- العنف السياسي في البحرين – قراءة في الأسباب والتطبيقات
- أولا: عوامل العنف
- ثانيا: مقدمة عن العنف السياسي في البحرين
- ثالثا: تطبيقات على عينات تاريخية
- رابعا: موانع العنف السياسي
- خامسا: التحديات التي تواجه موانع العنف السياسي
- الخلاصه
- الهوامش
لقراءة النص العربي pdf/ والانجليزي / و الانجليزي pdf
تطرح اشكالية هذه الدراسة من خلال السؤال التالي: هل ينفك “العنف السياسي” أو المتولد من السياسة عن العنف بمفهومه الإجمالي؟
قد يسوقنا هذا السؤال إلى مدخل منهجي لقراءة هذه الجنبة المهمة، سواء على صعيد الفرد – ككائن بشري تعتريه الرغبة في العنف في بعض الحالات – أم على صعيد المجتمع السياسي الذي يحتك بالظروف المتغيرة للسياسة ويلامس تحدياتها، فيولد في بعض أحيانه اللجوء للعنف.
في هذه الدراسة سنتعرَّف على الحالات التي تدعو الإنسان للجوء إلى العنف السياسي، وهو لا يخرج عن ثلاثة محاور: فأحيانا يكون (حاجة) وأحيانا يكون (ضرورة)، وأحيانا يكون خياراً من ضمن خيارات، أو متجاوراً مع خيارات أخرى.
هذه الدراسة ستُعنى بالجوانب النفسية والاجتماعيَّة والسياسية، أكثر من كونها تحليلاً سياسياً للعنف، وأعتقد أن التحليل السياسي لظاهرة العنف إذا لم يتشفَّع بالأدوات المعرفية لعلم الاجتماع، فسيكون مخلاً على الأقل من حيث أن السياسة معنية بشكل كبير في قراءة وتشبيك قوانين اللعبة، ومن ثم تقديم قراءة عن أوجه اللعبة السياسية. والعنف وإن سار في بعض مساراته لخدمة اللعبة السياسية الا أنه ليس مستغرقاً فيها، بمعنى أنه لا يمكن احتواء دراسة العنف السياسي من خلال آليات التحليل السياسي، والسبب أن الأبحاث الأكاديمية تحمل في مطاويها اتجاهات عديدة لظاهرة العنف السياسي، وحول الاتجاهات الرئيسية التي تتناول مفهوم العنف السياسي، حددت الدراسة الاتجاهات الرئيسية التي تتناول مفهوم العنف السياسي بأربعة، مهم جداً التأمل فيها وتقليب معانيها على أي واقع سياسي.
أولا: عوامل العنف
1- العوامل السيكولوجية
يعزو أصحاب هذا الاتجاه العنف السياسي الى انه مرتبط بالحالات الانفعالية التي تتبلور من السخط والغضب والقلق وإحباط الناس. ويربط هذا الرأي بين الحرمان النسبي وظاهرة العنف السياسي. فالحرمان النسبي هو اعتقاد فئة بالتفاوت الطبقي، تفاوتاً في نسبة يعتقدون أنهم يستحقونها، اذ يقول الباحثون في الحقل النفسي أن التفاوت يخلف فجوة بين توقع النفسية وما ستحصل عليه أو ما تستحق أن تحصل عليه، وبين ما هو الواقع، مما ينتج من ذلك حالة من الإحباط لدى هذه الشريحة، بحيث يغدو هذا الإحباط المتراكم بذرة من بذور ردات الفعل الغاضبة.
ومن أهم مسببات تلك الفجوة التي تصنع في أطوار لاحقة العنف السياسي، العامل المرتبط ببعض المتغيرات الاقتصادية، مثلاً: قد يحصل العنف السياسي جراء انتكاس حادٍ في أوضاع الناس، كأن يكون هناك ازدهار اقتصادي ويعقبه انتكاس حاد. وقد استخدم بعض العلماء نظرية (الإحباط – العنف) التي تنتج عن التناقض بين التوقعات والآمال من ناحية وبين ما يحصلون عليه فعلياً من ناحية ثانية، فإذا شعر الناس بأن هناك فجوة بين هذين المفهومين زادت احتمالات ظهور العنف السياسي.
