- المبحث الأول: المظالم التاريخية
- أولا : الدور البريطاني في تعزيز الفرز الطائفي
- ثانيا : الأغلبية السكانية وصعوبة تغيير الواقع
- ثالثا: البحث عن الشرعية بين الأقلية الحاكمة والأكثرية المحرومة
- المبحث الثاني: الفرز الطائفي في دولة الاستقلال
- أولا: العلاقة التطورية بين الشيعة والدولة
- الطور الأول من 1971–1980
- الطور الثاني من 1980-2001
- الطور الثالث من 2001-2004
- ثانيا: البناء الهيكلي للدولة
- المستوى الأول: التمثيل في الحكومة
- المستوى الثاني: التمثيل في الوظائف العليا
- المستوى الثالث: التمثيل في المؤسسات السياسية
- تفاعلات النظام السياسي مع الطائفة الشيعية في ظل المشروع الإصلاحي
- المبحث الثالث: الممارسة العملانية
- أولا: مجلس النواب
- ثانيا: سلوكيات الأجهزة الأمنية
- الخاتمة: التسلطية التنافسية تكريس المشيخة وإلغاء المواطنة
- الهوامش
تتميز البحرين عن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بسمتين اثنتين: الأولى، أن التركيب الطائفي فيها مخالف لما في هذه الدول، فأغلبية سكان البحرين هم الشيعة، والسنة يمثلون الأقلية. أما السمة الثانية، فهي أن الحراك السياسي وتحرك المعارضة في البحرين يعد الأقدم والأنشط بين تلك الدول. ومع أن التيارات الليبرالية واليسارية شاركت في المعارضة، إلا أن الشيعة كانوا يمثلون مادة المعارضة الرئيسية، ومحركها الأساسي وهذا يرجع بالأساس إلى الكثرة العددية للشيعة من جهة وتعرض قطاع واسع منهم لتمييز وتحويلهم لضحايا ومواطنون من الدرجة الثانية. وبالرغم من أن علاقة الشيعة بنظام الحكم يجب أن تكون على أسس مواطنية ودون تمييز أوفرز طائفي إلا أن نظام الحكم في البحرين استمر منذ تأسيسه على انتهاج سياسة متوترة تتخذ من التهميش والإقصاء والاستبعاد الاجتماعي في علاقاته المتنوعة مع القطاعات الشيعية واعتبارها الاستراتيجية الوحيدة التي تمكنه من الاستمرار في الحكم والاحتفاظ بمصادر الثرورة والقدرة على توزيع القوة. مثل هذه العلاقة المتوترة أوبعباردة أدق انفراد النظام السياسي في خلقها وتوفير فرص لزيادة جرعاتها، ظلت ثابتا من ثوابت صنع السياسات الاجتماعية والسياسية في البحرين منذ فترة طويلة ليس أقلها منذ استقلال البحرين سنة 1971 رغم أن الشيعية والمؤسسات الاجتماعية الشيعية قد شاركت في الاستفتاء الذي أجرى سنة 1970 من قبل الأمم المتحدة وصوتت على عروبة البحرين وقيام دولة مستقلة عن إيران يحكمها ال خليفة. ورغم مشاركة القطاع الشيعي الديني في انتخابات المجلس التأسيسي سنة 1973 وانتخابات المجلس الوطني سنة 1974 في ظل تصاعد دعوات المقاطعة لكل من المجلس التأسيسي والمجلس الوطني من قبل لاتيارات اليسارية والقوى المعارضة.
لقد ظل النظام السياسي يشيع عن نفسه أنه نظام عربي حرر البحرين من الاحتلال الإيراني سنة 1783 وصاغ هذه الرؤية تحت شعار مثير للالتباس هوشعار فتح البحرين وإسباغ لقب الفاتح على الجد الأعلى لعائلة آل خليفة الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة. وكان من تداعيات هذه الأسطورة المؤسسية (مع الاسف أن هذه الاساطيير المؤسسة ظلت راسخة حتى الوقت الحالي) أن اعتبر آل خليفة أنفسهم فاتحين لأراضى محتلة وأنهم يمتلكون الحق الشرعي فيها وعلى من فيها وهوما عبرت عنه رسالة الشيخ محمد بن خليفة (1846-1867) للمعتمد البريطاني حيث قال “ إن البحرين ملك ورثناه عن أجدادنا”. في حين أن البحرين مع خضوعها للإدارة الإيرانية لفترات متقطعة كانت تحكم وفق نظام مزودج يسمح بالإدارة المحلية كنظام سياسي يدين بالتبعية لإيران وذلك وفق السياسة القائمة في تلك الفترات وهي الأسباب نفسها التي جعلت حاكما من آل خليفة سنة 1845 أن يرفع العلم الإيراني في البحرين ويدين بالتبعية لإيران للخروج من تهديدات الوهابين في السعودية وللتخلص من الضغوط البريطانية.
لمزيد من فهم حق الاحتكار والتملك وتعزيز الرؤية العسكرية لدى النظام السياسي في البحرين فمن المهم استعادة جذور التاريخية للهويات المقاومة والهويات المهيمنة وعناصر فرزها المتجدد من خلال ما يعرف بالأساطيير المؤسسة لنظام الحكم والتي يعبر عنها عبد الهادي خلف بموروث الفتح إشارة إلى تمسية عملية الاستيلاء على البحرين من قبل تحالف قبائل العتوب سنة 1783 بفتح البحرين والاستمرار بالتذكير بهذه العملية بشكل دائم عبر تخليد لقب الفاتح على أكثر من مؤسسة دينية واجتماعية وجعل ذلك بمثابة ترميز ثقافي خاص بنظام الحكم ضد السكان الأصليين. وفي الواقع لقد أرست حوادث عديدة تاريخية ومعاصرة أسطورة أخرى ضمن الأساطير المؤسسية هي حماية النظام للوجود السني والتحدث باسمه وهنا يمكن الرجوع لثلاث مقاطع تاريخية تعزز هذا الإدعاء:
أرست حوادث عديدة تاريخية ومعاصرة أسطورة أخرى ضمن الأساطير المؤسسية هي حماية النظام للوجود السني والتحدث باسمه وهنا يمكن الرجوع لثلاث مقاطع تاريخية تعزز هذا الإدعاء:
الأول : قيام الأباء المؤسسين لنظام الحكم الخليفي في البحرين في وقت مبكر جدا من قدومهم الزبارة قبل 1783 بدعوة رجال دين سنة من الكويت وغيرها من المناطق للقدوم للزبارة وتكوين حلف سياسي ديني على غرار حلف الدرعية القائم بين الوهابية وآل سعود وذلك بالتزامن مع دعوة شخصيات تجارية للغرض نفسه.
الثاني : تكريس الصبغة الطائفية على نظام الحكم وممانعة الإصلاحات الإدارية التي قامت بها الإدارة البريطانية سنة 1923 حيث أبرزت الرسائل المتبادلة بين المعتمد البريطاني وبين الملك عبد العزيز بن سعود على حرص الإدارة البريطانية على ضمان تفوق السنة في البحرين وتهميش الوجود الشيعي فيها وأن الإصلاحات الإدارية ليس من شأنها تحقيق المساواة بين السنة والشيعة وقد عبر المعتمد البريطاني عن هذا القررا في حلفة تنصيب الشيخ حمد بن عيسى بعد عزل والده الشيخ عيسى بن علي الذي حكم البحرين قرابة الخمسين عاما.
الثالث : سياسة نظام الحكم في معاملة الشيعة منذ 1920 وتهميشهم إداريا وسياسيا وهوأمر زادت وتيرته بعد اندلاع الثورة الإيرانية سنة 1979 وما نتج عنها من تحولات دراماتيكية في منطقة الخليج العربي وظهور تيارات إسلامية ثورية طالبت بإسقاط النظام واسبتداله بنظام شعبي آخر. وما يثيره هذا التحول من تحليلات فإنه من المهم النظر لمثل هذه المطالب على أنها تشكل جزء أساسا من التراث السياسي في البحرين شاركت فيه مختلف القوى السياسية اليسارية والإسلامية بل وحتى القوى السنية أيضا، إلا أن النظام السياسي في البحرين تجاهل أساس هذه المطالبة وتعامل معها بمنظار طائفي استطاع من خلاله ربط القوى السنية الاجتماعية والسياسية به وهوما كرس البعد الطائفي كأحد المعالم الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي ويستمد شرعيته من خلالها. السؤال الذي يمكن طرحه بكثير من الحذر هوما الدور التاريخي الذي لعتبه الدولة في البحرين من أجل تحييد البعد الطائفي في عملية بناء الدولة، والارتفاع ؟ وبعبارة أكثر دقة، كيف تعاملت الدولة مع الهوية الجماعية والذاكرة التاريخية، هل كان جهد الدولة ومن وراءه جهد نخبة الحكم ينطلق ضمن رؤية حديثة وأساس تعاقدي؟ أم أن الهوية الجماعية والذاكرة التاريخية كانت سلاحا وأداة من أدوات صراعها مع الفئات المعارضة من أجل فرض الهيمنة عليهم وإضعاف مشاريعهم السياسية وتوليد حالة من الخوف والريبة ونزع الثقة بين المجموعات السياسية وبين الناس؟
المسار التاريخي الذي على أساسه تشكلت الدولة الحديثة في البحرين لا يحتوى على شواهد كافية لتبرئة الدولة من لجوءها المبرمج إلى التحكم والسيطرة في صياغة الهوية الجماعية وتسييس الذاكرة التاريخية والاستفادة من نتائج ذلك كله في تكريس الفرز الطائفي. وبالمثل فإن السياسات غير المكتوبة وشبكات الزبائنية الطائفية والسياسية، أدت في النهاية لتغييب اي اثر فعلي لشعارات التسامح وقوانين المواطنة بحيث لا يمكن الحديث عن المواطنة إلا من خلال المواطنة المنقوصة.
خطورة هذا المسعى تظهر عندما تلجأ السلطات إلى مصادر حقوق الهوية الجماعية وتفرض نمط محدد من الشعور الوطني تقيس على أساسه كمية الولاء للدولة وتحدد من خلالها معايير الانتماء للوطنية. إن غاية الهيمنة التي مورست طوال عقود من الزمن لا تقتصر على التلاعب بالجماهير للتفكير وفقا للسبل أوالطرق المقررة داخل مؤسسة العرش أوبلاط الحاكم، ولكنها تتطاول لكي تضع محددات على عملياتها التفكيرية من اجل إضعاف الإيديولوجيات المناؤئة لها، ومن أجل تهميش ونزع الشرعية عن التنظيمات السياسية المنافسة والبديلة من خلال تشويه رؤيتها ومصادرة حقها في التعبير بما يجعلها غير مستساغة للناس.
تهدف هذه الدراسة لتعرف على واقع سياسة الفرز الطائفي في البحرين وهل هي ضمن السياسيات العامة للدولة ومنهجية ضمن منهجيات إدارة الحكم أم أنها تقع ضمن مخرجات الأنظمة التقليدية المشحونة بموروث الاستقطاب والانقسام الإثني والطائفي وترى الدراسة أن سياسيات التنوع الطائفي في البحرين اعتمدت مسارين متضادين هما المسار الهيكلي المتجه نحوالبنية الدستورية والقانونية والمسار الثاني الاستراتيجيات غير المكتوبة والقائمة على أسس الزبائنية (Clientelism) والسلطانية المحدثة (Neopatrimonialism) وهي الأطر المفهومية التي تنتظم من خلالها الدولة القائمة في مرحلة ما بعد الاستقلال بما أدى لأن تكون سياسات إدارة التنوع الطائفي سببا رئيسا لإثارة التوترت السياسية المستمرة من عقود، حيث قادت تلك السياسات مكونات المجتمع البحريني لمزيد من التهميش والاسبتعادوالاستعداد الضمني للدخول في ما يعرف بالهويات المقاومة وهوما جعل من الانقسام الطائفي (السنة والشيعة) حقيقة مجتمعية، وهوما انعكس في التخوف من معارضة النظام، لأن معارضة النظام تعني الاصطفاف مع الشيعة، وتأييد أي من سياساته يعني الاصطفاف مع السنة. ولم تعد المعارضة للموالاة مرتبطة بنظام سياسي فقط، وإنما امتدت إلى نظام اجتماعي واقتصادي. ويزيد من خطورة التحدي الداخلي في البحرين الدور الخارجي، وخاصة من جانب بعض القوي الإقليمية التي تصطف خلف طرفي الصراع الداخلي دعما لمصالحها ونفوذها الإقليميين.
تثير مسألة الأغلبية العددية مقابل الأقلية العديد من الإشكاليات السياسية والاجتماعية، إلا أن أبرز تلك الإشكاليات هوما يتعلق بتناسب الحقوق مع النسبة العددية، فالأكثرية العددية لها الحق في تشكيل الحكومة ولها الحق في السيطرة على توزيع الثروات ولكن من دون أن تهضم حقوق الأقليات الأخرى أوتستخدم أغلبيتها في نسج علاقات قوة واستبعاد exclusion للآخرين . يشكل الشيعة الفصيل الأكبر من ضمن الفصائل الطائفية داخل النسيج البحريني الذي لا يتعدى تعداده 656,397 ألف نسمة ، حسب تقدير يوليو/تموز 2002.
بالرجوع إلى الكتابات التاريخية، خصوصا تلك المتعلقة بالتاريخ السياسي للبحرين، ثمة إجماع على أن الشيعة كانوا يشكلون الأكثرية(2)وما زالوا ذلك، وهذا لا يلغي الطابع التعددي الذي هي عليه البحرين. فيذكر صاحبة التحفة النبهانية أن سكان البحرين قبل استيلاء ال خليفة عليها عام 1783 كانوا من الشيعة(3)، بدورها كانت هذه النسبة(العددية) تقف خلف العديد من المشاكل السياسية بين الشيعة ونظام الحكم. لقد شهدت التّركبية الإثنيّة للبحرين، منذ نهاية القرن الثامن عشر، تأثيرات كبيرة ومفارقة. حيث استقبلت هجرات استيطانيّة واسعة من جهة المجموعات الكبيرة من القبائل العربيّة التي تحالفت مع قبيلة آل خليفة، أووجدت حماية ودعماً لها، كما في حال قبيلة الدّواسر الذين استوطنوا البحرين منذ العام 1846 (4)، واحتلّوا مكانة اقتصادية كبيرة بفعل حماية الشّيخ عيسى بن علي الذي حكم البحرين في الفترة (1869-1923) لهم بوصفهم حلفاء ومدعومين من قبله(5). وفي المقابل، فقد هاجرت من البحرين – في هذه الفترة – مجموعاتٌ كبيرة من السّكان القدماء باتجاه السّاحل الشرقي، أوالمنطقة الشّرقية للجزيرة العربية، وفي فتراتٍ أقدم، كما في حال الغزوالعماني للبحرين سنة 1713م، أوبعد استيلاء آل خليفة على البحرين سنة 1782م.
