجاه الشعب، واتباعه النظام الرعوي الذي يعتمد على ما يقدمه الحاكم للشعب كهبة وليس كحق، وبذلك يشتري ولاءات الشعب رغم عدم قيامه بواجبه اتجاههم، فلا يخضع بذلك لمساءلة الشعب له.
نشأ مبدأ السيادة المرتبط جذريا بمفهوم الدولة الحديثة مع استئثار الملوك بالسلطة في الدولة الأوروبية الحديثة، والتحرر من سلطة البابوية، وتصفية الإقطاع، وأصبحت الدولة هي السلطة العليا التي تخضع لها جميع الهيئات الأخرى من المنظمات الاجتماعية كالطوائف وأمثالها، ويشار إلى أن أول من صاغ المفهوم المتداول للسيادة هو جان بودان في كتابه ” الكتب الستة في الجمهورية” حيث اعتبر أن مفهوم الدولة الحديثة هو مفهوم السيادة، وكان يهدف بالدرجة الأولى إلى إعادة الهيبة والقوة إلى السلطة العليا، وفي تحليله لهذه السلطة العليا يرى بودان أنها:
1 سلطة دائمة تظل مدى الحياة.
2 لا يمكن تقويضها أو التصرف فيها.
3 سلطة مطلقة لا تخضع للقانون لأن صاحب هذه السلطة هو الذي يضع القانون[8].
ويقول الدكتور إبراهيم عبد العزيز شيحا: في الدراسات السياسية التقليدية تعتبر سيادة الدولة الأصيلة لا تستمد من سلطة أخرى، وشاملة تنسحب على جميع المواطنين والمقيمين فيها، وواحدة غير مجزأة، ولها مظهران:
الأول: خارجي يعني عدم خضوعها لغيرها من الدول.
الثاني: داخلي أي سمو إرادتها على جميع الأفراد والهيئات الموجودة على إقليم الدولة.
ونرى هنا أن بسط إرادة السلطة هي المعيار في سيادة الدولة، وحيث أن الدول الخليجية تحكمها أسر وعائلات وليست مؤسسات دستورية حقيقية، فتكون السلطة هنا متمثلة بالحاكم لتسود إرادته حتى على القانون، وتم استفادة كثير من الأنظمة المستبدة من مفهوم السيادة والذي أكدته الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على أنه” ليس في الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما”.
هذه الاستفادة من قبل كثير من الأنظمة تمثلت في التضييق على الشعوب ووفرت لها مسوغات خرق القوانين وانتهاك حقوق الإنسان، إذ لا تخلو دولة عربية من سجون للتعذيب وانتهاك كرامة المعتقلين. هذا فضلا عن استخدامها كفزاعة لتقويض الحركات المطلبية للإصلاح وشيطنتها والإبقاء على شكل الدولة كما هو، كونه يخدم وجود هذه الأنظمة على نسق القبيلة وشيخها.
وباتت المعادلة علو الشكل التالي:
” إن أي خروج على رؤى السلطة، أو أي أحلام أكبر يحملها المجتمع فلسوف تفسر بكونها انحرافا يجب أن تبادر السلطة إلى تقويمه. والمعالجة غالبا ما تتم بطريقة أمنية لا يحسنها إلا جلاوزة غلاظ يسحقون آدمية هذا المختلف/ المعارض الذي ” يهدد سيادة الدولة ووحدتها الداخلية”[9]
وهذا ما حدث في البحرين مع المعارضة البحرينية مؤخرا، وكذلك مع المعارضة في الكويت، ومؤخرا ما قامت به السعودية من اعتقالات شملت شخصيات دينية كانت تهمتها كما تنقل عدم إدانتها قطر، وما حولة تشكيل كيانات استخباراتية لصالحها.