وثمة مفهوم آخر يحظى بأهميته في الدراسات الأكاديمية، وهو مفهوم “الإحباط النسقي” كعامل أساسي لبروز العنف السياسي وذلك اعتماداً على نظرية (الإحباط ـ العدوان) والتي تقول بأن هناك متطلبات وحاجات اجتماعية متعددة غير مشبَّعة. وإذا كانت الحاجات الاجتماعية تفوق ما يتوفر لإشباعها أدى ذلك إلى “إحباط نسقي” تؤدي حدته إلى ظهور العنف السياسي.
2- العوامل السوسيولوجية (الاجتماعية)
يركز هذا الاتجاه على حالة اختلال في النسق الاجتماعي والسياسي، وهو حالة عدم توازن الطبقات الاجتماعية، فيؤدي ذلك إلى فشل النظام السياسي في مواجهة التغير وعدم قدرته على إعادة التوازن، الأمر الذي يفضي الى خلق عنف سياسي. فبسبب اختلال هذا التوازن بين القيم والبيئة في المجتمع تكون النتيجة فشل النسق الاجتماعي، مما يسبب ظهور أزمات اجتماعية، تؤدي مراكمتها إلى ظهور عنف سياسي، يتصاعد حسب وتيرة الاختلال النسقي في التركيبة الاجتماعية.
3- عوامل الصراع السياسي
ثمة اتجاه فكري يقرأ “عوامل الصراع السياسي” بوصفه عاملاً من عوامل العنف السياسي، ويرى هذا الاتجاه أن العنف السياسي هو نتاج للصراع الذي يحدث بين السلطة السياسية والجماعات المنظمة، التي تنافس السلطة السياسية المحتكرة لوسائل الإكراه (القوة) في المجتمع. وحسب الدراسة تلك فإن ظهور الصراع السياسي في المجتمع يؤدي بالضرورة إلى ظهور مفهوم (السلطة متعددة السيادة)، ويقصد بذلك توافر قوى متنافسة في المجتمع، مما يؤدي إلى إضعاف دور الحكومة وبروز تكتلات القوى والتي تخلق تحدياً للسلطة القائمة والذي بدوره يؤدي إلى تفكك السلطة السياسية المحتكرة للقوالب. ويرى هذا الاتجاه أن طبيعة التنظيم الجماعي والتفاعل القائم بين الأنظمة السياسية والقوى المنافسة لها يحدد مدى العنف السياسي في المجتمع.
4- عوامل الصراع الطبقي
يتميز هذا العامل بأنه يحمل تفكيراً وتوجهاً ماركسياً، فيفسر ظاهرة العنف السياسي من المبادئ التي وضعها كارل ماركس في قراءته للبنية الاجتماعية الحاضنة للعمل السياسي. وتركز هذه القراءة على “أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج والصراع بين الطبقات”. فكارل ماركس يرى (أن نمط الإنتاج للحياة المادية يحدد بشكل عام عملية الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية وأن قوى المجتمع الإنتاجية المادية عند مرحلة محددة من تطورها تصبح في حالة صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، والتي بدورها تتحول إلى قيود للقوى الإنتاجية وعند هذه الحالة تبدأ مرحلة العنف الذي يأخذ شكل صراع بين الطبقات في المجتمع).
ووفقاً للرؤية الماركسية كما جاء في الدراسة فإن هناك من يرى أن البناء الاقتصادي يسبب نمو علاقات اجتماعية معينة تتبع تنظيمات طبقية خاصة. وفي كل مجتمع هنالك طبقتان رئيسيتان، طبقة حاكمة مستغِلة (بكسر الغين) وأخرى محكومة مستغَلة (بفتح الغين)، وأفراد هذه الطبقة الأخيرة يغتربون عن القيم السائدة وطريقة إنتاج الأشياء وهم يشكلون أخيراً جماعة ضخمة يجمعهم الوعي الطبقي المشترك بحث إذا قويت هذه الطبقة المستغَلة بما يكفي أطاحت بالطبقة الحاكمة (1).
ثانيا: مقدمة عن العنف السياسي في البحرين
ليس بالإمكان في هذه الدراسة أن نحيط بكل مصاديق العوامل الأربعة الآنفة الذكر ، اذ ان ذلك يتطلب كتاباً كاملاً، يحوي بين دفتيه الحوادث والظروف السياسية التي وقعت في البحرين منذ سيطرة آل خليفة على الحكم إلى يومنا هذا، وتصنيفها تصنيفاً مفاهيمياً بما يتناسب والعوامل الأربعة التي تترجم ظروف العنف السياسي. لكن من الضروري أن نشير إلى عينات من التاريخ، وإدراجها تحت العوامل الأربعة، التي حوت مصاديق حقيقية وتفاعلت كلها في البحرين بظروف مختلفة يذكرها التاريخ، حيث ان نسق الحكم القَبَلي لآل خليفة منذ دخولهم البحرين خلَّف في الذاكرة الشعبية العديد من صور العنف والعنف المضاد.