من ناحية تحليلية، حيث التركيز على نمط العلاقة السائدة بين أطراف التنوّع والقواعد التي تحكم هذه العلاقات – يمكن القول بأنّ هناك تسلسلاً هرميّاً أوشكلاً تراتبيّاً كَفَل تفوّق فئاتٍ معيّنة على أخرى، كما سنرى لاحقاً. أمّا المسارات التي تنتهجها فئاتُ التنوّع؛ فهي تختلفُ من فئةٍ الى أخرى. على قمّة الهرم، تتفوّق فئةُ العائلة الحاكمة بخيارٍ استيلائي، مبلورةً أيديولوجية ضمنيّة تُؤمن بالتّعايش، ولكن مع عدم المساواة. فهي لا تفصلُ نفسها عن المجتمع والجماعات الأخرى، إلا أنّها في الوقت نفسه لا تقبل مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات السّياسيّة والمدنيّة. في حين أن الجماعات السّنيّة تندمجُ مع النّظام السّياسي اعتقاداً منها بوجود مصالح مشتركة، أوالإحساس بالخطر المشترك. في مقابل ذلك، تميلُ الجماعات الشّيعيّة إلى سلوك التّعدديّة، والاحتفاظ بخصوصية كلّ جماعةٍ، مع المساواة في الحقوق السّياسيّة والمدنيّة.
فقد اختلف المجتمع الشيعي عن نظيره المجتمع السني من حيث علاقته التاريخية بالدولة. فالأخير اعتبر الدولة حاضنة له ولها حق الإشراف على تكويناته الثقافية والاجتماعية، في حين أن المجتمع الشيعي لا يزال ينظر إلى الدولة على أنها تشكل خطرا وتهديدا لهويته وخصوصياته العقائدية والثقافية بل والاجتماعية.
انعكس ذلك محليا في جوانب مختلفة إلا أن أبرزها هوتحالف النخبة الحاكمة مع طبقة التجار من أهل السنة وهوتحالف منع آل خليفة من التدخل المباشر في اقتصاد اللؤلؤ حيث ينخرط فيه أغلبية زعماء القبائل السنية مقابل التدخل المباشر في اقتصاد الزراعة والصيد الذي يشكل قطاعا خاصا بالسكان الشيعة(6).
وكان من الطبيعي أن تؤثر تلك التحالفات في الاقتصاد الحديث سواء في شكله الكلي المتعلق باقتصاد الدولة وكمية الخيرات العامة فيه، أوفي شكله الجزئي القائم على الوكالات التجارية وقطاع الإنشاءات. إذ تشير المعلومات المتوفرة إلى قيام النخبة الحاكمة باحتكار توزيع تلك المنافع على فئة واحدة هي الفئة المتحالفة معها تاريخيا وسياسيا. ففي العشرينات كان قطاع التعليم الرسمي لا يسمح باختلاط السكان الشيعة مع أقرانهم من أهل السنة كما لم يسمح لهم بالانخراط في جهاز الشرطة، وفي الثلاثينات كانت هناك مطالب شيعية تقدم بها الزعماء الشيعة للحاكم من ضمنها إلغاء التمييز في توظيف عمال شركة النفظ “ بابكو”(7). ومع تطور أجهزة الدولة البيروقراطية والإدارية وتشكيل الدولة المعنية بتقديم خدمات عامة للمواطنين تبين أن مستوى الخدمات غير متكافئ بين المناطق فظلت القرى مستبعدة من الخدمات الصحية والتعليمية والإنشائية. أما على مستوى الوكالات التجارية والإنشاءات التي كانت تمثل عصب الاقتصاد الجزئي فإن أكثر تلك الوكالات آلت إلى شخصيات مرتبطة بالنخبة الحاكمة وكثيرا ما كانت مناقصات الإنشاءات ترسوعلى شركات ومؤسسات محددة ومعروفة سلفا.
وإذا ما صرفنا النظر عن الأدبيات الشيعية الخاصة فإن كثير من التقارير الإدارة البريطانية كانت تؤكد على وجود اضطهاد وإقصاء بحق الشيعة من قبل العائلة الحاكمة. وكان جي .ج. لوريمر قد استند إلى بعض تلك التقارير في كتابه دليل الخليج في توثيق تلك الحالة حيث بدأت بالظهور بشكل فج بعد الحرب الأهلية التي دارت بين أفراد عائلة آل خليفة سنة 1867(8)أي بعد مرور ما يقارب من ثمانين سنة على استيلاء آل خليفة على جزيرة البحرين. وربما أمكن تفسير ذلك بسيطرة آل خليفة المطلق على الأراضي وتوحيد حكمهم تحت شخص واحد. كما يمكن التوصل إلى تفسير أكثر معقولية عند القبول بأن الفترة التي تلت الحرب الأهلية التي درات بين أبناء سلمان وعبدالله آل خليفة (1840-1867) كانت بداية في الوقت نفسه لنشوء حكم مركزي حاول أن يخضع الأطراف والمناطق الأخرى لسيطرته عبر طرق الإكراه والضغط السياسي، وكان من ضمن أدواته العنف والسخرة ومصادرة الأراضي وفرض ضرائب محددة على السكان الشيعة. ويصف لوريمر واقع الشعية قبل 1900 بقوله “يقوله لوريمر في نهاية حديثه عن سكان البحرين ”الإمارة” إذ يقول “ومع أن البحارنة من حيث العدد هم أقوى طبقة إلا أنهم لم يكونوا مهمين من الناحية السياسية، وفي الواقع كان وضعهم أحسن قليلاً من وضع العبودية، وفي أيديهم معظم زراعة النخيل والزراعة في الجزر، ولكنهم أيضاً يعتمدون أقل من إخوانهم السنة على صيد اللؤلؤ وعلى أعمال ملاحية أخرى” (9).
لا شك أن عملية ضخمة مثل احتلال جزيرة بأكملها واستبدال أنظمتها السياسية والاجتماعية كانت تستدعي الكثير من الجهد في عزل السكان الأصلين واستخدامهم في أعمال سخرة، لذا كان الشيعة يتعرضون لكافة أنواع التمييز والاضطهاد حتى مطلع العشرينات من القرن الماضي ،حيث بدأ الشيعة برفع عرائض تظلم وكتابة الشكاوي احتجاجا على أوضاعهم السيئة. ففي عام 1921 تقدمت 50 شيعية شخصية بارزة برفع عريضة للمعتمد البريطاني تطالبه بتطبيق الإصلاحات ويتكرر المشهد نفسه في ديسمبر من العام نفسه مع المطالبة بالحماية البريطانية لتلك القوى وفي يناير 1922 وقع الشيعة عريضة تؤكد على وجود تمييز واضح ضدهم(10)، حيث كانوا محرومين من التمثيل في القضاء وفي المجلس العرفي وسائر إدارات الدولة آنذاك. لهذا وقف الشيعة بجانب الإصلاحات الإدارية التي أدخلتها الإدارة البريطانية بشكل متعسف بعد أن رفض حكام البحرين تعديل أوضاعهم السياسية وفضلوا البقاء في المجال القبلي والتعامل مع الشيعة بمنظور العبيد الذين يجب عليهم أن يظهروا السمع والطاعة للأسياد القادمين من خارج الجزيرة.
كان أداء الإدارة البريطانية كسلطة احتلال يعزز من واقع تهميش الشيعة ومصادر حقهم السياسي وكان واضحا إصرار الإدارةالبريطانية على إبقاء أوضاع التراتيبية السياسية وضمان تفوق آل خليفة وبالتالي تفوق أهل السنة. فبعد أن عزلت الإدارة البريطانية حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي على خلفيات عديدة منها تهميشه للشيعة وتعرضهم للاضطهاد، تبين أن الإدارة البريطانية استغلت تلك الأوضاع السيئة لترتيب أوضاعا سياسية أخرى تتناسب والمصالح البريطانية المتطورة في المنطقة. وقد أعلن المقيم البريطاني كوكس ذلك صراحة في الاجتماع الذي عقد لتنصيب الشيخ حمد بن عيسى حاكما على البحرين بعد عزل أبيه الشيخ عيسى وكانت هذه الصيغة هي التي وجهها الكابتن نوكس knox في تاريخ 26 مايو 1923 إلى الطائفة الشيعية إذ قال”إن معظم التوتر الذي شهدته البلاد مؤخرا كان مصطنعا .. يجب ألا تتوقعوا مساواتكم بالسنة بشكل تام”. في نفس المضمار ويعلق الميجر ديلي على ذلك بقوله “خابت الآمال التي علقها الشيعة على الإصلاحات”(11)، عندها فهم الشيعة أن آمالهم التي علقوها على الإصلاحات الإدارية قد خابت وأن أوضاعهم المهمشة سوف تبقى وهوما دفع بزعماء الشيعة إلى البحث عن استراتيجيات جديدة في العمل السياسي، تضمن له حصة من التمثيل السياسي والإداري داخل الدولة الفتية.
وفي مقابل الموقف الشيعي الباحث عن أطر دستورية وسلمية للعمل السياسي وأطر قائمة على الاحترام المتبادل وأسس المواطنة، كان الموقف السني ممثلا في عدد من زعماء القبائل المتحالفة مع الحاكم المعزول عيسى بن علي موقفا مثيرا للريبة حيث اعتبروا التشيع نوعا من الهرطقة وبالتالي لم يبذلوا جهدا في رفع الظلم عن الشيعة أومساندة مطالبهم بالمساواة ولم تكن الحوادث التي تجرى على الشيعة من الظلم والتعسف من قبل الحكم القبلي تحرك فيهم الرغبة للتعاطف اوالمساندة فقد فرضت ضرائب خاصة على الشيعة وحدهم مثل ضريبة الرقبة وبساتين النخيل وضريبة السمك وبدأ للكثيرين من السنة في عام 1923 أن فكرة المساواة في جباية الضرائب تدخل بريطاني في الشؤون الداخلية” (12).
الجانب الذي تجدر الإشارة إليه هنا كأساس تاريخي للفرز الطائفي هوفرض ضرائب خاصة على البحارنة مثل الرقابية وضرائب الري “دوب” وكان كل من تخلف عن دفع الضرائب تصادر أملاكه وتضاف إلى الأملاك العامة التي كانت تقع تحت سيطرة الحكم مباشرة، ولما كانت المعاملة المتبعة في فرض الضرائب تخضع لأهواء ما كان يطلق بالفداوية وحاكم المقاطعة فقد كانت كثير من الخيرات تصادر تحت حجة التخلف عن دفع الضرائب أوعدم القدرة على دفعها.
ويعتبر نظام المقاطعات واحدا من أكثر الأنظمة التي ألحقت ضررا كبيرا بواقع القرية البحرانية وتعرضها للمظالم. ويعمل هذا النظام على أساس أن الأرض ومن عليها ملك لحاكم المقاطعة ونتيجة لهذا النظام تمت مصادرة الأراضي والسيطرة عليها والتصرف في بيعها أوتأجيرها أوتضمينها من قبل حاكم المقاطعة للملاك الأصليين أوأشخاص آخرين وهكذا قسمت بساتين النخيل إلى مقاطعات متعددة يقوم بإدارة كل منها شيخ من آل خليفة وعلى العكس من ذلك تركت مصائد اللؤلؤ حرة للقبائل التي كانت تعمل بها. وترتبت على تفعيل هذا النظام العديد من الشكاوي والحكايات المنتشرة في القرى مثل أن تلك الأرض مغصوبة أوأن ذاك البستان مغصوب. ونتيجة لغياب العقود الموثقة كانت تظهر الممارسات التعسفية وتتم المصادرات بدون وجه حق، خصوصا وأن طريقة الترافع واللجوء إلى القضاء لم تكن متوفرة ولم يكن هناك نظام قضائي واضح فكل القضايا إذا ما قرر أن ينظر فيها ترفع إلى الحاكم مباشرة ليحكم فيها وهنا يطلب من الأهالي الإثبات وهم لا يمتلكونه أصلا لانعدام العقود أوقلتها أولعدم اعتراف النظام بعقود الفترات الماضية، والنتيجة هي انتقال الملكيات من الأهالي إلى الشيوخ أوحلفائهم. وعلى هذا الأساس يمكننا القول إذا ما قرر أحد فتح باب المناقشة والجدال في الطريقة التي تمت بها مصادرة خيرات القرى لصالح القادمين، فإن الكثير الأراضي الشاسعة المسجلة بأسماء عائلات وملاك كبار هي أراضي لا تمتلك صكوك بيع أونقل ملكيات سوى أنها كانت تصدر كهبة من الحاكم آنذاك. وعندما قامت الإدارة البريطانية بالتعاون مع الحكومة المحلية بمسح الأراضي وتحديدها في سنة 1924 كان الكثير من الشيعة لا يمتلكون وثائق ملكية للأراضي التابعة لهم وخشية من تحويلها إلى أراضي دولة أوالسيطرة عليها من قبل أفراد العائلة الحاكمة لجأ العديد منهم إلى تحويل أراضيهم إلى أوقاف دينية تخص شعائر دينية خاصة بالشيعة وانتقلت مساحات أخرى إلى ما يعرف بالمآتم أوالحسينيات.
في بداية العشرينات قاد أعيان الشيعة وأهالي القرى حملة ضغط قوية لإجبار الشيخ عيسى بن علي بقبول نظام الإصلاحات الإدارية الذي اقترحته بريطانيا وكان الهدف من ذلك الضغط هوحماية ما تبقى من خيرات القرى وحقوق الأهالي وحماية القرية البحرانية من التآكل، وبفعل حملة الضغط هذه قامت بريطانيا بعزل الشيخ عيسى بن علي وتعين أبنه حمد مكانه على شرط القبول بالإصلاحات الإدارية ومن ضمنها إلغاء السخرة والضرائب المفروضة على الشيعة.
رغم قناعة البريطانيين بوقوع التمييز ضد الشيعة وأن الأمور التي تجرى عليها السياسة في البحرين غير مقبولة دوليا إلا أنهم تعهدوا سرا وعلانية بالحفاظ على تفوق العائلة الحاكمة ومن خلفها الوجود السني في البحرين فقبل عزل حاكم البحرين عيسى بن علي سنة 1923 أرسل الملك سعود بن عبد العزيز إلى المقيم البريطاني ترنفور رسالة يسأل فيها عن حقيقة الإصلاحات ما ستؤول إليه أوضاع الشيعة في البحرين وانعكاس ذلك على الشيعة في القطيف والإحساء وكان الجواب حاسما جدا من قبل ترنفور حيث أكد أن الإصلاحات الإدارية سوف تحافظ على الوجود السني وتفوق العائلة الحاكمة على سائر الفئات الاجتماعية. وعندما تم عزل الحاكم بحضور ممثلين عن الطوائف والأعيان سنة 1923 توجه المقيم البريطاني إلى الأعيان الشيعة وحذرهم من الخروج على الحاكم الجديد أوالمطالبة بأية إصلاحات أخرى خصوصا فيما يتعلق بمعاملتهم سواسية مع أفراد العائلة الحاكمة. منذ ذالك الحين والشيعة يبحثون لهم عن مؤطي قدم في مؤسسات الدولة المغلقة على من دخلها يوم أن دخل آل خليفة البحرين سنة 1782.
استمر الدور السياسي الشيعي متوقدا منذ العشرينات وظهر بشكل واضح وقوي في مرحلة الخمسينات إبان تشكيل الهيئة العليا(13)سنة 1953 حيث كان الشيعة يشكلون أكثر من نصف أعضاءها 120 شخصا ويمتلكون نصف عدد الهيئة التنفيذية فيها المكونة من ثمانية أشخاص.