فمن يرفض تدخلات الخارج بحجة انتهاك السيادة، فعليه أيضا تحت نفس الحجة رفض تدخلات الداخل وممارسة ضغوط على الشعب تنتقص من حقه في الاختيار الحر وتقرير المصير وسقف تطلعاته الاصلاحية، وممارسة ضغوط عليه تفقده قواه وتستنزفه فيما لا ثمرة مرجوة منه في سبيل النهضة والاصلاح. هذا فضلا عن أن استخدام هذه الأنظمة لحجة السيادة لتقويض الحركات الإصلاحية، هي مجرد سلاح يستخدم لقمع الشعوب، بينما حقيقة الأمر أن هم ذاتهم لا يسودون على دولهم، ويرضخون لتعليمات الخارج وأوامره. ولأن الشيعة مكون من مكونات المجتمعات الخليجية تاريخيا، ويشكلون في بعض الدول الخليجية أقلية وفي دول أخرى أغلبية، فكانت العلاقة بينهم وبين الأنظمة بين مد وجزر، خاصة بعد نجاح الثورة الإيرانية، وتصاعد الخطابات المذهبية في المنطقة. فكيف كانت تلك العلاقة؟
الشيعة والدولة علاقة ملتبسة
في ظل هذا الالتباس الكبير في مفهوم الدولة والسيادة، وفي ظل هكذا أنظمة ذات بنى قبلية وتركيبات عائلية تتشابك فيها تقاليد القبيلة مع مركزية العائلة في الدولة مع تداخل الفتوى في توجيه ولاء المجتمع وتكريس الولاء للحاكم، تكون كثير من الأقليات العددية المذهبية عرضة للانتهاك والظلم، خاصة فيما يتعلق بمواطنيتهم التي تكون بمستوى ثاني أو ثالث كالشيعة.
حيث تكون السيادة هنا سيادة الحاكم كدين ومذهب وعقيدة وفهم وإرادة على كل الدولة، بل تصبح القوانين الصادرة من قبله تكرس هذا المفهوم للسيادة، وتزيد عملية التضييق خاصة على الأقليات في تلك الدولة.
وقد لفت إلى ذلك كاتب سعودي هو قيمان الغامدي حيث قال حول واقع الشيعة ” إنهم في معظم الأوطان العربية يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، منوها إلى أن ذلك فوق كونه يتناقض مع فكرة إقامة الدول، فإنه يهيء الأرضيات لوجود الثغرات التي يلج منها أعداء الأمة”.[10]
وبالطبع بعد قيام الثورة الإيرانية، ظهرت هواجس حقيقية في الخليج حول إمكانية انتقال الثورة إليها بسبب الجوار الجغرافي، وإسقاط أنظمتها الحاكمة على غرار مع حدث مع الشاه الملك الذي كان شرطي الخليج والأكثر ولاءا لأمريكا وحامي مصالحها في المنطقة، ومع ذلك نجحت ثورة الشعب الإيراني بقيادة الإمام الخميني رجل الحوزة الشيعي، واستطاع تحويل الملكية إلى جمهورية وهو الأمر الذي قض مضاجع الأنظمة في المنطقة خاصة الملكية منها.
وكان الخوف من تصدير الثورة يشكل الهاجس الأكبر، لذلك في تلك الفترة زادت عمليات قمع الشيعة في الخليج، واضطهادهم وانتهاك كثير من حقوقهم خاصة حقهم في حرية الاعتقاد، وانتقاص مواطنيتهم بل اتهامهم في ولائهم وانتمائهم لدولهم، وتوجيه تهمة الولاء للخارج إليهم بحجة أن مذهبهم نفس مذهب قائد الثورة في إيران، بالتالي سيشكلون في وجودهم في الداخل خطرا شبيها يحمل بذور الثورة والانقلاب تحت قيادة الإمام الخميني كما روجوا له.
فتحول أقل حراك مطلبي من أجل إنصافهم وإعطائهم حقوقهم إلى خروج على الدولة والسيادة، ومحاولة الانقلاب عليها، بالتالي يكون قمع هذا الحراك له مسوغاته القانونية، ويتم تحت حجة السيادة والهاجس الأمني اعتقال المعارضين وزجهم في السجون وتعريضهم لأبشع أنواع التعذيب وانتهاك حقوقهم دون أدنى محاسبة من الخارج، كون مبررهم في الداخل الخيانة.