أشار الشيخ يوسف البحراني (المتوفى في 1772م) في كتابه (لؤلؤة البحرين) إلى واقعة وقعت في سنة 1112 للهجرة الموافق 1700 للميلاد، ومفادها أن العتوب (آل خليفة وآل صباح والجلاهمة خصوصاً) هاجموا البحرين فاستنجد شيخ الإسلام (محمد بن ماجد شيخ الإسلام في البحرين آنذاك، الذي كانت له السلطة الدينية في مقابل السلطة السياسية للحاكم) استنجد بـ(الهولة) الذين جاؤوا وطردوا (العتوب). وطلب الشيخ محمد بن ماجد من الهولة النجدة والمساعدة حيث كانت يد حاكم البحرين قاصرة عن رد ذلك الهجوم. فالبحارنة استخدموا التحالف “العنيف” مع الهولة وطردوا الخليفيين وأخَّروهم أكثر من ثمانين عاماً من غزو البحرين. ذلك لأن الخليفيين مع حلفائهم العتوب دخلوا بمنطق الحرب، وهذا التأسيس ينبغي أن يُضاف إلى العوامل المؤدية للعنف السياسي.
ونلاحظ هنا أن عوامل العنف السياسي تُدرس عادةً في إطار الأوضاع الداخلية للبلد، والحال أن البحرينيين ما فتئوا يستذكرون صورة دخول الخليفيين للبحرين، ذلك أن الخليفيين أنفسهم لا يزالون يؤكدون حيثية الفتح والسيف والسيادة، وهي مسألة تضاف الى كل تلك الأسباب التي سنبحثها لاحقا في معالجة العنف السياسي محليا. والمقصود من (الإضافة) هنا هو دراسة العنف السياسي مع الأخذ بالاعتبار أن ثمة ذاكرة تاريخية مليئة بالدم والألم الغزير، لا يمكن تجاهلها، وليس من الرصانة تجاوزها ونحن في معرض هذه الدراسة الجادة.
ثالثا: تطبيقات على عينات تاريخية
1- العامل النفسي في سياسة الضبط والسيطرة
بعدما نجح الحكم الخليفي في تثبيت شيء من الحكم، بمساعدة الانجليز الذين ساندوهم في الحماية والضبط، راحت القبيلة الخليفية تحتمي بنظام “الفداوية”، مما خلق شرخاً اجتماعياً مضافاً إلى وحشية الغزو، ويعتبر «نظام الفداوية» واحداً من أشرس الأنظمة التي عرفتها القرى البحرينية والتي استخدمت لفرض السيطرة عليها، فضلاً عن ذلك، فالفداوية كنظام أمني يعتمد على فرض القوة بالإكراه وأداة من أدوات فرض النظام الجديد، لم يكن يعمل من خلال قانون أو جهاز رقابي، وهو يقترب من نظام الميلشيات الحالية في ممارسته الخارجة على القانون وحجم البطش والقمع المستخدم ضد الأهالي. وقد دفعت ممارسات الفداوية الشرسة العديد من أهالي القرى إلى الهجرة من البحرين كما ادت إلى دمار بعضها. فقد كان نظام الفداوية حاجة ضرورية للنظام الجديد لفرض قوته وسيطرته على الأهالي والقرى وعبّر عن رؤية إدارية مختلفة عن رؤية القرى البحرينية. فكان كل حاكم مقاطعة يستعين بهيئة إدارية كبيرة تعمل تحت إمرته الشخصية، تتشكل هذه الهيئة من أمير ومجموعة من الفداوية، والأمير نفسه كان بالأصل فداوياً نال ثقة الحاكم ورعايته”(2).
ومع تطور النظام الإداري والاقتصادي، وتعقد السياسة الخارجية، كان استنساخ الفداوية في 13 مارس 2011، له طابعه المختلف، ففي هجوم شباب من الطائفة السنية على جامعة البحرين بالأخشاب والأنابيب، تتكرر الصورة مع اختلاف تفاصيل ظروفها فقط، أما عقلية الضبط والسيطرة فهي واحدة. مما يربط التاريخ ببعضه ويؤكد الشرخ، كالضرب على الجرح النازف.