وقد سبق مشروع الهيئة العليا مشروع حركة 1938 الذي جاء في خندق الانقسام الطائفي ففي الوقت الذي لم يتحرك القطاع السني لكونه صاحب الامتياز تحرك القطاع الشيعي مطالبا بالتمثيل النسبي في مجلس التجارة والبلدي وتوفير المدارس التعليمية للبحارنة الذين حرموا منها.فقد وقع الشيعة رسالة بتاريخ 30/12/1934 تتناول هذه المطالب، وفي صيف 1938 صاغ البحرانة مطالبا جاء فيها “تتألف الهيئة التشريعية من ثلاثة أعضاء من السنة وثلاثة من الشيعة وان تكون برئاسة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة”وبينما كانت حركة الإصلاح تأخذ حجمها الشعبي أقدمت السلطة على مغازلة الشيعة ومنع تكوين تحالف شيعي /سني يتقدم بمطالب مشتركة للحكومة.(14)
يؤكد اسحاق الخوري في دراسته الرائدة عن البحرين أن انخراط الشيعة في أجهزة الدولة واجه عقبات عديدة على رأسها موقف النخبة الحاكمة من الطائفة الشيعية ويبين أن الدولة التي تأسست منذ العشرينات لم تستطيع أن تكون دولة حاضنة لجميع الفئات التي يتكون منها المجتمع البحريني وبالأخص الفئات الشيعية التي ظلت محرومة من التوظيف في المراكز الحساسة والمناصب العليا داخل الدولة. (15)
رغم أن العديد من الدراسات تؤكد أن الشيعة في البحرين يمثلون الأغلبية المطلقة (60 إلى 70 %) حاليا وقديما، إلا أن الحكومة لا تزال تصر على أن الشيعة يمثلون أقلية عددية. وجهة نظر الحكومة تقوم على أن الشيعة يمثلون ما نسبته 20% تقريبا ولهذا فهم يشغلون هذه النسبة في المؤسسات الرسمية والمناصب العليا، فمجلس الشورى ومجلس النواب يمثل الشيعة فيهما حوالي 20% إلى 35% على التوالي ونسبة تمثيل الشيعة في الحكومة تقترب من حاجز 20% أيضا، أكثر من ذلك فإن قانون توزيع الدوائر الانتخابية المعمول به حاليا صمم على أساس أن يكون تمثيل الشيعة في مجلس النواب قريبا من النسبة الرسمية بحيث لا يصل تمثيل الشيعة أكثر من 40% حتى ولوكانت الكتلة الانتخابية تعادل ما نسبته 70% من الشيعة.
بناءا على ذلك يمكن لنا أن نفهم خطورة مسألة الأغلبية والأقلية، كأدوات سياسية تستخدم من أجل تمرير مجموعة كبيرة من الأغراض السياسية على رأس تلك الأغراض مسألة شرعية نظام الحكم ومشروعية السياسة المتبعة في التعامل مع المواطنين من حيث درجة المشاركة السياسية ونسبة الحقوق مقابل الواجبات السياسية وفيما يتعلق بتوزيع الثروة الاقتصادية وتقديم الخدمات الإنمائية والتنموية للمناطق السكانية. بل إن لها دور خطير في صياغة الذاكرة التاريخية والهوية الجماعية. وفي الواقع فإن العديد من المشاكل السياسية ظلت عالقة لكونها مسائل تتطلب وضع حلول عملية وواقعية لمسألة الأكثرية والأقلية وتلبية استحقاقات مترتبة عليها.
ما تواجهه حكومة البحرين هوأن حكاية الأقلية الشيعية لا تلقى رواجا كبيرا عند مراكز الأبحاث ولا عند مراكز صناعة القرار، حيث تشكل حقيقة الأغلبية الشيعية مأزقا سياسيا واجتماعيا للنظام السياسي، فالعديد من الضغوط الخارجية تأخذ بهذه الحقيقة وتطالب الدولة بعدة أمور منها ضمان حقوق الأكثرية الشيعية السياسية والاجتماعية واحترام خياراتهم الاجتماعية والسياسية.
لكي يتخلص النظام السياسي من تلك الضغوط لجأ إلى إتباع استراتيجيات مختلفة طوال العقود السابقة، لكنها تصب في مصب واحد، هوإلغاء أي أثر للأكثرية الشيعية، في محاولة للتخلص من تلك الضغوط ومحاولة للتهرب من الاستحقاقات المترتبة عليها، مثل أن الشيعة مرتبطون بإيران، أوأن الشيعة أقلية غير مؤهلة لتسلم مناصب عليا بحكم أنهم من أهل القرى أوالأرياف، أوأن الشيعة لا يعانون من أي تمييز أواضطهاد سياسي..إلخ.
تقوم الإستراتيجية الحديثة على إحداث ثغرة في التاريخ الاجتماعي والديمغرافي بهدف إعادة كتابة التاريخ وإعادة مواضع التشكيلات السياسية والاجتماعية في البحرين. وبالتالي فنحن أمام مهمة يراد لها أن تأخذ عمرا زمنيا غير قصير مهمة تأخذ على عاتقها تكوين ذاكرة جديدة وتطويع الذاكرة التاريخية لخدمة أغراض سياسية محددة .
ويمكن هنا إبراز ثلاث آليات رئيسية تعمل من خلالها الإستراتيجية الأحدث لمواجهة استحقاق الأغلبية الشيعية وهذه الآليات كالأتي:
-1 التشكيك في النسبة العددية التي شكلها الشيعة في البحرين تاريخيا.
-2 العمل على إحداث تغيير صناعي في التركيبة السكانية وإلغاء الأكثرية العددية.
-3 رفع شعار المواطنة المفتوحة، كإطار مناقض للتقسيم الطائفي.
الخطوتين الثانية والثالثة هي خطوات عملية تمت مباشرة العمل بهما منذ فترة طويلة وقد كشف تقرير البندر جزء من تلك الخطوات سواء في التجنيس السياسي أوفي مواجهة المعارضة الشيعية ووصمها بالطائفية أوغيرها من الأوصاف السلبية عند محاولة المعارضة طرح ملفات التمييز والحقوق السياسية.
منذ فترة بدأت بعض الدعايات والأقلام تدعوإلى إعادة النظر في تاريخ التركيبة الاجتماعية للبحرين وتقوم تلك الدعاية على أن الشيعة (ربما) يمثلون الأكثرية حاليا، لكنهم كانوا أقلية طوال الفترات الماضية. أما كيف شكلوا الأغلبية الحالية فيعود إلى جملة من الأسباب تتمحور حول زيادة نسب الولادة وارتفاع عدد الزوجات عند الشيعة. وهي أسباب لا تخلومن توجيه قدح للطائفة الشيعية في البحرين فارتفاع نسب الولادة أوعدد الزوجات يرتبط نسبيا بثقافة تقليدية ومعايير غير إنمائية، وبالتالي فإن الطائفة الشيعية في البحرين بعيدة عن معايير التحضر والتنمية البشرية، وهي طائفة تقترب من التخلف الحضاري والأساليب البدائية في التعامل مع المنجزات التنموية.
ومن جانب آخر لا يمكن التغافل عن جهود مضنية تبذل من قبل بعض الكتاب وبعض المؤسسات الإعلامية والجمعيات السياسية لتأكيد هذا المنحى، والعمل على إحداث فصل بين الشيعة ومرجعيتهم الدينية والسياسية تحت عنوانين مستهلكة وركيكة من قبيل الصفوية والتأثير الفارسي . ومؤخرا لجأ البعض إلى كتاب دليل الخليج لمؤلفه جي.ج. لوريمر لإثبات أن الشيعة كانوا أقلية في بداية القرن العشرين وتحديدا في سنة 1905، في خطوة لا تعتبر ذكية تماما لتأكيد أن تلك المقولات تمتلك شواهد وأدلة شبه موثقة(16).
إن بقاء مسألة الأقلية الحاكمة والأكثرية المحرومة عالقة بدون حلول عملية يجعلها قضية مأزومة لا في ذاتها وحسب، بل حتى في كثير من التوترات السياسية والأمنية والخلل الاجتماعي داخل النسيج الاجتماعي للمجتمع البحريني.
بالاقتراب من واقع إستراتيجية الدولة في معالجة هذه المشكلة، لا نجد أن هناك رغبة جادة في مصالحة الحقائق والعيش معها بقدر ما نجد إصرارا لا مبرر له في تأجيج المشكلة والإبقاء عليها حاضرة وماثلة وكأن الدولة تريد أن تقول للأغلبية المواطنين أنني قادرة على إقصائكم وقادرة على الاستغناء عنكم وأنكم غير مرغوب فيكم.
لا يفهم من ذلك أن النخبة الحاكمة مهتمة جدا بالطائفة الأخرى، فأغلب النخب الحاكمة تهدف إلى ضمان بقاء وجودها وضمان احتكارها للموارد الاقتصادية وبحكم كون النخبة الحاكمة أقلية فهي ترهن وجودها واستمرارها بأقلية أخرى وتنسج تحالفاتها على طريقة مقيتة على شاكلة العلاقات الزبائنية، معنى ذلك أن النخبة الحاكمة لا تتحالف مع الطائفة السنية كطائفة مذهبية لحماية نفسها، وإنما تتحالف مع فئات مذهبية من عدة طوائف ومذاهب وتتعامل مع الجميع على أساس أنهم أقليات عاجزة عن المطالبة بحقوقها، وهذا ما يوسع قاعدة الأكثرية المحرومة ويجعلها تستند إلى أرضية وطنية وليس أرضية مذهبية.
وفي محاولة الهروب إلى الأمام تحاول الرؤية الرسمية أن تظهر نفسها على أنها على مسافة واحدة من الجميع، والتباهي بكونها قادرة على احتواء كل الأطراف، فهي لا تقوى على الإعلان عن صراعها الخفي والدائم مع الأكثرية في بعدها المذهبي وبعدها الوطني. وهي سياسة مخادعة تنكشف أمام بعض المعضلات والمفاصل السياسية، وكثيرا ما أشار المستشار البريطاني بلجريف في مذكراته إلى رغبة النخبة الحاكمة في إبعاد الشيعة وعدم الثقة بهم(17). والصحيح أن النخبة الحاكمة كانت ترغب دوما في إبعاد أي طرف يطالب بشراكة سياسية أويسعى لبناء دولة حديثة تحترم رغبات مواطنيها وتقدر وجودهم على هذه الأرض.
الهاجس الذي تروجه السلطة بشكل غير رسمي والذي يقترب من الخرافة هوأن الشيعة يسعون إلى الانقلاب على الحكم والسيطرة على الدولة وأنهم يرغبون في إتباع سياسة تطهير عرقي يستهدف أهل السنة والمذاهب الأخرى. وعند النظر إلى هذه الدعاوي سنجد أنها تؤدي مجموعة من الوظائف توفر بحسب وجهة نظر السلطة الحماية والضمان لبقاء النخبة الحاكمة وضمان تفوقها. ومن ضمن تلك الوظائف التي تؤديها تلك الخرافة:
– تحديد الطوائف الأخرى خصوصا أهل السنة عند وقوع مواجهة بين الأغلبية الشيعية وأدوات النخبة الحاكمة.
– التشهير بالأغلبية وسلبها حقوقها والاستمرار في حرمانها تحت ذريعة تهديد أمن الدولة أوتحت ذريعة عدم الولاء للدولة.
– الحصول على الدعم الإقليمي لكون النخبة الحاكمة تمارس جهدا وتعمل كحارس للحدود، يقدر على منع حدوث اختلال في التوازن السياسي.
– الاستفادة من وضعية التأزيم السياسي والأمني المرتبط بحقوق الأكثرية في تأجيل مشاريع الإصلاح السياسي ومحاولة تهديم عملية بناء الدولة الحديثة.
إذن ما الذي كان يزعج النخبة الحاكمة ويدعوها إلى الخوف من الأكثرية الشيعية وترويج الخرافات والأساطير السياسية عنها؟
لقد حاولت النخبة الحاكمة أن ترغم الأكثرية على القبول بالأوضاع غير الدستورية وأن تنخرط في قانون الحظوة القائم على استراتيجيات التمييز والإقصاء لكل من يختلف ويعارض السياسة القائمة. إلا أن مواقف الأكثرية المحرومة كانت تعارض مثل هذا الابتزاز السياسي وتصر على أن تكون الدولة القائمة دولة حديثة تستوعب وتحتوي على كل الاختلافات العرقية والمذهبية، وأن تكون طبيعة الحكم متصلة تماما بالديمقراطية التي تحترم رغبات وخيارات المواطنين أيا كانت. ولأن الأكثرية الوطنية والمذهبية كانت تطالب بتوزيع عادل للثروة والمناصب الإدارية والعليا في الدولة بدون استئثار أواحتكار، فقد وجهت تلك الأكثرية بمزيد من العنف وبمزيد من التمييز والإقصاء.
وفي الواقع لم يكن من أهداف مناقشة مسألة الأكثرية الشيعية البحث عن دوافع استقواء طائفي ضد طائفة أخرى، أوتكريس الانغلاق على النفس أوالعيش وسط الحقائق العالية عن الواقع، بقدر ما كان الهدف هوبناء دولة حديثة تقوم على صياغة ثقافة سياسية وإجماع وطني على الأساسيات وتشييد المؤسسات الشعبية والهياكل الدستورية والقانونية القادرة على دمج الجماعات العرقية والمذهبية كافة .
ومن دون شك لا يمكن إتمام بناء الدولة الحديثة خارج رضا أغلبية المواطنين وهوما يطلق عليه “الشرعية السياسية” لتكون الخدمات الأخرى مساندة ومعاضدة للشرعية السياسية وبذلك تكون الدولة قد وفرت كل من الشرعية والفاعلية. يقودنا ذلك إلى أن استبعاد وإقصاء غالبية المواطنين من الشراكة الحقيقية في إدارة الدولة والابتعاد عن بناءها على الطريقة الحديثة، من شأنه أن يؤدي إلى خلق مناخ محموم من الشك والريبة بين النخبة الحاكمة وبين المواطنين، وفي جانب آخر لا يمكن غض الطرف عنه هوتكلفة مثل هذه السياسة الإقصائية وما قد تجره من مواجهات واضطرابات أمنية تستنفذ موارد الدولة ليس في مواجهة حركات الاحتجاج فقط، بل وفي إعمال قانون الحظوة وتقريب بعض الفئات والصرف عليهم ملايين الدنانير من أجل الإدعاء بامتلاك الشرعية. وهذا أمر يسهل الوصول إليه عبر قراءة حجم الهبات والمكافآت والعطايا والمناصب التي يتم احتكارها لمجموعة قليلة، أويتم توزيعها على المقربين والموالين للنخبة الحاكمة.ومع إن حجم المستفيدين من قانون الحظوة والقرب ضئيل للغاية مقارنة بعدد المواطنين باختلاف فئاتهم، إلا أن تستهلك موارد الدولة وتستنزفها وتصرفها في وجوه لا طائلة منها، إذ لم تمنع هذه الفئة المستفيدة البلاد من الدخول في توترات أمنية وكساد اقتصادي وسمعة سيئة رافقت الدولة منذ تأسيسها حتى اليوم.
على هذا الأساس كانت الأكثرية المحرومة تصر على أن عملية بناء الدولة الحديثة تتطلب ضرورة الإسراع في التخلص من مفهوم حتمية الحصول على حق الغنائم وتوزيعها على المقربين والموالين، واستبدال ذلك بآليات دستورية وقانونية تحتكم إلى الكفاءة والمواطنية.
في إطار البحث عن سياسيات الفرز الطائفي والذهاب إلى أن هناك منهجية راسخة لدى نظام الحكم في البحرين، وجدنا في الإطار التاريخي مجموعة الشواهد المؤكدة على وجود منهجية فرز طائفي ووجود سياسيات مقررة سلفا في هذا الشأن. في هذا المبحث ندرس سياسة الفرز الطائفي في دولة ما بعد الاستقلال وكيف تعززت سياسة الفرز الطائفي في ظل مشروع الانفتاح السياسي الذي دشن منذ 2001.