رغم أن الشيعة في المنطقة كانوا الأكثر حرصا على انتمائهم لأرضهم وولائهم لها وهو ما تجسد بالفعل مرارا في الخليج، كما حصل في استفتاء شيعة البحرين على ضم البحرين لإيران أيام حكم الشاه الشيعي، وكانت نتيجة الاستفتاء رفض الأغلبية الشيعية الانضمام لإيران وتأييدهم وتأكيدهم على استقلال البحرين وسيادتها، وكما حدث في الكويت مع الشيعة الذين تم اضطهادهم وسجنهم في ثمانينيات القرن الماضي، وإعدام بعضهم في السعودية من خلال اتهامهم باضطرابات حدثت في الحج آنذاك، إلا أنهم وقفوا كحائط صد في الغزو العراقي للكويت أمام الهجمة العراقية وقدموا شهداء وصمدوا في الداخل والتفوا حول الأسرة الحاكمة، رغم أنهم في عهد أميرها تم اضطهادهم وسلبهم مواطنيتهم حيث تم سحب جنسيات بعضهم بحجة الخيانة أيضا، إلا أنهم أثبتوا خلال غزو الكويت ولاءهم لأرضهم وللأسرة الحاكمة ورفضهم للاحتلال ومقاومتهم له، واستشهد في ذلك كثير منهم إلى جوار كثير من المواطنين السنة، وهن ما يدلل على أن المذهبة خيار الأنظمة لحماية نفسها بتفريق وحدة الشعب خوفا من اتحاده في المطالب الاصلاحية وتهديد نفوذها وهيمنتها.
هذان نموذجان واضحان لشيعة يمثلون أكثرية في البحرين، وآخرين في الكويت لديهم مقومات لم تتوفر لغيرهم في الخليج.
ولكن هذا لا ينفي أبدا وجود بعض التحركات الفردية أو تحركات لجهات غير حكومية ولا مدعومة من الحكومة متشددة داخل إيران، جندت بعض الشيعة خاصة الذين عانوا من التهميش والظلم، وهذا التجنيد سبب انعكاسات سلبية تم تعميمها على كل الشيعة، رغم وجود أيضا خلايا من السنة تم تجنيدها من قبل تيارات متشددة في الخارج، إلا أنه لم يتم تعميمها على كافة السنة، وذلك لأسباب كثيرة أهمها أنهم أكثرية ويمثلون أغلب أطياف الشعب، وأي مواجهة معهم ستكون السلطة هي الخاسرة، كونهم يشكلون رصيد الولاء الداعم لوجودهم من جهة، والداعم أيضا لاستمرار حماية الخارج لهم طالما هناك تأييد والتفاف شعبي حولهم.
لجوء هذه الأنظمة تحت ضغط المنظمات الحقوقية للهروب مجددا إلى مبدأ السيادة وفق الفقرة السابعة من المادة الثانية في ميثاق الأمم المتحدة.
وذلك من خلال تقنين قوانين تقيد الحريات وترصد حركة المواطن و تجعل من كثير من الاعتقالات والانتهاكات الحقوقية مبررة قانونيا، فتفوت بذلك فرصة ملاحقتها من المنظمات الحقوقية كون الانتهاك مقنن بقوانين داخلية لا تستطيع تلك المنظمات الحقوقية مخالفتها، أو نقد تصرف الدولة المنتهك كونه يتماشى مع قوانينها الداخلية السيادية.
العلاقة الملتبسة هذه شكلت أزمة ثقة متبادلة بين الشيعة والسلطة، تمثلت دوما بين كلا الطرفين في التصدعات المتكررة في كثير من الأزمات، حيث كان الشيعة دوما الحلقة الأضعف التي تستغلها السلطة في تشتيت المجتمع وضرب لحمته من خلال العصى المذهبية، وفوبيا التدخل الخارجي وتواطؤ الشيعة في ذلك.
فرغم إثبات الشيعة في مواقف كثيرة وطنيتهم والتفافهم حول السلطة، كما حدث في الكويت، إلا أن السلطة عندما تتعرض لأي خطر داخلي وتهديد معارض تعمد في أول خطوة لتقديم كبش فداء يكون الشيعة مثاله ومصداقه، إما باختلاق قضايا أمنية مفتعلة وتضخيمها إعلاميا وبالتالي تفكيك أي تحالفات للتيارات السياسية مع الشيعة وفق نظام فرق تسد، بالتالي تراجع أي محاولات إصلاحية أمام الهاجس الأمني المفتعل.