ما بين الفترتين اكثر من قرنين من الزمن، واستراتيجية العنف الخليفي هي واحدة لا تتغير، وبمراجعة بسيطة للعامل الأول، (العامل النفسي)، ومع تأكيد خليفي دائم على حالة خلق الطبقة التي تمثل برزخاً ما بين الحكم (الأسياد) وما بين الشيعة (المحكومِين) -الذين هم تحت ظل الضبط دائماً- يخلق الشرخ النفسي حالة (إحباط عدواني) تتراكم فيها الوقائع السياسية في الذاكرة الشعبية، فهل تولّد عنفاً؟
2- الانشطار النسقي.. خلق طبقات اجتماعية
العامل الثاني يجيب على السؤال السابق، لكن مع تعضيده ببعض الوقائع، ففي أواخر 2006 كشف تقرير صلاح البندر عن مؤامرة كبيرة خلقها الديوان الملكي وموّلها لتخريب التركيبة السكانية، وجعل الشيعة أقلية، وأتت المؤامرة بعد ست سنوات من مشروع الميثاق الوطني الذي دشَّنه ملك البحرين حمد بن عيىسى آل خليفة، والذي صوّرته وسائل الإعلام بأنه نهاية مأساة أربع سنوات من انتفاضة دامية (1994-1998). سقط فيها مئات الجرحى وآلاف المعتقلين وأكثر من أربعين شهيداً.
ويعد تقرير البندر ليس وثيقة سياسية فقط تدين سلطة آل خليفة، وليس معلومات تكشف جزءًا من كيفية المؤامرة التي خُلقت لتغيير الديموغرافيا فحسب، بل إنه وثيقة تؤكد بشكل محسوس ومختصر “اختلال النسق الاجتماعي” بين الحاكم والمحكوم، وعدم الانسجام التاريخي بين الاثنين، الامر الذي يصنع حالة من سجر النار تحت الرماد. الرماد بما يمثل سلماً اجتماعياً، سيكون كثيفاً بكثافة التأصيل الديني في المذهب الشيعي، الذي يتحرز كثيراً في الدماء، ويسعى لأكبر قدر من خفض الخسائر في الأرواح، وهذا النوع من الرماد الكثيف الذي غطى نار الغضب عند الناس الغاضبين قد لا يصمد طويلاً، بل بوادر عدم صموده لاحت في الأفق. (سنتطرق لدور الأثر الشرعي في ضبط إيقاع العنف).
وعوداً لحيثية تقرير البندر، وما لمسه الناس من أثرٍ واضح وملموس في تغيير التركيبة السكانية، فقد خلقت خطة التغيير السكاني نوعا من الشرخ المجتمعي، تمثل في دخول ثقافات دخيلة من جهة، وخلقت حيثية طبقية، تمثلت في تقديم المجنسين في المميزات المدنية (كالسكن والرواتب…) كون أكثر المجنسين في السلك العسكري. مما نتج عنه شعور عنصري متبادل بين المجنس والأصلي يشوبه شيء من القهر والحنق.
3- عوامل الإكـراه وأسباب القوة
إذا كانت السياسة هي لعبة المصالح بين الطبقات، فإن وسائل الإكراه من أهم أعمدة تلك اللعبة، والعامل الثالث في هذه الدراسة يتحدث عن وسائل الإكراه، أو ما يعرف باستخدام وسائل القوة، فإذا كانت السلطة تحتكر تلك الوسائل، سعت القوى الأخرى للحصول على نصيب منها، ولا فرق في ذلك بين القوى الداخلية للبلدان مع الأنظمة الحاكمة، أو القوى الدولية فيما بينها.
وفي الحالة البحرينية، لا يحتاج المتتبع لدليل على أن السلطة الحاكمة سيطرت على كل وسائل القوة واحتكرتها، فمنذ تولي رئيس الوزراء خليفة بن سلمان رئاسة الوزراء في السبعينات، سعى إلى احتكار الاقتصاد، عبر ثنائية ذكية وخبيثة تتمحور حول إنشاء مؤسسات خاصة (أو المشاركة في مؤسسات خاصة) في كل المجالات، ومن ثم تطويع قرار الوزارات للتعاقد مع تلك المؤسسات، وبذلك، يضخ المال العام في المال الخاص، عبر دورة حيوية، تدر عليه وعلى عائلته الثروة، وتعطي البحرين مكانة استثمارية كونها رعت المؤسسات الخاصة وأعطتها حظوة. هذا من الجانب الاقتصادي. اما من الجانب الأمني، فإن خليفة بن سلمان وبمعاونة عدد من المستشارين الأمنيين (إيان هندرسون مثالا)، أسكت كل صوت يطالب بكسر ذلك الاحتكار، مما أدى إلى تغلغل يد رئيس الوزراء في كل شيء، وجعل الحركات الوطنية – الإسلامية وغير الإسلامية- تفكِّر في اللجوء للعنف (كاضطرار وحاجة) .