حصلت البحرين على استقلالها في فترة صعود ما عُرف بدولة الرّفاه، وفي ظلّ اكتمال مشاريع التحرّر الوطني في الدّولة المستعمرة، ولذلك فإنّ ظروف بناء الدّولة على أسسٍ حديثةٍ وقريبةٍ من المواطنة الكاملة؛ كانت متاحةً وقويًةً، إلاّ أنّ دولة الاستقلال في البحرين لم تستفد من هذه الظروف في تحسين علاقتها بالفئات المجتمعيّة، ولم تبذل جهداً حقيقيّاً من أجل نسْج علاقةٍ مواطنيّةٍ كاملة. وباستثناء مرحلة زمنيّة لم تتجاوز ثلاث سنوات، هي عمر الحياة الدّستورية (1973-1975)، فإنّ الأوضاع العامة في البحرين اتّسمت بالفراغ الدّستوري، والاحتقان السّياسي والاشتباك الطّائفي، والارتباك الأمني. ومنذ منتصف السّبعينيات وحتى نهاية التّسعينيّات من القرن الماضي؛ واجهت البحرين أزمةً سياسيّةً حادّة، كان طرفاها النّظام الحاكم وقوى المعارضة. وقد ساهمَ في تعميقِ هذه الأزمة صدورُ العديد من القوانين التي فرّغت الدّستور من معظم ما احتواه من بنودٍ من شأنها أن تفسح المجال أمام حرّيات الرّأي والتّعبير والتّنظيم، فضلاً عن تصاعد مشكلاتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّة.
إخفاقُ النّظام السّياسي في البحرين في تحقيق نقلةٍ نوعيّةٍ في الاتجاه الدّيمقراطي؛ يرجعُ في أساسه إلى استراتيجيّة خاصة كان النّظام يلجأ إليها قبل الاستقلال، وهي هيْكلةُ النّظام على مفاهيم الطّوائف والجماعات، وليس على مفاهيم المواطنة. وقد أبقت الإدارةُ البريطانيّة على هذا النّموذج عندما هيمنت على دول المنطقة نهاية القرن التاسع عشر، وحتى انسحابها نهاية الستينات من القرن العشرين، وذلك بعد إبرام اتفاقيّات حماية رسّخت التّكوينات القبيّلة، وأسبغت عليها طابعاً شرعيّاً(18). وكلّ ذلك أعاق – في النهاية – اندماج مجتمعات هذه المنطقة في اقتصاد السّوق الحرّة، وبالتّالي أصبح الحديثُ ممكناً عن ديمقراطيّة اقتصادية، واستبداد سياسي مقنّن في الوقت نفسه.
هذا البناءُ جَعلَ الدّولة مبنيّة – أساساً – على ركائز متوتّرة، لم تستطع الحلولُ المؤقّتة، والمراوغاتُ السّياسيّة من التغلّب عليها. ليس هذا وحسب، بل إنّ تلك البنيّة أدّت إلى قيام نظام الحكم بانقلاباتٍ متكرّرة على المبادئ الدّستورية والممارسات الدّيمقراطيّة البدائيّة، والتي أقدمَ عليها في فتراتٍ متقطّعة. وفي المحصّلة، فإنّ المشهد السّياسي – وبافتقاده إلى المفاهيم والإجراءات الخاصة بتوزيع الدّيمقراطيّة – قد أسْهم في منْع التّراكم اللاّزم لتغيير علاقة المجتمع بالسّلّطة السّياسيّة وإعادة بنائها وفْق مفاهيم ديمقراطيّة، الأمر الذي حدَّ من قدرةِ الدّولة على تجاوز مشكلاتها السّياسيّة والاجتماعيّة من جهة، وترسيخ نموذج المشْيخة والميراثيّة (Patrimonialism) من جهةٍ أخرى. ويؤكد (Neil Partrick) على ان جهود احياء الهوية الوطنية في البحرين ظلت مركزة على سير وتاريخ الشخصيات السنية السياسية القريبة من الاسرة الحاكمة وان مشاريع الهويات الوطنية ظلت مستبعدة للطائفة الشيعية(19). وهذا يجعل من مشاريع الإصلاح السياسية عرضة للنقد الشديد من حيث قدرتها الفعلية على تحقيق اندماج وطني متاسك من جهة وقدرتها على استبدال الولاءات التقليدية بالولاء للدولة واعتماده أساسا لعملية بناء الدولة الحديثة.
وفي الواقع، فإنّ هناك انعداماً للقيمة السّياسيّة يتمّ وفقها تحديد المواطنة، وذلك بسبب بناء المواطنة داخل النّموذج (المشيخي/ الميراثي) على ما يسمى بمفهوم المواطنة العمودية (التّشطير العمودي)، والتي يكتسب الشّخصُ فيها مكانته وفقاً لهرميّة عشائريّة ومجتمعيّة، فينالُ الفردُ قيمته في الوجود نسبةً إلى أصله العرقي ومكانته الماليّة وطبيعة المهنة التي يشتغل بها. ومن الطّبيعي أن ينعكس ذلك على محتوى الحقوق والواجبات التي يفرضها الأمرُ الواقع على كلّ المنضوين في تلك الهرميّة(20).
كعادة أي إطار تاريخي فهويتكون من حوادث ماضية لا يمكنها إثبات ما يحدث حاليا وكأن هناك نوع من القطعية بين التاريخ وبين الحاضر. من هنا تبرز مسألة متابعة البحث ولكن تحت إطار تحليلي مختلف يتخذ من الوقائع الحالية ما يؤكد المسار التاريخي وبالتالي فإن الفترة ما بين 1971- 2010 تشكل منطقة مهمة لتأكيد أونفي منهجية الفرز الطائفي التي تأكد وجودها في الماضي إلا أن مسألة استمرارها تحتاج لشواهد صريحة خصوصا ونحن نتحدث عن مرحلة استقلال البحرين عن الإدارة البريطانية أي استقلالية القرار ووضع السياسات العامة من قبل حكومة مستقلة ومسئولة أمام شعبها وأمام المجتمع الدولي، خلافا للوضعية ما قبل الاستقلال حيث يمكن إرجاع سياسات الفرز الطائفي لمنهجية الإدارة البريطانية وخلوالحكومة لمحلية من تبعات تلك السياسات.تعود اصول تكوين الدولة الحديثة في البحرين لسنة 1923 حيث تم إدخال الإصلاحات الإدارية الأولى من نوعها وتم بموجبها تفعيل البيروقراطية كجزء من عملية تحديث سياسي مستمرةإلا أن هذه العملية ظلت راكدة ومحافظة في مخرجاتها حتى حصول البحرين على الاستقلال التام عن الإدارة البريطانية سنة 1971 لتبدأ مرحلة أخرى من التحديث والتطوير السياسي. الجانب المهم لدينا هوعلاقة الشيعية بالدولة الحديثة ونعني بها هنا دولة ما بعد الاستقلال. عمليا فإن علاقة المواطنة لم يتم بحثها رغم تكريسها دستور البلاد الأول الصادر سنة 1973 عبر المجلس التأسيسي، إلا أن العلاقة السياسية ما بين الشيعة والنظام السياسي اتخذت عدة أشكال تتراوح ما بين الشدة والقسوة دون أن تطال الحقوق السياسية والاجتماعية. ولمتطلبات البحث يمكن تفريع تلك العلاقة لثلاثة أطوار تاريخية
في هذا الطور كانت هناك علاقة بين النظام والتيار الإسلامي الشيعي المحافظ وكانت السياسات البريطانية في التعامل لا تزال حاضرة وقوية حيث أن الدولة لم تشكل لنفسها الطابع المستقل في وضع السياسات والمنهجيات لذا ظلت المنهجية البريطانية حاضرة بقوة ويمكن استكشافها من خلال زاويتين هما الرؤية الأمنية وتقوية الجهاز الأمني وتطعميه بالعناصر الأجنبية والزاوية الثانية تختص بالتعامل مع الانقسامات المجتمعية والطائفية ومحاولة لعب دور المتوازن بينهما لصالح العنصر القبلي الحاكم أوالحكومة المركزية التي يتعين عليها أيضا أن تكون معبرة عن هذه السياسة. نتيجة لذلك كان مستوى تمثيل الشيعة في الهيكل العام للدولة متشابها مع التمثيل الذي كانوا عليه قبل الاستقلال حيث الاتجاه قائم على المناصفة في التمثيل الحكومي وداخل المؤسسات السياسية والوحدات الإدارية في حين يظل الوضع الاجتماعي ومستوى الممارسات المجتمعية باقيا على عزل الشيعة عن السنة وتفضيل السنة على الشيعة. وقد أظهرت هذه السياسات نوعا من التقارب بين الشيعة ونظام الحكم (الدولة) تمثل في المشاركة في الاتنخابات التأسيسة والانتخابات البرلمانية وتمثليهم اجتماعيا عبر الجمعيات الدينية والاجتماعية التي سمح لهم بتشكليها مثل جمعية التوعية 1973 والمكتبة الإسلامية 1972 وفي تطوير نشاطات الأندية في القرى وبعض الخدمات. وكنتيجة عملية في العلاقة السياسية كان الاتجاه السياسي الشيعي محافظا بل مؤيدا في بعض الأحيان للحكومة ضد التيارات اليسارية المعارضة والتي كانت تشكل أكبر خطرا من وجهة نظر النظام السياسي.
مثل تلك العلاقة تعرضت للانهيار والتفكك على ضوء انتصار الثورة الإسلامية في إيران فبراير 1979 وقيام بعض الأجنحة الدينية بانتهاج دور سياسي معارض وقوي للحكومة . بعد عام واحد كشفت الأجهزة الأمنية ما عرف بقضية انقلاب 1981 تزامن هذا الكشف الأمني مع تصاعد نبرة الثورة الأيرانية وتحديها لأنظمة الخليج مما خلق تحديا أمنيا إضافيا لعلاقة البحرين مع دول المنطقة وبالأخص البحرين والسعودية وكان مؤدى ذلك تحويل البحرين لمنطقة صراع سياسي بين إيران الشيعية وبين السعودية السنية وهوأمر سمح في وقته ولاحقا لزيادة النفوذ السعودي في البحرين وفي دول المنطقة الأخرى من جهة ومن جهة ثانية وأعقد تمت عملية تشكيل السياسات العامة لدول المنطقة من جديد وتضمنيها البعد الطائفي تخوفا واحتراسا من أي نشاط شيعي محتمل موال لإيران أوأي نشاط شيعي مستقل.
وفق ذلك يمكن القول بإن هذا الطور مثل البداية العملية لانتهاج ووضع سياسات الفرز الطائفي لدى حكومة البحرين تحت غطاء أمني وتحت مبررات التدخل الإيراني والعلاقات المذهبية. سرعان ما انعكس ذلك في تمثيل الشعية على مستوى الحكومة والوظائف العليا بصورة طفيفة، لكن التمثيل في الوحدات ومستوى الممارسات الاجتماعية كان أكثر وضوحا حيث تم الاستغناء عن الأفراد الشيعة المنضمين لقوة دفاع البحرين وتم فرض قيود صارمة على ترقية الأفراد العاملين في قطاع الشرطة من الشيعة ومثل ذلك حدث في قطاع الإعلام وغيرها من الوحدات الإدارية. وطوال هذه الفترة الطويلة نسبيا ظل الشيعة يعاملون من قبل الحكومة على أساس تبعيتهم الطائفية واعتبارهم موالين لنظام الثورة في إيران ولا يخلصون الولاء للحاكم وللعائلة الحاكمة.
وانعكست هذه السياسة في مؤشرات اجتماعية وتنموية خاصة لوضع الشيعة في البحرين فرتفعت نسبة البطالة في صفوف أفراد الشيعة ونسبة الفقر وتدنت مستوى الخدمات الانمائية للأرياف والقرى. ولإدراك حجم مشكلة البطالة، ينبغي أن نشير إلى أن الدولة هي المشغل الأكبر في البحرين. وثمة تقارير أشارت إلى أن نسبة البطالة، حسب الجهات الرسمية، تصل في فترة التسعينات إلى نحو15 في المائة، إلا أن الرقم الفعلي هوأعلى من ذلك بكثير، وخاصة بين صفوف الشباب الشيعة، بحسب تقارير دولية. كما زادت حدة الاعتقالات في صفوف الشعية من قبل أجهزة المخابرات وسائر الأجهزة الأمنية. وفي المقابل زادة حدة الغضب والنقمة لدى غالبية افراد الطائفة الشيعية جراء شعورهم بالتمييز الواضح مقارنة مع أقرانهم من المواطنين السنة والأجانب فشعر الشيعة بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
رغم حدوث بعض الانفراج الأمني بعد حرب تحرير الكويت 1990 إلا أن ذلك لم يطال وضع السياسات العامة للدولة فظل تهميش الشيعة باقيا وظلت أوضاع الشيعة غير مدرجة على قائمة الحكومة في حين نشط الشيعة سياسيا بصورة أكبر وعقدوا تحالفات سياسية جديدة مع الأطراف اليسارية وبعض النخب السنية في محاولة لإعادة الوضع الدستوري للبلاد وإلغاء قانون أمن الدولة وهوأمر تحسست منه الأجهزة الأمنية ففرضت قواعد جديدة تقوم على منع أي تحالفات سياسية وطنية بين الشيعة وغيرهم وحدث أن منعت الأجهزة الأمنية ندوات دينية اشتراك فيها بعض الشخصيات السنية كما في منع ندوة سنة 1992 كان مقررا أن يشارك فيها عبد اللطيف المحمود مع الشيخ عبدالأمير الجمري حول غزوة بدر.
العلاقة بين القوى الشيعية والنظام الحاكم شهدت أسوأ مراحلها خلال عقد التسعينيات، ووصل التوتر بين الطرفين ذروته في نهاية العام 1994، إثر قيام حركة احتجاج شعبية شيعية مطالبة بالإصلاح والمساواة في الحقوق والعودة إلى دستور عام 1973، وتخللها مواجهات مع الحكومة، والتي استمرت حتى العام 1998. رد فعل الحكومة كان قاسياً وعنيفاً إذ جرى احتجاز الآلاف من المتظاهرين، والتنكيل بهم كما تم اعتقال عدد من قيادات المعارضة، وتشير الأرقام إلى أن هناك أكثر من خمسين قتيلا خلال تلك الاحتجاجات قتلوا على يد القوات الأمنية وبعضهم قتل تحت التعذيب وقت الاحتجاز.
إن فترة التسعينات تعطينا نموذجا لما يمكن أن يكون عليه التمييز وفرص تحويله من مجاله السياسي المختص بمسألة السلطة إلى مجالات أخرى مثل المجالات الطائفية وأحيانا العرقية، والنتيجة التي نحصل عليها هنا هي أن التمييز هوخيار سياسي قد يستند إلى نزعة طائفية في ظل توافر ظروف متعددة منها الحاجة إلى تبرير العنف واستخدام القوة . وعلى هذا الأساس يتم بناء عقيدة الأجهزة الأمنية بناءا طائفيا لمواجهة التوترات الأمنية. من المؤكد أن المشهد التسعيني ليس فريدا من نوعه، وأن كان هوالأكثر وضوحا في تفاصيله، فخلف هذا المشهد مشاهد كثيرة دفعت بالعديد من الباحثين إلى فحص علاقة الدولة بالمجتمع في البحرين وتحديدا علاقتها بالشيعة. وأفضت تلك الدراسات إلى اختلاف في تشخيص تلك العلاقة وتحديد محاورها، وإلى اتفاق عام على أن التمييز المطبق في البحرين هوسياسة متبعة تبحث لها عن وجوه وعن مبررات.