وهو ما كرس فعليا أزمة الثقة بين الشيعة في أوطانهم والسلطة فيها، وهي أزمة كان لها تداعيات خطيرة على اللحمة الوطنية في بعض دول الخليج، وعلى مبدأ التعايش والتسامح الذي يعتبر من أهم مقومات الاستقرار الاجتماعي داخليا.
خلاصة وتوصيات:
في الخلاصة نجد أن علاقة الأنظمة بشعوبها علاقة مضطربة نتيجة الخلل في بنية الدولة التأسيسية، وفي منظور السلطة للدولة والشعب، واستمرار هذه الأنظمة بعد العولمة على نفس المنهج في فهم الدولة والسياسة وتطبيق هذا الفهم، سيراكم مع التقادم حجم السخط الشعبي، ويولد دوما حركات معارضة حتى لو تم قمعها مما قد يؤدي إلى انفجار قد يهدد وجود هذه الأنظمة برمتها.
ولا خلاص لهذه الأنظمة وللشعوب إلا بعمل مجموعة تفاهمات مشتركة، والجلوس على طاولة حوار يكون منطلقها بناء وطن وفق مفهوم الدولة الحديثة، وهدفها تمتع الجميع تحت مظلة وطن جامعة للجميع وفق مبدأ المواطنة الصالحة.
هذا الحوار بين الأنظمة وشعوبها هي خطوة إصلاحية متقدمة تبني جسور الثقة بينهما، وتوطد من سيادتها الخارجية بتلاحمها الداخلي، وبذلك تكون قادرة على سد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها الخارج.
فلا خيار القبضة الأمنية، ولا الهروب تحت حجة السيادة بات اليوم يجدي في استقرار هذه الأنظمة ومجتمعاتها، خاصة بعد انكشاف كثير من الأسرار الخاصة بسبب الخلافات القائمة بين دول الخليج، وتحول الإعلام إلى إعلام فضائحي متبادل اطلعت فيه الشعوب على كثير من الحقائق التي كانت خافية عنها، هذا فضلا عن دور وسائل التواصل الإجتماعي بتكلفة متاحة للجميع، دورها في تشبيك العلاقات بين الشعوب وفي الاطلاع على تجارب الآخرين، وفي تفعيل النقد الموجه للسلطة وقدرة هذه الوسائل على صناعة رأي وتوجيه حراك، و إثبات انتهاك بحق الشعوب.
وأي عملية إصلاح عليها أن تأخذ في حسبانها عدة أمور أهمها:
- المرحلية في الاصلاح السياسي وتطوير مفهوم الدولة.
- النسبية في الاصلاح السياسي وهو ما يعني الأخذ في الحسبان الاختلافات الثقافية والبيئية بين الشعوب واختلاف مستوى التعليم ومستوى وعي الوظيفة والدور، فلا يعقل أن نقوم بعملية اصلاح سياسي واحدة لكل الدول في الخليج، كون هناك فروقات كبيرة بين شعب مارس الديموقراطية كالشعب الكويتي، وآخر يعتبرها ضربا من الكفر كما هو حاصل في العربية السعودية.
- الالتفات للاستفادة من التجارب الأخرى في هذا الصدد لكن استفادة لوضع مشروع إصلاحي خاص يتناسب مع هويتنا وبيئتنا حتى يكون مستوى مقبوليته كبير. هذا فضلا عن أهمية تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، وتفعيل الديموقراطية بكافة أوجهها ومقوماتها وعدم حصر العمل السياسي في مبنى البرلمان وقتله بعد ذلك، وتحويلها لديموقراطية شكلية والعودة للمربع الأول، فلم تعتد تحتمل المنطقة أي مغامرات أو تجارب على حساب الشعوب واستقرارها ونهضتها.