ويذكر هنا ان الأحزاب السياسية في البحرين هي أحزاب ذات تأسيسات خارجية، أي تابعة لتنظيمات خارجية، وتلك التنظيمات الأم لجأت في فترات من تاريخها إلى العنف، والقراءة من تلك الزاوية مفيدة في رسم الخارطة الواضحة لأركان الصراع في البحرين. فاليسار أتى بعضه من حزب توده الإيراني الشيوعي، وبعضه الآخر من حركة القوميين في مصر إبان فترة جمال عبدالناصر. والإسلاميون الشيعة بعضهم من حزب الدعوة وقسم من حزب الله، وآخرون من التيار الشيرازي، وكل أولئك لجأوا في أكثر من منطقة إلى العنف.
ومن الممكن دراسة “الخطاب الحزبي” منذ التأسيس لنتعرف على أسس التفكير وأنماطه المختلفة لدى أحزاب البحرين، ولولا أنه سيأخذ بنا المقام لقمنا به، لكن كلمحة عابرة، فإن خطابات الجبهة الشعبية (اليساريَّة) في السبعينات كان تحرير البحرين والخليج بالنضال المسلح، وخطابات الجبهة الإسلامية (الشيرازية) تحرير البحرين بالسلاح، كما أن حزب الدعوة الإسلامي له سابقة مع التدريب العسكري.
وهذا لا يعني أن الأحزاب أو الناس ابتدأت العنف، فالغازي هو البادئ، إلا أن مقتطفات التاريخ، لا تسمح بقبول المقولة الشعاراتية: أن العنف بعيد عن شعب البحرين. ذلك أن طبيعة الإنسان في أي مكان أن يترجم التراكمات – في مراحل معينة – إلى أفعال عنيفة. وبذلك فإن البذور موجودة، ولعلها براعم ستينع مع هطول العنف الرسمي على المجتمع.
4- اكتمال شروط الصراع الطبقي
كيف يفسر كارل ماركس حركة الإنتاج عند البشر؟ هذا السؤال فتح أفقاً كبيراً في قراءة “الرابط” بين السياسة والاقتصاد، مما ادى إلى ترسيخ الاعتقاد ببشاعة الرأسمالية، فنظم الإنتاج لا تتصاعد متوازية، إنما تصطدم في نقطة من “تصادم المصالح”، وبالتالي يؤدي ذلك إلى حتمية الصراع، وكما يذهب ماركس: فإن نمط الإنتاج للحياة المادية يحدد بشكل عام عملية الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية وأن قوى المجتمع الإنتاجية المادية عند مرحلة محددة من تطورها تصبح في حالة صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، والتي بدورها تتحول إلى قيود للقوى الإنتاجية وعند هذه الحالة تبدأ مرحلة العنف في المجتمع والذي يأخذ شكل صراع بين الطبقات في المجتمع.
والصراع في البحرين بين الطبقات قائم على أشده، فصراع الاقتصاد يتمثل في التجار وصراعهم على الاحتكار الناعم، والمقصود منه هو حجم التنافس على كسب مزايا المناقصات الحكومية، والتي يبدو لأول وهلة أمراً طبيعياً، إلا أنه غير ذلك، فمستوى التحالفات مع آل خليفة أو أجنحة بعينها تتيح لهذا التاجر أو ذاك الظفر بالمناقصة، مما طبّع السوق بطبع هذا النسق من التحالفات المخلّة بالتنافس السوي، وأكسبهم هذا النوع من السلوك التنافسي غير السوي.