شهدت العلاقة بين الشيعة ونظام الحكم في هذا الطور تحولاً جذرياً مع تولي الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة الحكم في العام 1999، وإطلاق مشروعه الإصلاحي. فأفرج عن جميع الموقوفين السياسيين، وسمح للمعارضين في الخارج بالعودة إلى البلاد، وألغيت محكمة وقانون أمن الدولة، وأطلقت حرية الرأي والتعبير، وسمح للجمعيات بالنشاط السياسي، وتم تضمين مبادئ التغيير المؤسسي في ميثاق العمل الوطني . انعكست الإصلاحات السياسية على وضع الشيعة في البحرين، الذين ازداد دورهم في الحياة السياسية، وبرزت العديد من الجمعيات السياسية المعبرة عن توجهاتهم ومطالبهم، ولاسيما أن تكوين الأحزاب لم يسمح به في البحرين حتى الآن. ومن أبرز هذه الجمعيات، جمعية «الوفاق الوطني الإسلامية»، التي تأسست عام 2001، ويرأسها الشيخ علي سلمان، وهي كبرى جمعيات المعارضة السياسية في البحرين، وتصنف بأنها معتدلة في مطالبها وأساليب عملها، بالإضافة إلى جمعية «العمل الإسلامي» التي تأسست عام 2002، ويرأسها الشيخ محمد علي المحفوظ ، وكذلك جمعية «الرابطة الإسلامية» التي تأسست عام 2001، ويرأسها محمد علي الستري، الذي عين عام 2002 وزيراً لشؤون البلديات؛ فضلاً عن جمعية «الإخاء الوطنية» التي تمثل الطائفة الشيعية ذات الأصول الفارسية، والتي تأسست عام 2004. وقد حصل الشيعة في الانتخابات البلدية التي جرت عام 2002 على 23 مقعداً، في حين حصد السنة 27 مقعداً. وفي العام نفسه جرت أول انتخابات تشريعية منذ إعادة العمل بالدستور، إلا أن جمعية الوفاق الوطني وسائر القوى المعارضة الأخرى قاطعت الانتخابات بسبب تحفظها عن التعديلات الدستورية التي تعطي مجلس الشورى (المعين) صلاحيات تفوق صلاحيات مجلس النواب (المنتخب).
تسبب الموقف الشيعي من المشاركة وتنامي القوة الشعبية المؤسسية للشيعة بقيام التيار المتشدد داخل العائلة الحاكمة بطرح ما عرف بتقرير البندرالذي على أساسه ينبغي إعادة تقييم السياسات العامة للدولة اتجاه الشيعة والقوى المعارضة منها بغية إيقاف التنامي القوي للشيعة في البحرين ومحتوى التقرير المشار إليه أن الشيعة في البحرين يمثلون أكثرية عددية ويشكلون خطرا على سنية النظام وبقاءه في المستقبل القريب خصوصا مع زيادة الانفتاح السياسي وأشار التقرير إلى أن الشيعة يشهدون نهوضا في مؤسسات الدولة وإداراتها ويمتلكون مفاتيح التحكم في الأمن الغذائي وسائر الخدمات التي لا تهمين عليها الدولة وهوما يعكس خطا غير متوازن مع سياسة الدولة القائمة على الهيمنة والتحكم كما إنه لا يعكس التوازن مع الطائفة السنية التي لم تستمثر الانفتاح السياسي ويدعوالتقرير لوضع ضوابط جديدة لسياسة الفرز الطائفي من خلال تكيثف التجنيس والتحكم في التوزيع الديمغرافي للدولة وفي القطاع المؤسساتي مستوى الوحدات التابعة للدولة.
سوف نحاول هنا استعراض سياسات الفرز الطائفي عبر ثلاثة مستويات تكشف عن حقيقة الفرز الطائفي في البحرين وهل هوممنهج أوأنه إدعاء سياسي لاستحقاق المظلومية.
النصوص الدستورية والقانوينة
هناك مجموعة واضحة من النصوص تمنع عمليا صدور قرار أوأمر مباشر لفرض سياسة الفرز الطائفي وهي مسألة تعيها الأجهزة الحكومية ومصادر صناعة القرار في الدولة كما إن صدور قرارات سياسية تبرهن على وجود منهجية الفرز الطائفي يتعارض مع شعارات المواطنة التي تظهرها القيادة العليا في الدولة. فيوجد لدى الدولة مدونة قانونية دستورية صريحة جدا في تكريس رؤية المواطنة والابتعاد عن اي سياسيات مخالفة كسياسة الفرز الطائفي فعلى سبيل المثال تنص المادة (4) من دستور 2002 على أن « العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، والحرية والمساواة والامن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجمع تكفلها الدولة» كما تنص المادة (16 فقرة ب) من الدستور نفسه على أن «المواطنون سواء في تولي الوظائف العامة وفقا للشروط التي يقررها القانون» في حين أن المادة (18) تؤكد على أن «الناس سواسية في الكرامة الانسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أوالاصل أواللغة أوالدين أوالعقيدة «كما تنص المادة 20 من الدستور على أنه لا جريمة ولا عقاب إلا بقانون، وأن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وفقاُ للقانون. كما تحظر نفس المادة إيذاء المتهم جسمانياً أومعنوياً، وعلى حق المتهم في أن يكون له محامٍ يدافع عنه. كما أن حق التقاضي مكفول وفقاً للقانون».
في المقابل يحتوى الدستور نفسه على مواد ترسخ وتركز السمات السلطانية وتحجم أثر النصوص السابقة فعلى سبيل المثال تنص الفقرة ب من المادة (1) من دستور 2002 على ان حكم مملكة البحرين ملكي دستوري وراثي وتنص الفقرة ب من المادة (32) على ان السلطة التشريعية يتولاها المل والمجلس الوطني ويتولى الملك السلطة التنفيذية مع مجلس الوزراء وباسمه تصدر الاحكام القضائية. اما الفصل الاول من الباب الرابع فيشرح صلاحيات الملك في عشر مواد منها صلاحية حل مجلس النواب وصلاحية تعيين اعضاء مجلس الشورى وصلاحية تعيين القضاة وصلاحيات تعيي رئيس الوزراء وصلاحيات حق ابرام المعاهدات وصلاحيات اصدار مراسيم القوانين بين ادوار الانعقاد التشريعية وإصدار لوائح تنفيذ القوانين وغيرها.
في هذا الجو، ماذا يفعل الدّستور؟ إنّه يحتفظ للحاكم بالسّلطة المطلقة، وبشكلٍ صريح, ويلتفّ على المواد الدّستورية – التي تنصّ بأنّ الشّعب هومصدر السّلطات- بمواد دستوريّة أخرى، تُجهض هذا المبدأ الدّيمقراطي الجوهري، وتُتيح للحاكم الاحتفاظ بالسّلطة، والثّروة، والنّفوذ، ويوزّع ما يشاء كيفما شاء وحينما يشاء في شكل “مكرمات”, سواء احتاج ذلك منه إلى تعديل الدّستور وتزوير إرادة المواطنين, أم لا. وقد يعمد إلى توفير شكلٍ من الممارسة الديمقراطيّة دون الالتزام بموضوعها, وذلك عن طريق تسخير السّلطة التّشريعية والقضائيّة لمصلحة السّلطة التّنفيذيّة والإدارة العامة وأجهزة الأمن, ولإرادة الحاكم في نهاية المطاف. وفي النتيجة، فإنّ قدرة الدّولة لم تبارح صناعة النّخب التّجاريّة الموالية، والمثقف المقاول. وبخلافِ ذلك، لم تنتج الدّولة أيّة شبكة سياسيّة حقيقيّة، سوى بعض الزبائنية، وهوما رسّخ جوانب التّوتر في دولة الاستقلال، وسلب أهليّة إعداد مواطنيّة حديثة.
ويؤكد الواقع العملي ومستوى الممارسات السياسية والاجتماعية من قبل الدولة مدى التعارض بين النصوص الدستورية والترجمة العملية لها هنا نماذجا من تلك الممارسات بناء على معيار الوظائف العليا كمؤشر على وجود منهجية الفرز الطائفي وذلك وفق عدة مستويات.
في هذا المستوى نرى أن هناك أكثر من تسع تشكيلات حكومية تم تشكليها منذ 1970 حتى 2010. بعض تلك التشكيلات جاءت منفردة والبعض الأخرى بعد إدخال تعديلات على أعضاءها. وتوضح كشوف الأسماء والنسب الطائفية فيها أن تشكيلات الحكومة التسع على مدى 38 سنة مضت والمسئول عن تشكيلها خليفة بن سلمان وأمير الدولة سابقا والملك حاليا بأنها مبنية على أسس طائفية وقبلية، وهوما جعل مجموعة النسب تبدومتقاربة بشكل عام فالحصة الأكبر من أي تشكيل وزراي يجب أن تكون للعائلة الحاكمة ومن ثم يمكن توزيع الباقي مناصفة أوما يقرب إليها على السنة والشيعة. وتبدوهذه الصغية بعيدة عن الفرز الطائفي إذا ما تجاهلنا أن العائلة الحاكمة هي سنية المذهب وبالتالي فإن التمثيل الطائفي بعد استبعاد التصنيف القبلي يجعل من كافة التشكيلات الحكومية حتى الموسعة منها (أنظر الجدول صفحة 18) مبنية على اسس طائفية تعيد بناء المنظومة الطائفية وتكرسها على مستوى التمثيل في الحكومة. تجدر الإشارة هنا إلى أن زيادة التمثيل الشيعي في بعض التشكيلات الوزراية له علاقة بحجم الضغوط السياسية النابعة من أرض الواقع ورغبة الحكومة في امتصاص طاقة الغضب ومحاولة الاستمالة لكسب مواقف أفراد الطائفة الشيعية ولكن دون أن تصل نسبة التمثيل للحجم الذي عليه الشعية في البحرين وبمقدار يتلائم والكفاءات المتعددة التي يحوزها الشيعة والسنة معا.
وهنا تجب الإشارة إلى ملاحظة تعتبر ذات أهمية في مستوى التحليل وهي أن نسبة التجديد في النخب الشيعية داخل الحكومة يكاد يكون منعدما بحيث أن الاشخاص الذين تم تعينهم في التشكيلات الأولى ظلوا محتفظين بها رغم صدور مراسيم تشكيل جديدة خلافا لتجديد النخب السنية التي يمكن ملاحظة نسبة التجديد فيها. يقودنا ذلك إلى تفسير جمود تجديد النخب الشيعية في هذا المستوى إلى تحديد نمط العلاقة الرابطة بين هذه النخب وبين رئيس الوزراء خلفية بن سلمان وهي علاقة تجارية بالأساس وتعتمد على ما يمكن تسميته بقانون الحظوة أوالعزوة والولاء للشخص وبتعبير اجتاعي فإن لمكانة الاجتماعية التي يحصل عليها الأفراد تتبع درجة الولاء الشخصي وليس الطائفة اوالكفاءة أومعايير أخرى.
فجواد العريض ظل باقيا مع رئيس الوزراء منذ 1970 وترقى لأن يكون النائب الثاني لرئيس الوزراء وكذلك عبد البني الشعلة الذي ظل لفترة قربية ممثلا في كل تشكيلة حكومية. ويرجع الاصل التاريخي لهذه الظاهرة لما يعرف بظاهرة الوزراء في القرى قبل 1920 حيث كان هؤلاء يمثلون وسطاء بين الشيوخ المتملكين للأراضي وبين الشيعية المستأجرين وتكون مهتهم جمع الضرائب والمحاصيل المقررة وفي بعض الأحيان يمارسون دورا سياسيا عند حدوث مشاكل أواضطرابات إلا أن دورهم لا يرقى لأكثر من ذلك ويتم إقصائهم متى ما بدأت عليهم علامات الاستقلال وتكوين النفوذ المنفصل عن نفوذ الشيخ.
يمثل هذا المستوى الجانب التنفيذي لسياسة الفرز الطائفي ترجع أهمية دراسة هذا المستوى إلى أن قرارات التعيين في الدرجات العليا مثل الوكلاء العاميين ومدراء الإدارات إلى قرارات تصدر عن مجلس الوزراء وإلى صدور مراسيم ملكية وهوما يؤكد نمط السياسات العامة في شغل الوظائف العليا والمعايير التي تندرج تحتها ومدى تحقيق التطبيق الفعلي للنصوص الدستورية والقانونية. من المهم الإشارة هنا إلى الجانب البيروقراطي والهيكلي للدولة في البحرين كأساس تتحرك فيه سياسة الفرز الطائفي وهوإطار عام يمكن النظر فيه لدور دولة الرعاية في احتواء مجموع المواطنين حيث يشكف تحليل هذا الجانب عن وجود خلل بنيوي يتعاضد مع سياسة الفرز الطائفي. لقد نما الجانب البيروقراطي بوتيرة واضحة من خلال زيادة اعداد المنظمات العامة وزيادة العاملين بها وهوما ادى لزيادة الانفاق العام بخاصة على الاجور والمرتبات الا ان هذه الزيادة رافقها توجه نحوالمزيد من العمل الاداري مع تشديد الرقابة المركزية وتدرج السلطة وتنميط الوحدات ونظم الرقابة.
وبيعدا عن تحليل هذه الظاهرة فان نموالطابع الريعي للدولة دعم التوجهات القبلية والقيم الطائفية وبحسب الايوبيفان التوسع في القطاع العام قد يمثل صمام الامان السياسي وفرصة لفرض مزيد من التحكم المركزي فالسلطة تتركز في القمة الادارية مما يسمح بوضوح المسئولية عن العمل وبالاستجابة السريعة للتهديدات السياسية وكثيرا ما يتم تحريك الاداريين لتذكيرهم بصورة دائمة بمصدر القوة الحقيقية للمركز حيث لا يسمح لهم بتكوين دعائم لسلطتهم الفردية في اية مؤسسة وبالتالي يسهل القول ان النموالبيروقراطي اسهم في تقوية الضبط الاجتماعي والتحكم السياسي واعتبار ذلك أداة مهمة من أدوات التشطير العمودي للمجتمع.
ويتضح من مجموعة تقارير خاصة بشأن أوضاع التمييز في هذا المستوى أن هناك مؤشرات جدية لوجود قانون غير مكتوب لفرض التمييز الطائفي بتعبير مركز البحرين لحقوق الإنسان وتقارير مجموعة الأزمات التي أصدرت تقريرين في هذا الشأن الأول في مايو2005 والثاني مطلع 2010(21). ويشير تقرير مركز البحرين لحقوق الإنسان في دراسته الميدانية إلى أن نسبة الوظائف العليا التي يشغلها افراد ينتمون للطائفة الشيعية تشكل حوالي 18% فقط من مجموع الوظائف في المؤسسات الحكومية التي غطاها التقرير. وهناك تسعة مسميات وظيفية عليا لا يشغلها الشيعة. مع الأخذ بعين الاعتبار بأن النسبة الفعلية لاشغال الشيعة للوظائف العليا هي اقل مما توصلت إليه هذه الدراسة، باعتبار ان المؤسسات التي لم يغطها التقرير هي الاقل توظيفا للشيعة في جميع المستويات الوظيفية».