- تفعيل مبدأ المساواة والعدالة من خلال محاسبة المسؤولين عن هدر الثروات مهما كان موقعه، والمسؤولين عن الانتهاكات الحقوقية بحق المعتقلين، وإطلاق سراح سجناء الرأي والسياسيين والمعارضين، وتعويضهم وتعويض أهالي الضحايا الذين قتلوا بيد السلطة الأمنية اثناء التعذيب أو المظاهرات المطلبية السلمية. وتقديم ميثاق وطني تشرف عليه جهات رقابية داخلية وأخرى من قبل الأمم المتحدة، ويكون ملزم للجميع بحيث يوضع سقف زمني لتفعيله، وتكون هناك جهلت رقابية من الداخل من كافة التوجهات تكون وظيفتها مراقبة التطبيق والاستمرارية، على ان تحظى هذه الجهات بحماية توفر لها منسوب حرية عالية في الرقابة والتوجيه.
- التنسيق بين المعارضين والنخب في الخليج للخروج برؤية مشتركة إصلاحية وفق ثوابت ضامنة للجميع ويشترك بها الجميع من حيث المشتركات البيئية والثقافية، خاصة أن الخليج منطقة تشتهر بالقبائل، وتحتاج رؤية تتناسب وهذه التركيبة من جهة لكنها لا تكرس العصبيات، وفي ذات الوقت تنهض بمفهوم المواطنة على حساب مفهوم القبيلة.
- تفعيل عمل مؤسسات المجتمع المدني لتنهض بوعي المواطنين بحقوقهم وواجباتهم وآليات ممارستها وفق مفهوم الدولة الحديثة، فلا يكفي وجود نظام ديموقراطي بل من مقومات نجاحه وجود وعي اجتماعي بوظيفته الديموقراطية وكيفية تطبيقها وممارستها على أرض الواقع، وهذه مهمة تتقاسمها الدولة مع مؤسسات المجتمع المدني لتتضافر الجهود في سبيل السير قدما على طريق الاصلاح الحقيقي.
في المقدمة ذكرت رؤية هابرماس للدولة، وهي رؤية تجد أن إدراك الشعوب لمفهوم المواطنة ولحقوقها ومفهوم المشاركة السياسية، وممارسة هذا على الأرض الواقع يعتبر من أهم مقومات الديموقراطية الحقيقية، حيث لا يكون هناك فجوة بين النظرية والتطبيق، وهو ما يستدعي تأسيس البنى التحتية لتلك الشعوب تأسيسا بنائيا معرفيا قابلا للتطبيق على أرض الواقع، وتأسيس يحمل قابلية الاستمرار والتطوير وهو ما يستدعي انتزاعه من مجالنا البيئي والثقافي ومحاولة تفعيله في وعي الشعوب.
هذا فضلا عن إشراك الشعوب في تقنين القوانين حتى نستبعد التحيزات الذاتية للمقنن، سواء كان الحاكم نفسه أو من يتبعه من المتخصصين، فيكون بذلك القانون أشمل وله قابلية التطبيق على الجميع.
[1] يورغن هابرماس ـ جوزيف راتسنغر، تعريب وتقديم حميد لشهب، جدلية العلمنة، العقل والدين، جداول، كانون الثاني ـ يناير ٢٠١٣، ص ٥٢/٥٣.
[2] مصدر سابق ص ٦٢،٦٣.
[3] 2003,362_382 31,Leviathan,enspositivismusunkhorst, Der Lange Schatten des Staatswll H
[4] العروي، مفهوم الدولة، ص٩١.
[5] أ أحمد شهاب، الحداثة المغلولة مفارقات الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية، التنوير، ٢٠١١، ص ٤٥.
[6] جعفر الشايب، تأملات في الخطاب الإصلاحي السعودي، www.aljazeera.net
[7] أحمد شهاب، الحداثة المغلولة مفارقات الدولة والمجتمع في الخليج والجزيرة العربية، التنوير، ص ١٤٨.
[8] جورج سباين، تطور الفكر السياسي: ٥٥٠، ٥٥٢، ٥٥٤، ٥٥٦،٥٥٧، ٥٦٣.
[9] أ حمد شهاب، صدر سابق، ص ٢٦.
[10] قيمان الغامدي، الحوار الوطني: أنا والآخر السعودي، جريدة الوطن السعودية، العدد ١٦٧١، ٢٠٠٥.