كما أن الصراع المعرفي يتجلى بوضوح فاقع عند المسلمين الشيعة، حيث تتنافس الأحزاب الشيعية على ضخ الكم الهائل من الأدبيات، لتثبيت الأتباع، ولإقناع الخصوم. أما الصراع السياسي الذي يدور بين أجنحة الحكم من جهة فيما بينهم، وبين العائلة الحاكمة والأحزاب من جهة أخرى، فإنه يشتد ويتفرع (لاحظ ان المعارضة كانت ثلاث شرائح، اما الآن فقد أصبحت أكثر من عشر شرائح: (الائتلاف، الوفاء، حق، الوفاق، العمل الاسلامي، السرايا، اليسار وتضم عددا من الجمعيات…). وكل ذلك في مجموعه وتراكمه يساوي عند نقطة ما عنفاً سياسياً. على الأقل بحسب ماركس، إذ لا يتحمل كل طرف حجم إنتاجية الآخر، لأنه يعتبر أن ذلك ضرر ينبغي تحجيمه أو الحد من منسوبه، وانسيابه.
رابعا: موانع العنف السياسي
إذا كانت كل تلك العوامل موجودة، فالسؤال الذي يطرح: لماذا العنف السياسي في البحرين لا يصمد طويلاً؟ ويظهر في فترات ثم يخمد؟ أي، أن العنف السياسي بحرينيا لم يتحول لظاهرة، بل هي حالات لا أكثر، لماذا؟ ما سبب المنع في تحوله لظاهرة؟ الجواب يمكن قراءته من خلال ثلاثة عوامل، نعتبرها الأهم في إخماد ظاهرة العنف في الحالة البحرينية، وهي:
1- القبضة الأمنية المُحكمة: وهي السياسة الأمنية التي تعتمد على المخابرات والردع كعنصرين أساسيين في تطويق أي حركة أو حزب أو جماعة، مما يثبّط من عزائم الحراك المتجَّه نحو هذا الاتجاه. وأمثلته كثيرة وواضحة في البحرين.
2- هو عامل التأصيل الديني الشيعي: حيث تتكتل المعارضة في الطائفة الشيعية، والفقه الشيعي متحرز جداً في الدماء، وأصوله الفقهية في هذا الجانب صعبة للغاية، بحيث لا يتساهل في رخصة الدم إلا بعد ظروف موضوعية كثيرة ومقنعة.
ويعزو الكثير من المتابعين هذا العامل كواحد من أهم العوامل التي تمسك يد الشيعة من الانفلات، إذ من المعروف أن أتباع مذهب أهل البيت يتبعون في الغالب قادتهم، وبدورهم يقف القادة حائلين دون انتشار العنف. ويرجع ذلك للبحوث الفقهية التي كتبها الأسلاف من الفقهاء الشيعة حول الروايات الواردة عن الأئمة التي يعتقد الشيعة بمعصوميتهم ومعصومية كلامهم، فهناك أحاديث وردت عنهم فيما عرف بروايات “محجمة دم”، مثل رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنَّ الرَّجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم، فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال: بلى ذكرت عبدي فلاناً، فترقى ذلك حتى قُتل، فأصابك من دمه» .(3)
3- هو موقعية البحرين في الاستراتيجية الأمريكية، وقد أورد الدكتور أمين حطيط في دراسة له أربعة عوامل مهمة لإعطاء البحرين تلك الأهمية، رغم أنها محدودة الموارد جداً، تلك العوامل هي:
أ- البحرين عبارة عن جزر، توفر لمن يتمركز فيها مزايا عسكرية مهمة، تتعلق بالحركة البحرية في الخليج وحماية شاطئه الجنوبي الغربي؛ ومن أجل ذلك سارعت أمريكا، وعبر عملية الانتشار العسكري في المنطقة تلك، إلى اعتماد البحرين قاعدة عسكرية تقيم فيها قيادة الأسطول الأمريكي الخامس الموكل بمهمة السيطرة على الخليج، ومنه على مضيق هرمز وبحر العرب فالمحيط الهندي.
ب- وهذه الجزر تقابل الشاطئ الإيراني، وتوفر لمن يتمركز فيها قدرات إضافية لمراقبة الشاطئ وإقامة قواعد الإنذار المبكر ضد أي تحرك إيراني في اتجاه الشاطئ الجنوبي، حيث دول النفط العربي. وقد استغلت أمريكا هذا الموقع لإقامة قواعد الرادار والتنصت والتجسس في المنطقة، خاصة ضد إيران خصمها الرئيس والأخطر في المنطقة.
ج- منطقة تشكل مع قطر قواعد متقدمة في عمق الخليج للدفاع عن دول التعاون الخليجي ضد “الخطر الإيراني” المزعوم.