ويضيف التقرير إلى أنه بدمج الوظيفة بدرجة وزير في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية يتبين لنا أن أفراد الطائفة الشيعية يشغلون 10 مناصب وزارية فقط من مجموع 47 منصبا أي بنسبة (21%). وليس من بين تلك المناصب الوزارات السيادية والحساسة مثل الداخلية والخارجية والدفاع والامن والاعلام.
وفيما يتصل بالوظيفة بدرجة وكلاء الوزراء في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية، فإنه يتبين أن أفراد الطائفة الشيعية لا يشغلون سوى 7 وظائف من أصل 62 اي بنسبة (11%) . أما نسبة اشغال الافراد المنتمين للطائفة الشيعية للوظائف العامة العليا تراوحت بين 3% كما في وزارة الداخلية و50% كما في وزارة الصناعة. ومن بين 32 مؤسسة وهيئة تم تغطيتها في التقرير فإن هناك 6 وزارات ومؤسسات حكومية لا يشغل الافراد المنتمين للطائفة الشيعية اية وظيفة عليا بها وهي كما يلي:
- – وزارة الدفاع.
- – وزارة الإعلام.
- – مركز البحرين للدراسات والبحوث.
- – المؤسسة العامة للشباب والرياضة
- – جهاز المساحة والتسجيل العقاري.
- – الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية.
ويخلص التقرير من خلال مقارنة أرقام شغل الوظائف العليا إلى بأنه من بين 572 وظيفة عامة عليا غطاها التقرير، يشغل الافراد المنتمين لعائلة آل خليفة 100 وظيفة منها أي بنسبة 17%. أما المناصب التي يتولاها افراد المنتمين لعائلة آل خليفة في الاتحادات الرياضية، فهم يرأسون مجالس الادارة في 19 اتحاد، كما يشغلون منصب نائب الرئيس في 10 من هذه الاتحادات. وتولي افراد العائلة لجميع هذه المناصب سواء كان بالتعيين أوالانتخاب الداخلي يعكس حجم النفوذ الذي يتمتع به هؤلاء الافراد. إن خلو وزارات محددة من أي وجود شيعي وعلى فترة طويلة (ثلاثة عقود) وتزامن ذلك انخفاض نسبة شغل الوظائف العليا في الوزرات الأخرى لا يمكن تفسيره سوى بطريقة الفرز الطائفي المنطلق من سياسة عامة ومنهجية يقررها جهاز الحكم على أعلى المستويات حيث انه يشكل مركز التحكم في تولية هذه المناصب. وعادة ما يشار هنا إلى استراتيجية معاضدة تقوم على مبدأ الإحلال الطائفي لبعض المناصب الإدارية كما في وزراة التربية والتعليم ووزارة الصحة حيث يمكن رصد انخفاض نسبة التمثيل الشيعي في المستويات العليا مقابل ارتفاع نسبة الطائفة السنية.
نقصد بالمؤسسات السياسية التابعة لهيكلية الدولة والتي يتداخل فيها البعد الشعبي مع البعد الرسمي وهي مؤسستين حاليا هما مجلس الشورى ومجلس النواب. وهذا يقتضي البحث في الأاسس والمعايير التي تقوم عليها سياسة ملئ الشواغر في تلك المؤسسات وفق استراتيجية الفرز الطائفي اوما يطلق عليه خلف بالتشطير العمودي للمجتمع. في هذا المستوى نجد أن السلطة والجهاز الحكومي يتدخل بطريقة مباشرة لفرض تمثيل سياسي مشوه عبر تحكم السلطة في توزيع الدوائر الانتخابية وعبر الصلاحيات المحصورة للملك في التعيين وعبر هاتين الأداتين يمكن للحكومة أن تظهر اي نسبة تمثيل لاي فريق أومكون اجتماعي حسب الاعتبارات السياسية مثال ذلك تعيين الملك ممثلين لليهود والمسيحيين في مجلس الشورى رغم أن تمثيلهم الاجتماعي لا يتعدى 1% كنوع من تلميع العلاقات العامة أمام الراي العام العالمي.
المجلس التأسيسي 1972
تجربة المجلس التاسيسي فاز الشيعة بأكثرية المقاعد المنتخبة حيث فاز 14 من اصل 22 عدد النواب المنتخبين الا ان جانب التعيين وهم 22 نائبا بمن فيهم اعضاء مجلس الوزراء جاء على حساب تصيحح الخلل حسب تعبير رئيس الوزراء خليفة بت سلمان حيث قال انه سيجري تعديل الاختلال من خلال التعيين فتم تعيين ثلاثة من الشيعة ووخمسة من السنة فاصبح العدد متساويا 22 من الشيعة (14 بالانتخاب + 3 بالتعيين + 4 شيعة اعضاء في الحكومة) مقابل (8 بالانتخاب + 5 بالتعيين + 8 اعضاء في الحكومة) من السنة(22).
المجلس الوطني1974
شهدت العلاقة بين الشيعة ونظام الحكم تحولاً جذرياً مع تولي الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة الحكم في العام 1999، وإطلاق مشروعه الإصلاحي. فأفرج عن جميع الموقوفين السياسيين، وسمح للمعارضين في الخارج بالعودة إلى البلاد، وألغيت محكمة وقانون أمن الدولة، وأطلقت حرية الرأي والتعبير، وسمح للجمعيات بالنشاط السياسي، وتم تضمين مبادئ التغيير المؤسسي في ميثاق العمل الوطني . انعكست الإصلاحات السياسية على وضع الشيعة في البحرين، الذين ازداد دورهم في الحياة السياسية، وبرزت العديد من الجمعيات السياسية المعبرة عن توجهاتهم ومطالبهم، ولاسيما أن تكوين الأحزاب لم يسمح به في البحرين حتى الآن. ومن أبرز هذه الجمعيات، جمعية “الوفاق الوطني الإسلامية”، التي تأسست عام 2001، ويرأسها الشيخ علي سلمان، وهي كبرى جمعيات المعارضة السياسية في البحرين، وتصنف بأنها معتدلة في مطالبها وأساليب عملها، بالإضافة إلى جمعية “العمل الإسلامي” التي تأسست عام 2002، ويرأسها الشيخ محمد علي المحفوظ ، وكذلك جمعية “الرابطة الإسلامية” التي تأسست عام 2001، ويرأسها محمد علي الستري، الذي عين عام 2002 وزيراً لشؤون البلديات؛ فضلاً عن جمعية “الإخاء الوطنية” التي تمثل الطائفة الشيعية ذات الأصول الفارسية، والتي تأسست عام 2004. وقد حصل الشيعة في الانتخابات البلدية التي جرت عام 2002 على 23 مقعداً، في حين حصد السنة 27 مقعداً. وفي العام نفسه جرت أول انتخابات تشريعية منذ إعادة العمل بالدستور، إلا أن جمعية الوفاق الوطني وسائر القوى المعارضة الأخرى قاطعت الانتخابات بسبب تحفظها عن التعديلات الدستورية التي تعطي مجلس الشورى (المعين) صلاحيات تفوق صلاحيات مجلس النواب (المنتخب)
بعد أربع سنوات من التصويت على ميثاق العمل الوطني؛ تعزّز التّمييز الطائفي بصورةٍ أكبر، وعلى مستويات أكثر، حيث بات الحديث عن سياسات التطهير الطائفي أمراً شائعاً. والمقصود من التطهير الطائفي هواستبدال المناصب الإدارية التي يشغلها أفراد من الشيعة بآخرين من السنة، يتنمون إلى جهات موالية، أومحسوبين على تيار سياسي مقرّب من الديوان الملكي. وقد خلصت تقارير حقوقية إلى أن هناك تمييزاً طائفيّاً ممنهجاً في تعيين الوكلاء ورؤساء الإدارت العليا، وفي المستويات العليا في مؤسسات وإدارة الدولة كما مر معنا ويتضح من مجموعة تقارير خاصة بشأن أوضاع التّمييز في هذا المستوى، أنّ هناك مؤشرات جدّية إلى وجود قانون غير مكتوب لفرض التمّييز الطائفي، بتعبير مركز البحرين لحقوق الإنسان وتقارير مجموعة الأزمات، التي أصدرت عدداً من التقارير في هذا الشأن، منها تقرير في مايو2005، وآخر في مطلع 2010(23). ويشير تقرير مركز البحرين لحقوق الإنسان إلى أنّ نسبة الوظائف العليا التي يشغلها أفراد ينتمون للطائفة الشيعية تُشكل حوالي 18% فقط من مجموع الوظائف في المؤسّسات الحكوميّة التي غطّاها التقرير. وهناك تسعة مسمّيات وظيفية عليا لا يشغلها الشيعة. مع الأخذ بعين الاعتبار بأن النسبة الفعليّة لإشغال الشيعة للوظائف العليا هي أقل ممّا توصّلت إليه هذه الدراسة، باعتبار أن المؤسسات التي لم يغطّها التقرير هي الأقل توظيفاً للشيعة، وفي جميع المستويات الوظيفية”.
وقد أشار تقرير “الخليج في عام 2005-2006”، الذي يصدر عن مركز الخليج للأبحاث في إمارة دبي، إلى بروز بعض النعرات الطائفية في الآونة الأخيرة، وكانت جلسة البرلمان البحريني في 25 مايو/ أيار 2004 قد تحوّلت إلى خلافات واشتباكات بالأيدي، بين النواب السّنة المدافعين عن التّجنيس، والشيعة المعارضين لعشوائيته وعدم شموله للكثيرين من البدون الشيعة المنحدرين من أصول إيرانية، والمستقرين منذ سنوات في العاصمة المنامة، ومدينة المحرق. كما أصدر مركز البحرين للدراسات والبحوث التقرير الإستراتيجي البحريني لعام 2009، والذي تحدّث فيه عن تصاعد عامل الطّائفية في المجتمع، والاصطفاف الطائفي في البرلمان، والفرْز الطائفي التي اتسمت به الاعتصامات المطلبية في البحرين في الأعوام الأخيرة، إلا انه ألقى باللائمة على الأفراد والجمعيات السّياسية، وبرأ ساحة السلطة من ذلك، بل أشار إلى أن السلطة قامت بمحاولات لتقليص وتيرة الطائفية التي فرضت نفسها على بقية الأنشطة. وبرأ التقرير أيضا ساحة الحكومة من سياسة التمييز الطائفي المنهجي في التوظيف، وأرجعه إلى اجتهاداتٍ شخصية للقائمين على التوظيف من كلا الطائفتين في عملية التوظيف في مؤسسات الدّولة.
لقد ازدادت سياسة تهميش وعزل أبناء الطائفة الشيعية، وعلى جميع المستويات، وقد أنشئت صحف ومواقع إلكترونية – بالتّحالف مع بعض الجماعات التكفيرية – تحضّ على كراهية أبناء الشيعة وتغذّي دعوات التحريض ضدهم، وأصبحت صحيفة الوطن المحسوبة على ديوان الملك على رأس هذا التوجّه الطّائفي. ونشير هنا باهتمام إلى أحد التقارير التي سربّها أحد مستشاري الحكومة السابقين صلاح البندر، وحمل التقرير اسمه (تقرير البندر)، والذي يتضمّن خطّة تستهدف تهميش وإقصاء الشيعة في جميع مراكز القرار، و”تطهير” وجودهم من عدد من مؤسسات الدّولة، وحرمانهم من التّعليم وبعض الخدمات، وذلك عبر سياسات في القرار السياسي، وإنشاء جهات حكومية ترعى ذلك، ومؤسسات على شكل مؤسسات أهلية (غونغو) تكون بديلاً عن مؤسسات المجتمع المدني المهنية، والتي يكون فيها الشيعة أكثرية، وتأسيس منتديات وصحف موالية. وقد رُصدت لأغراض تنفيذ هذا المخطط مبالغ كبيرة، دلّت أذون الصرف والشيكات على ضخامة هذه المبالغ. ويتزعّم هذه الشبكة في الجانب التنفيذي وزير في الدولة أحمد بن عطية الله آل خليفة، وتتّصل خيوطها بأشخاص في الديوان الملكي، ومن بين أعضائها أعضاء في مجلس الشورى ونواب، وصحفيين، وبعض رجال الدين، وغيرهم ممن ورد ذكرهم في التقرير.
وقد تمّ تسريب هذا التقرير في يوليو– أغسطس 2006. ورغبةً من السلطة في إنهاء النّقاش حوله؛ فقد قيّدت قضية جنائية ضد المستشار الذي هرب من البلاد، فيما مُنع من دخول البلاد لاحقاً، ولم يطلب عبر الانتربول الدولي. في حين قرّر القضاء منع النشر حول التّقرير. وحاولت كتلة الوفاق النيابية فتح الحديث بشأنه من خلال استجواب الوزير المعني، ولكن دون جدوى، وهوما جعل التقرير ينتقل إلى مصاف الحقيقة. ولعل ما يعطي للتقرير المصداقية، هواستمرار السّلطة في تنفيذ ما نصّ عليه التخطيط المذكور، وتحقّق ما كان مكتوباً فيه على أرض الواقع.
يعيش أبناء الطائفتين الشيعية والسنية جنبًا إلى جنب منذ مئات السنين في الكثير من المناطق والمدن البحرينية ، دون أي خلافات أواعتداءات على أي منهم إلا انه ومنذ النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي بدأت السلطة في سياسة الفصل والعزل الطائفي بين الشيعة والسنة، من خلال قيام الديوان الملكي بمنع بيع أواستملاك الأراضي والمباني لأبناء الطائفة الشيعية في منطقة الرفاع سبيلا نحوإخلائها منهم، بل تطورت هذه السياسة في السنوات الأخيرة لتشمل مناطق أخرى مثل بعض مناطق جزيرة المحرق والحورة أوالقضيبية، وتحت مسميات وأسباب مختلفة، حتى بات يمنع أبناء الشيعة من السكن في أكثر من 40% من الأراضي البحرينية، بل بات اليوم يطلق على بعض المناطق بالمناطق السنية أوالشيعية وهذه تسمية لم تكن موجودة في السابق. ومع مجيء ملك البلاد إلى سدة الحكم ازدادت سياسة تهميش وعزل أبناء الطائفة الشيعية وعلى جميع المستويات وقد أنشأت الصحف والمواقع الالكترونية بالتحالف مع بعض الجماعات التكفيرية والتي تحض على كراهية أبناء الشيعة وتغذي دعوات التحريض ضدهم، وأصبحت صحيفة الوطن المحسوبة على ديوان الملك هي من يتزعم هذا التوجه والسياسة. ومن اللافت هوانه عند مجيء ملك البلاد إلى سدة الحكم كان قد لقي أكبر دعم وتأييد شعبي في أوساط الشيعة لم يتلقاه قبله أي من حكام البحرين ممن حكموا البلاد في تاريخ هذه الأسرة الحاكمة ومنذ مجيئها إلى البحرين، إلا انه وفي عهده يتعرض أبناء الشيعة لأكبر عملية تهميش وتمييز وعزل وفصل طائفي ممنهج يستهدفهم على جميع المستويات والأصعدة، بل قام ملك البلاد بتعيين أوتقريب أوتمكين الكثير من الشخصيات المعروفة بعدائها لأبناء الشيعة في مناصب مهمة ، وتشهد فترة توليه الحكم مستوى توتر طائفي كبير لم تشهده البحرين من قبل.
رغم أن المشروع الإصلاحي الذي تسير فيه البحرين منذ تولي الملك حمد مقاليد السلطة قد عزز من أجواء التعايش والسلم الأهلي في البلاد، فإن بعض الترسبات الطائفية لازالت كامنة. وقد أشار تقرير “الخليج في عام 2005-2006”، الذي يصدر عن مركز الخليج للأبحاث في إمارة دبي، إلى بروز بعض النعرات الطائفية في الآونة الأخيرة، وكانت جلسة البرلمان البحريني في 25 مايو/ أيار 2004 قد تحولت إلى خلافات واشتباكات بالأيدي، بين النواب السنة المدافعين عن التجنيس، والشيعة المعارضون لعشوائيته وعدم شموله للكثيرين من البدون الشيعة المنحدرين من أصول إيرانية، والمستقرين منذ سنوات في العاصمة المنامة، ومدينة المحرق.كما أصدر مركز البحرين للدراسات والبحوث التقرير الاستراتيجي البحريني لعام 2009 والذي تحدث فيه عن تصاعد عامل الطائفية في المجتمع، والاصطفاف الطائفي في البرلمان والفرز الطائفي التي اتسمت به الاعتصامات المطلبية في البحرين في الأعوام الأخيرة، إلا انه ألقى باللائمة على الأفراد والجمعيات السياسية، وبرأ ساحة السلطة من ذلك بل أشار إلى أن السلطة قامت بمحاولات للتقليص والحد من الطائفية التي فرضت نفسها على بقية الأنشطة. وبرأ التقرير أيضا ساحة الحكومة من سياسة التمييز الطائفي المنهجي في التوظيف ، بل أرجعه إلى اجتهادات شخصية للقائمين على التوظيف من كلا الطائفتين في عملية التوظيف في مؤسسات الدولة. يحاول هذا المبحث تسليط الضوء على الممارسات العملانية الناتجة عن سياسة الفرز الطائفي وذلك عبر دراسة ثلاث نواحي هي:
للخروج بنتائج واضحة حول أداء مجلس النواب في تعزيز أومناهضة سياسة الفرز الطائفي ، من المهم دراسة السلوك البرلماني كإطار أوسع من الأداء المحدد عادة بالإطار القانوني والسياسي للمجلس، فالسلوك الذي نتحدث عنه من شأنه أن يوسع دائرة البحث والملاحظة ويكشف عن الاستراتيجيات التي تعمل من خلالها الكتل البرلمانية. يتألف مجلس النواب البحريني من عدة تكتلات سياسية ذات اتجاهات سياسية مختلفة ومتنوعة بحسب الانتماء الطائفي والإثني والسياسي، إلا أن هذا التنوع لا يزال تنوعا محدودا وغير مؤثر بشكل جدي في إطفاء رؤية تتفق ومسار التعددية السياسية، فهوتنوع قابل للاختزال إلى تشطيرات عمودية أبرزها الانشطار الطائفي الذي طبع أغلب السلوك البرلماني، ومن جهة أخرى فالتنوع المشار إليه ظل عاجزا عن صياغة حالات تنافسية بين الأعضاء أوبين الكتل بحكم ميل الأكثرية العددية إلى جانب الحكومة وعدم رغبة الأكثرية نفسها كطرف معارضة. وبالتالي فإن محدودية التنافس وهيمنة الانقسام الطائفي تقف دون إحراز تقدم ملحوظ في مجال التحديث السياسي.
لقد أسهم مرسوم قانون الدوائر الانتخابية إسهاما كبيرا في تكريس البعد الطائفي لتركيبة مجلس النواب في كل الفصلين التشريعيين إذ أصبح من السهل تصنيف مجلس النواب على أسس طائفية بدلا من الأسس السياسية. ويعتبر تحديد المناطق والدوائر الانتخابيّة من أكثر القضايا المثيرة للاختلاف السياسي والطائفي في البحرين. فقد حددت المادة (17) من القانون بأن تقسّم البحرين إلى عدد من خمس مناطق انتخابية تشتمل كلّ منها على عدد من الدوائر الانتخابية. وينتخب عن كلّ دائرة انتخابية عضوواحد. ونصت المادة بأنّ تحديد هذه المناطق والدوائر يصدر بمرسوم، أي بقرار من الملك. وتتهم المعارضة الحكومة بأنّها قد رسمت حدود الدوائر الانتخابية بطريقة تضمن تهميش قوى المعارضة وتحويل الطائفة الشيعية من أكثرية عددية إلى أقلية سياسية. وبالفعل فقد أتت نتائج انتخابات 2002 و2006 لتؤكد ذلك، إذ ضمنت الحكومة أغلبية مؤيدة لها في مجلس النواب.
وقد كانت طريقة تقسيم الدوائر الانتخابية من الأسباب الرئيسية لمقاطعة الانتخابات من قبل المعارضين عام 2002، بينما تسعى المعارضة التي دخلت المجلس الحالي لإصلاح نظام الدوائر الانتخابية ليكون أكثر ديمقراطية وأكثر تمثيلا. فقد تباينت الكثافة السكانية للدوائر الانتخابية بشكل أدى إلى عدم تطبيق أحد أهم المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية، وهوالمساواة بين المواطنين “صوت واحد للشخص الواحد”. وهوما يتناقض مع ما جاء في المادة (25) الفقرة (ب) من الاتفاقية الدولية الاعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على “أن ينتخب وينتخب (المواطن) في انتخابات نزيهة تجرى دورياً بالاقتراع العام وعلى قـدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري، تضمن التعبير عن إرادة الناخبين”، مما زاد من حدّة الانتقاد لهذين الموضوعين واتساعه غياب الشفافية فيما يخصّ المعايير التي اعتمدت لتوزيع الدوائر الانتخابية لتظهر بالصورة التي ظهرت عليه، وإحجام الجهات الرسمية عن الإعلان عن أعداد من يحقّ لهم الانتخاب في كل دائرة”(24). وقد عبر مركز البحرين لحقوق الإنسان عن وجهة نظره في القانون مؤكدا بأن السلطة قد “عمدت إلى تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة مشوهة جغرافيا، لضمان أن تتمتع المناطق الموالية للنظام بأكثرية في المجلس النيابي، فمثلا صوت مواطن واحد في المنطقة الجنوبية التي يقطنها أفراد من أصول قبلية – يعتقد النظام بأنهم موالون له- يساوي قيمة أصوات 33 مواطنا في المنطقة الشمالية التي يسكنها الشيعة الذين تعتبرهم الحكومة قواعد للمعارضة” (25).
وفي الواقع إن انقسام مجلس النواب الحالي على نفسه طائفيا منذ اللحظات الأولى لتشكيله أوجد مناخا محموما حال دون قيام مجلس النواب بالعديد من مهامه في مجال حقوق الإنسان حيث أن القضايا التي يمكن أن تطرح كالتمييز أوالتجنيس السياسي أومكافحة الفساد المالي أوانتهاكات أجهزة السلطة التنفيذية لحقوق الإنسان سرعان ما تحول إلى قضايا اصطفاف طائفي بين كتلة الوفاق وباقي الأعضاء كما حدث في قضايا الاستجوابات التي تقدمت بها كتلة الوفاق لكل من وزير الدولة أحمد عطية الله وفي تشكيل لجنة تحقيق خاصة للنظر التداعيات الأمنية في العام 2008. لذا فإن المنافسة السياسية تتجه نحوإظهار أكبر قدر من الاهتمام بالدور الرقابي كوظيفة متبقية ووفق الحدود والصلاحيات المقيدة.
من ناحية عملية فقد حدث أن قامت قوات الأمن ومكافحة الشغب بارتكاب انتهاكات حقوقية عديدة في المناطق الشيعية التي عادة ما تكون نشطة سياسيا، وتعرضت المنازل والأهالي فيها إلى فرض حصار أمني وتهديد بالحرمان من خدمات الدولة (المالكية وكرزكان مثلا)، إلا أن ذلك ظل منحصرا في الدوائر التي يغلب عليها الشيعة (أي يمثلها نواب كتلة الوفاق) ولم يمتد إلى دوائر ومناطق أخرى، في المقابل كان موقف كتل الموالاة والأعضاء المستقلين قريبا جدا – بل مؤيدا – لأفعال وزارة الداخلية، وعندما ناقش المجلس قانون استخدام المواد الكيماوية وقفت كتل الموالاة مع تصريحات وكيل وزارة الداخلية التي هدد في مجلس النواب باستخدام أسلحة أشد فتكا ضد المتظاهرين إن لم يوافق المجلس على القانون، وظلت كتلة الوفاق معترضة على القانون وعلى التصريح ولكن دون جدوى.
لقد مكن الإنقلاب الدستوري الحكم الفردي والاستبداد المقنن لأن يرسخ نفسه ليس على المستوى السياسي فقط، بل شمل المستويات الاجتماعية والاقتصادية في مجموعة متماسكة من أشكال السيطرة وبناء الشبكات الموالية، وتقوية القطاع الأمني باعتباره السيج الوحيد القادر على حماية السلطة الحاكمة على حساب الدولة ومكوناتها من اقليم وشعب. وخلال فترة قصيرة بنت الدولة لها خمسة أجهزة أمنية تدير من خلالها لنواحي الأمنية والدفاعية. وتتشكل الأجهزة الأمنية في البحرين من فئتين هما فئة الأجانب ويشكلون الجزء الأكبر من قوات مكافحة الشغب والشرطة وجزء كبير من القوات المسلحة. الفئة الثانية تمثلها الطائفة السنية الذين يشغلون المناصب العليا في الأجهزة الأمنية، في حين أن افراد الطائفة الشيعية يقتصر دورهم في الوظائف الدينا في سلك الشرطة. وتقوم عقيدة الأجهزة الأمنية في البحرين في تحديدها للأخطار والتحديات والأعداء على مجموعة من العناصر المستخلصة من تجارب وخبرات تاريخية طويلة تمتد إلى مرحلة تأسيس نظام الحكم الحالي سنة 1783.
يفترض بهذه العناصر أن تواجه مجموعة الأخطار والتحديات والتهديدات وهي على نوعين:
الأول : مخاطر الانقلابات الداخلية وصراع الأجنحة الداخلية.
الثاني : مخاطر القوى المجتمعية المطالبة بالتغيير والمشاركة في الحكم.
السؤال الذي يطرح بشكل دائم هولماذا تلجأ الدولة إلى بناء أجهزة أمنية متعددة ولماذا تصر الدولة على أن هناك خوف وقلق يجب أن يكافح ولماذا هناك سجناء رأي يعاملون كرهائن؟ إن طرح هذه الأسئلة من قبل أفراد المجتمع يعني امتلاكهم للإجابة النهائية وهي أن الدولة على خطأ في رؤيتها الأمنية وأن تشكيل الرؤية السياسية على هاجس الأمن والخوف من المواطنين هوخيار عالي التكلفة بالنسبة للدولة والمجتمع.
في مقام التحليل فإننا نحتاج إلى فحص هذه الممارسات وإرجاعها إلى حيزها الحقيقي بدلا من التعامل معها على أساس ما تنشره الدعاية الرسمية من أنها ممارسات فردية أوأعمال اضطرارية تلجأ إليها السلطات في أوقات صعبة أوحرجة. إن الحيز الحقيقي لمثل تلك الممارسات أنها مظاهر للعقيدة الأمنية الشرسة والعقيدة الأمنية المتمركزة في استراتيجيات السياسة المحلية.
من ناحية تاريخية فإن أحداث الخمسينات بلورت العقيدة الأمنية للدولة بشكل واضح إذ أعقب القضاء على الهيئة العليا ونفي القادة السياسيين واعتقال العشرات 1956 فترة من السكون السياسي بفعل الأدوات القمعية التي فرضت ومنها قانون الطوارئ وقانون العقوبات خصوصا المادة البند 92 التي سمحت لقوات الشرطة اتخاذ ما يلزم من التدابير لتفريق أشخاص تجمهروا بقصد القيام بعمل .. ولا يعتبر الشرطي مسئولا عن أية إجراءات جنائية أومدنية حتى إذا كانت نتيجة استعمال القوة قد الحق أذي بالشخص أوسبب وفاته. فمن شأن هذه المادة التي سنجد لها مواد مشابه حاليا تأسيس العقيدة الأمنية على استسهال أجساد المواطنين وحرمتهم وتسهل كثيرا لقوات الأمن انتهاك كافة القوانين الحقوقية والدستورية. إن مثل هذه العقيدة كانت بحاجة إلى عناصر أمنية أجنبية تقوم بالمهام الموكلة إليها دون النظر إلى أية آثار أخرى وبحلول سنة 1955 رأي نظام الحكم نفسه عاجزا عن مواجهة القوى السياسية المعارضة بمفرده حتى وإن استعان بقواته الخاصة “ الفدواية وأبناء الشيوخ” لذا تم جلب شرطة عراقية بدل قوات الأمن نظرا لعجزهم عن المواجهة ونقص كفاءتهم العسكرية وقام خليفة بن سلمان بزيارة إلى العراق لجلب مزيد من الجنود لتعزيز قوتها البوليسية، استعداد للمواجهة العنيفة مع حركة الهيئة العليا. في الجزء الخطير من نظرية الأمن الاستخباراتي تم وضع العقيدة الأمنية في صياغة جديدة ملائمة للتحديات التي تراها أجهزة الاستخبارات وتحاول إقناع الرأي بها فكانت الدعاية الرسمية السياسية وغيرها تقوم على مرتكزات أساسية تمثل صلب العقيدة الأمنية وهذه المرتكزات هي:
- إن البلاد في حالة حرب دائمة مع قوى المعارضة المدفوعة من الخارج.
- إن الدولة الرسمية تشكل نقطة ارتكاز لطائفة واحدة وأنها هي الضامنة لحقوقهم من طغيان الطائفة الأخرى ومن طغيان المعارضة السياسية.
- إن ولاء المواطن مهما كان يجب أن يكون للعائلة الحاكمة وللأجهزة الأمنية.
- سرية وغموض العقيدة الأمنية وبقاءها لغزا محيرا عند المواطنين وسلبهم القدرة على التنبؤ بمخرجاتها والاحتكام للحقوق.
أما الناحية العملية فتظهر في سلوكيات التعامل اليومي من قبل أفراد الأجهزة الأمنية مع المحتجين الشيعة وهي تعاملات مكرسة وتنفذ وفق أوامر عليا نظرا لكون أغلب أفراد الأجهزة الأمنية من الأجانب الذين لا يقون على إظهار أي سلوكيات غير مرضية للضباط السنة بل إن سلوكياتهم تتجه نحوالالتزام الحرفي بالتعليمات وقد احتوت تقارير حقوق الإنسان العديد من تلك الانتهاكات الموثقة.