د- دولة ذات أكثرية شعبية من المسلمين الشيعة الذين لبعضهم جذور إيرانية، يخشى معها – في حال إقامة حكم ديمقراطي على أساس اكثرية شعبية – أن تقيم علاقات استراتيجية وبنيوية مع إيران، وهنا ستنتقل البحرين من واقعها الحاضر بوصفها جزءًا من منظومة تستعملها أمريكا ضد إيران، إلى قاعدة إيرانية تستعملها إيران ضد المنظومة الخليجية المؤطَّرة تحت اسم “مجلس التعاون الخليجي” بزعامة سعودية سنية وهابية.مركزالبحرين للدراسات – لندن (4)
خامسا: التحديات التي تواجه موانع العنف السياسي
في العاملين الأول والثالث من العوامل التي أوردناها كموانع للعنف السياسي، يتلخص الموضوع السياسي الأمني في صيغته التقليدية عبر هذا السؤال: كيف تواجه الجماهير الغاضبة قوتين: القوة الخليفية والقوة الأمريكية؟ هذا السؤال الذي يبدو لوهلة حاجزاً صلباً امام تحقق العنف، فإن قراءة أخرى تفسر أن صياغته جاءت من خلال منطق حساب المصالح. أي المنطق السياسي البحت الذي يتعامل به السياسي مع خصومه السياسيين. لكن قراءة للواقع البشري عبر التاريخ، تؤكد ان الغضب الجماهيري لا تمنعه شحة العوائد السياسية، ولا تقف حائلاً أمام أسباب العقل دوماً. خصوصا بعد ما عرف بـ”الربيع العربي”، وسقوط ديكتاتوريات كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، حيث بات الرهان على ضبط الشارع صعباً جداً. وليس البحرين استثناءً، خصوصاً إذا عرفنا أن الفرص للحل السياسي ستكون هشَّة؛ لأن الظروف الموضوعية التي تختلج الناس جعلت الكثير منهم لا يثق بالحكم القائم في المنامة، ولا بوعوده المتكررة، التي لا تصمد عقداً من الزمن على أكثر تقدير. كما أن الاستراتيجيات الغربية تتكشف يوماً بعد آخر بأنها تذكي الصراع الطائفي، مع الحفاظ على منسوب مستوى العنف، بحسب كل منطقة. فبالتالي تتكتل الأسباب لاختراق الجدار الصلب الذي ظل صامداً دون انفلات. وفي الحالة البحرينية يتضاعف الأمر، ويغدو أكثر تعقيداً، فالجماهير لحد الآن لم تنفّس غضبها، وبخلاف النهج السلمي الذي انتهجته الشعوب الأخرى، فإن البحرينيين كتموا الغضب كثيراً، لأن ممارسة السلمية وقعت في التباس تطبيقيّ، بحيث لم تغد فرعاً للعصيان المدني، لينفس الناس عن احتجاجهم بوسائل موجعة للديكتاتور وإن كانت سلمية. وهذه الحال التي انتهجتها الجمعيات السياسية في البحرين، لن يظهر أثرها سريعاً، لكن إن ظهر فسيكون مرتداً على نهجها بشكل عكسي، ولعل ما عرف بـ”سرايا الأشتر” و”سرايا المختار” وغيرها يعد نموذجاً على ذلك الارتداد العنيف، الذي لا يقيم لرأي الجمعيات اعتباراً، وقد تتوسع أكثر مع الأيام.
في الجانب الآخر هناك تحدٍ للتأصيل الديني السائد، والذي يتحرز ويتحوَّط حول “الدماء”، هذا التحدي يتمثل في تبني بعض المجتهدين لموضوع “المقاومة”، وهذا التأصيل يأتي عبر العنوان الفقهي الثانوي، الذي يعطي رأيه وفق إنكار المنكر ودرء المفسدة والمظالم كما يعبر أهل الفقه. ولعل عينة الشيخ محسن الآراكي (عضو سابق في مجلس الخبراء الايراني مولود 1956)، تمثل نموذجاً لتوسع مساحة الاختلاف في تشخيص الحال البحرينية. وقد ألقى الشيخ الآراكي في أواخر العام 2012 كلمة مصورة شجَّع فيها البحرينيين على المقاومة، ويروج تيار الوفاء الإسلامي للشيخ الآراكي، وهو تيار تابع للأستاذ عبدالوهاب حسين (من الرموز المعروفين مولود 1954) .