إلا أن تعامل جهاز الأمن الوطني مع المحتجين من خلال استخراج قضايا سياسية لهم وللنشطاء يدل على وجود سياسة فرز طائفي ممنهج يستهدف الشيعة بالذات ومثال ذلك قيام جهاز الأمن الوطني في 2008 بالشكف عن ما اسماه بمحاولة قلب النظام ونسب التهم لحركة حق التي تضم شخصيات من السنة ومن الشيعة إلا أن عملية الاعتقال طالت لاقيادات الشيعية دون القيادات السنية وتتزامن هذه السياسة في التضييق على الحريات الدينية مع توجه وزيرة الإعلام الجديدة الشيخة مي آل خليفة- أحد أفراد الأسرة الحاكمة- بإغلاق عدد كبير من المواقع الإلكترونية الشيعية، والتي تشمل مواقع ومنتديات حوارية تعنى بالشئون الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية، أوتلك المرتبطة بالمناطق والقرى الشيعية. وفي المقابل تعمل اجهزة السلطة على التغاضي عن المواقع الإلكترونية والحوارية التي تعمل على الإساءة للمواطنين الشيعة ومعتقداتهم الدينية والسياسية، والتحقير والاستخفاف بهم وسبهم وشتمهم والتحريض على كراهيتهم. ويعتقد بأن تمويل وإدارة تلك المواقع يتم من قبل إدارة الإعلام الخارجي التابعة لوزارة الإعلام، ضمن شبكة سرية كشف عنها مستشار الحكومة السابق الدكتور صلاح البندر. وتعمل هذه الإدارة ظاهريا كجزء من وزارة الإعلام إلا أن عملها اقرب ما يكون بجهاز الأمن الوطني (المخابرات)، وتعمل على تشويه صورة المواطنين الشيعة على الصعيد الإقليمي والدولي مستخدمة الأساليب والتقنيات الحديثة. ويرأس هذه الإدارة الشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة النائب السابق لرئيس جهاز الأمن الوطني (المخابرات)، كما يرأس جهاز الأمن الوطني الحالي الشيخ خليفة بن عبد الله ال خليفة- الرئيس السابق لنفس الإدارة بوزارة الإعلام. ومن جانب آخر، يقوم العديد من المنتسبين (من صحفيين وصحفيات) للصحف المحسوبة على المؤسسة الحاكمة، في الإساءة إلى الشيعة ومعتقداتهم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام المحلي والدولي، والتحريض على كراهيتهم. ومن أجل ذلك، قامت السلطة في البحرين بجلب الكثير من الصحفيين العرب والمستشارين الإعلاميين من بعض الدول العربية منها جمهورية مصر العربية والأردن، ومن ثم قامت بمكافأتهم على هذا الدور من خلال توطينهم ومنحهم الجنسية البحرينية، وقد نشر المستشار السابق للحكومة عن تفاصيل ووثائق تتعلق بذلك.
استهدفت هذه الورقة دراسة الواقع الطائفي في البحرين من ناحية اعتماده على سياسيات ممنهجة تتجه ناحية التمييز، أوضحت الدراسة أن المسار التاريخي الذي على أساسه تشكلت الدولة الحديثة في البحرين لا يحتوى على شواهد كافية لتبرئة الدولة من لجوءها المبرمج إلى التحكم والسيطرة في صياغة الهوية الجماعية وتسييس الذاكرة التاريخية والاستفادة من نتائج ذلك كله في تكريس الفرز الطائفي.
وبالمثل فإن السياسات غير المكتوبة وشبكات الزبائنية الطائفية والسياسية، أدت في النهاية لتغييب اي اثر فعلي لشعارات التسامح وقوانين المواطنة بحيث لا يمكن الحديث عن المواطنة إلا من خلال المواطنة المنقوصة كما رأت الدراسة أن سياسيات إدارة التنوع الطائفي في البحرين اعتمدت مسارين متضادين هما المسار الهيكلي المتجه نحوالبنية الدستورية والقانونية والمسار الثاني الاستراتيجيات غير المكتوبة والقائمة على أسس الزبائنية (Clientelism) والسلطانية المحدثة (Neopatrimonialism) وهي الأطر المفهومية التي تنتظم من خلالها الدولة القائمة في مرحلة ما بعد الاستقلال بما أدى لأن تكون سياسات إدارة التنوع الطائفي سببا رئيسا لإثارة التوترت السياسية المستمرة من عقود، حيث قادت تلك السياسات مكونات المجتمع البحريني لمزيد من التهميش والاسبتعادوالاستعداد الضمني للدخول في ما يعرف بالهويات المقاومة وهوما جعل من الانقسام الطائفي (السنة والشيعة) حقيقة مجتمعية، وهوما انعكس في التخوف من معارضة النظام، لأن معارضة النظام تعني الاصطفاف مع الشيعة، وتأييد أي من سياساته يعني الاصطفاف مع السنة. ولم تعد المعارضة للموالاة مرتبطة بنظام سياسي فقط، وإنما امتدت إلى نظام اجتماعي واقتصادي. ويزيد من خطورة التحدي الداخلي في البحرين الدور الخارجي، وخاصة من جانب بعض القوي الإقليمية التي تصطف خلف طرفي الصراع الداخلي دعما لمصالحها ونفوذها الإقليميين.
.إن خطورة هذا الوضع غير المتفق ومعايير الدولة الحديثة أوالمواطنة الكاملة، تظهر عندما تلجأ السلطات إلى مصادر حقوق الهوية الجماعية وتفرض نمط محدد من الشعور الوطني تقيس على أساسه كمية الولاء للدولة وتحدد من خلالها معايير الانتماء للوطنية. إن غاية الهيمنة التي مورست طوال عقود من الزمن لا تقتصر على التلاعب بالجماهير للتفكير وفقا للسبل أوالطرق المقررة داخل مؤسسة العرش أوبلاط الحاكم، ولكنها تتطاول لكي تضع محددات على عملياتها التفكيرية من اجل إضعاف الإيديولوجيات المناؤئة لها، ومن أجل تهميش ونزع الشرعية عن التنظيمات السياسية المنافسة والبديلة من خلال تشويه رؤيتها ومصادرة حقها في التعبير بما يجعلها غير مستساغة للناس.
وفيما يتعلق بدور الانفتاح السياسي المحدود والذي تفضل السطات الرسمية تسميته بالمشروع الإصلاحي توصلت الدراسة إلى أن الدّولة اتخذت بعض الخطوات على طريق الإصلاحات السّياسيّة، ولكن أغلبها أُتخذت من قبل النّخبة السّياسية الحاكمة بغرض تجاوز بعض أزماتها الدّاخليّة. من المفيد هنا ملاحظة أنّ الدّولة البحرينيّة اتّجهت نحوخلْق قوى وشرائح اجتماعيّة عديدة مرتبطة بها، وتدور في فلكها، الأمر الذي سمح لها بأن تأخذ بمبدأ “لا ضرائب ولا تمثيل” No Taxation and No Representation ومن المعروف أنّ مثل هذه “النّشاطات” في تشكيل جماعات الموالاة (وشبكات الزبائنية) تخلقُ سلوكاً مُعمّماً ينطوي على الخضوع والعزوف عن المشاركة السّياسيّة لدي المواطنين، فهؤلاء لا يرون أهمّية للتّوازن في توزيع الثروة، ولا تمثّل لديهم تلك الفوارق حافزاً قوياً لإحداث تغيرات جوهريّة في النّظام السّياسي.
بلغةٍ صارمة، فإنّ نظام الوسطاء والزّبائن، أكّدَ صفة الفرديّة، وحكم الفرد المطلق، لتكون إرادة الحاكم هي مصدر السّلطات. تعزز هذا المشهد من خلال بناء نظام اقتصادي يدمج بين الرأسمالية والمحسوبية، حيث سهلت النخبة بل منحت الامتيازات والاحتكارات الاقتصادية لفئة صغيرة ومحددة وفي الوقت نفسه مؤثرة بدرجة ما. وخلق هذا التعاقد الفرعي للفساد مصلحة بقاء النظام كراعي للفئة التجارية الصاعدة وقبولهم كرعايا له. وقد وفر هذا التشبيك حتمية الالتجاء للفساد السياسي وابتزاز المجموعات المنتفعة منه بحيث تكون مستعدة لتقديم تنازلات سياسية من أجل جني مزيد من المكافآت الملموسة وبالتالي تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار للنظام السياسي المقاد من قبل النخبة الحاكمة. بل أنه يمكن استخدامهم كدروع اقتصادية وسياسية لحرمان الشرائح غير المنضوية في نظام الشبكات من التعبير عن تفضيلاتهم السياسية وإجبارهم على قبول التحالف معهم كجزء من شروط الحصول على المنفعة وبالتالي التأسيس للفساد الاجتماعي والفساد الاداري.
ويثير هذا السلوك جزءا من طبيعة الفساد السياسي الراسخ في البحرين واعتباره جزءا أصيلا من الثقافة السياسية(26)، ومن هنا يتحول النضال والتحريض على التمثيل السياسي من مختلف المجموعات، من المنافسة السياسية والمنافسة الاقتصادية الحرة إلى اعتباره طريقا آمنا للوصول إلى الثراء. ويصمم الاحتجاج والمناكفة السياسية، ليس من أجل تسوية النزاعات حول توزيع الموارد أوتعزيز الشعور بالانتماء إلى الأمة، ولكن لخلق قناعة أن التسويات السياسية يجب أن تكون على قاعدة تقسيم الغنائم على الحلفاء دون الأعداء الفعليين أوالمحتملين من الهويات الاجتماعية الأخرى. ويمكن هنا الاشارة الى اهم اداة قانونية ديمقراطية وكيف يمكن ان تتحول لاداة تكرس القيم التقليدية فقد أسهم مرسوم قانون الدوائر الانتخابية إسهاما كبيرا في تكريس البعد الطائفي لتركيبة مجلس النواب في كل الفصلين التشريعيين إذ أصبح من السهل تصنيف مجلس النواب على أسس طائفية بدلا من الأسس السياسية. وتتهم المعارضة الحكومة بأنّها قد رسمت حدود الدوائر الانتخابية بطريقة تضمن تهميش قوى المعارضة وتحويل الطائفة الشيعية من أكثرية عددية إلى أقلية سياسية.
-1 يشكل الشيعة أغلبية السكان، وتتراوح التقديرات ما بين 60 و80 في المائة من إجمالي السكان، (الذي يبلغ 725 ألف نسمة تقريباً) أما تقرير “الحرية الدينية في العالم”، الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 2006، فيقدر نسبتهم بنحو70 في المائة من عدد السكان المواطنين، ومثله تقرير “التحدي الطائفي في البحرين”، الصادر عن المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات (ICG) في بروكسل . وشيعة البحرين، كإخوانهم شيعة المنطقة الشرقية بالسعودية؛ فهم ينتمون إلى الأصول نفسها، ويشتركون في التاريخ نفسه، ويتبعون المذهب نفسه، وهوالإمامي.
-2 انظر النبهاني / التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية / ناصر الخيري : قلائد النحرين في تاريخ البحرين / محمد علي التاجر : تاريخ أوال / لوريمر : دليل الخليج
-3 محمد خليفة النبهاني، التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية ، 1986، ص 86
-4 عباس المرشد،البحرين في دليل الخليج، دار فراديس، بيروت 2011.
-5 فؤاد الخوري، القبيلة والدولة في البحرين، معهد الانماء العربي، بيروت، 1983.
-6 فؤاد اسحاق الخوري : القبيلة والدولة في البحرين.
-7 محمد عبد الاقدر الجاسم، سوسن الشاعر: البحرين قصة الصراع السياسي 1904-1956، بدون، 2000.
-8 عباس المرشد ، البحرين في دليل الخليج، دار فراديس، 2011.
-9 لوريمر: دليل الخليج القسم الجغرافي ص 1462.
-10 تحاول الأدبيات الرسمية تصوير نظام التعليم الحديث “ المدارس النظامية “على أنه صنيعة النظام السياسي الحاكم في حين أن هذا التعليم الحديث وجد قبل سنة 1919 سنة افتتاح مدرسة الهداية سواء لدى الإرساليات التبشيرية أولدى المدارس الإيرانية. المهم هنا أن هذه الصورة رغم ما يعتريها من قصور تاريخي لا ترد كاملة أيضا فعندما افتتحت هذه المدرسة كان ممنوعا على البحارنة دخولها وعندما تقدم البحارنة بطلب تأسيس مدرسة خاصة لهم قوبل هذا الطلب بالرفض حيث استمرت محاولة البحارنة أكثر من ثلاث سنوات حصلوا بعدها على ترخيص بناء مدرسة خاصة.
-11 محمد الرميحي: التغير الاجتماعي والسياسي في البحرين، دار الجديد، بيروت، 2002.
-12 الخوري : م. س، ص.
-13 عبد الرحمن الباكر : من البحرين إلى المنفي، دار الكنوز الادبية، بيروت، 2005.
-14 سعيد الشهابي : البحرين في الوثائق البريطانية، دار الكنوز الادبية ، بيروت، 1996 ص 108.
-15 الخوري ، م. س، ص.
-16 أن الإحصاءات شبه الدقيقة لم تكن متوفرة قبل الإحصاء الرسمي الأول سنة 1945. ولعل الإحصائية التي كتبت سنة 1875 ونشرت ضمن سجلات البحرين records of Bahrain 1820-1960 تعتبر هي الأقدم في هذا الشأن، ونتيجة لغياب أية إحصائية دقيقة للسكان وتصنيفهم مذهبيا أوقبائليا، ووفقا لهذا التقرير، يبلغ عدد إجمالي أفراد القبائل القاطنة في البحرين وهي قبائل سنية في الغالب حوالي 5730 فردا موزعين على مناطق مختلفة من البحرين وإذا ما أضيف إليهم قبيلة آل خليفة فلن يكون العدد متجاوزا لعشرة آلاف من مجموع السكان الذين يصفهم التقرير نفسه بالبحارنة ويقدر هذا التقرير عدد سكان البحرين بحوالي 60 ألفا.
-17 تجب الإشارة هنا إلى بلجريف نفسه كان قد عمل بهذه السياسة وكرسها أيضا كما يتضح عند متابعة موقفه من عرائض الشيعية الإصلاحية في ثلاثينيات القرن الماضي وما بعدها.
-18 هناك العديد من الدراسات التي ناقشت أبعاد الهيمنة البريطانية على دول الخليج العربي على سبيل المثال:
Crystal, J. (1990), Oil and Politics in the Gulf: Rulers and Merchants in Kuwait and Qatar,Cambridge University Press, Cambridge./ Balfour-Paul, G. (1991),The End of Empire in the Middle East: Britain’s Relinquishment of Power in Her Last Three Arab Dependencies,Cambridge University Press, Cambridge. FRIDE Democracy Backgrounders. Democracy Backgrounder. November 2006 .Political Change in the Gulf States: Beyong Cosmetic Reform?
-19 Neil Partrick ,Nationalism in the Gulf States. Research Paper, Kuwait Programme on Development, Governance and Globalisation in the Gulf States, 2009 .www.lse.ac.uk/LSEKP/
-20 Owen, R., 2004, ‘State, Power and Politics in the Making of the Modern Middle East’, Routledge, pp 203-207.
-21 التحدي الطائفي في البحرين http://www.crisisgroup.org/home/index.cfm?l=6&id=3404
-22 Emile Nakhleh ; Bahrain: Political Development in a Modernizing Society. pp 160
-23 منظمة الازمات الدولية: التحدي الطائفي في البحرين، مايو2005 على الرابط الالكتروني:
http://www.crisisgroup.org/home/index.cfm?l=6&id=3404
-24 تقرير الجمعية البحرينية للشفافية والجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، نوفمبر 2002.
-25 تقرير مركز البحرين لحقوق الانسان “ تلاعب خطير بالعملية الانتخابية القادمة في البحرين “ 6/8/2006.
-26 حول شيوع الفساد في البحرين انظر: منظمة الشفافية الدولية حيث تراجعت درجة البحرين على مؤشر الفساد العالمي في الخمس سنوات الأخيرة بما يشير إلى تزايد الفساد في ظل مشاريع الغصلاح المعلن عنها إعلاميا http://www.transparency.org/country#BHR