ولا ينبغي نسيان وضعية “المركزية” في القرار، فبعد أن اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعي العديد من المجتمعات، ومنها المجتمع البحريني، وصار المتلقي يقيم بنفسه الكم الهائل من المعلومات والتوجيهات والآراء، صارت للتكنولوجيا مساحة في تكوين الوعي، وبالتالي هذه المساحة أخذت شطراً من “مركزية” القرارات التي كانت سائدة قبل عقد وأكثر. مما يمثل تحديا إضافيا من تحديات موانع العنف في البحرين. والمتابع لشبكات التواصل الاجتماعي في البحرين يجد أن الداعين للعنف السياسي يملأون الفضاء الالكتروني، تحت عناوين مثيرة، كالأخذ بثأر الشهداء والانتصار للعفيفات المغتصبات، ورد الاعتبار وغيرها من العناوين الكثيرة، التي تضرب الذاكرة الموجوعة على جرحها.
من هنا يمثل العنف السياسي موضوعاً إشكالياً، وليس موضوعا عابرا وبسيطا، وتحديات نجاحه تناطح تحديات فشله. وبالتالي لا يمكن حسم الموضوع إلا بقراءة أخرى للعنف.
وقد اقترحتُ على بعض المتصدين أن يغيروا من زاوية الممارسة السياسية في المواجهة، أي أن يغيروا من الطريقة التطبيقية للسلمية، لكي يستطيع الناس تنفيس غضبهم، وبذلك يمكن إطالة عمر احتواء العنف السياسي من الانفلات. وكتبتُ مقالة بعنوان (هل فهمنا السلمية؟) قلت فيها: “يواجه مفهوم “السلمية” -بحرينياً- عقبتين، الأولى تتمثل في فهم ملابسات هذا المصطلح، والثانية تتمثل في تطبيقاته. في العقبة الأولى، ليس هناك قصور علمي عند الجماهير، فضلاً عن نخبهم، لكن المشكلة الحقيقية هنا تتمثل في إكراهات الواقع التي فرضت على الناس تصوراً يحكي الثنائيات القاتلة: السلمية المقصورة على اللاعنف، والسلمية المعبرة بقسوة الموادعة على عدم العداء الطائفي. وغيرها من الثنائيات المماثلة التي شكلت الوعي إزاء مفهوم السلمية. ولعل العقبة الثانية متولدة من الأولى، فالتطبيق الخاطئ جاء من رحم التصور عن “السلمية” التي أخذت دور المترافع ضد تُهَم الطائفية والعمالة للخارج. فكان التطبيق فقط منع العنف والتعبير عن ذلك بإفراط لا تحتاجه الحركات المطلبية عادةً. ومن المفيد معرفة أن السلمية عنوان فرعي للعصيان المدني، بل وتعرّف بعض كتب السياسة أن العصيان المدني “حركة سلمية في خرق القانون”، وبذلك تكون سلمية فاعلة ومؤثر وتعتبر من أقوى الأسلحة النضالية في العصر الحديث إذا ما وجهت توجيها صحيحاً وسليما”.
لعل هذه الدراسة لا تقدم توصيات ولا تقترح حلولا، سوى؛ دراسة الوضع بشيء من العمق، والتشجيع على إنشاء مراكز دراسات حقيقية للبحث مليّاً في وضع المجتمع وحراكه المتماوج، وارتداد الأفعال المحيطة في المنطقة والإقليم للداخل، كما من المهم دراسة التراكمات النفسية التي خلفتها قبيلة آل خليفة في شعب البحرين، لمعرفة الأفق الذي يحلق فيه مستقبل الناس.
الخلاصه
من الممكن أن نقرر نتيجة منهجية من البحث، مفادها أن العنف السياسي في البحرين وفي هذه الآونة بات أقرب للتحقق من أي فترة سابقة، لعدة عوامل:
العامل الأول: أن التأصيل الديني الحاقن للدماء يقابله تأصيل ديني يحرض على الشهادة والمقاومة والفداء.
العامل الثاني: أن انشطار القوى المعارضة لعدة شرائح تضعف من مركزية القرار التقليدي الدافع للسلم، وبالتالي الخروج عنه لم يعد من المستحيلات.
العامل الثالث: الاحتقان الكبير عند الناس جراء التراكم التاريخي للعنف الرسمي، وفشل خيارات التعاطي السلمي مع كيان يشتد في عنفه وانتهاكه للحرمات.
العامل الرابع: ظهور بعض التنظيمات التي تنتهج العنف، وإعطاء نموذج مختلف عن السائد في ردات الفعل المجتمعية.
العامل الخامس: التطورات الإقليمية كسرت هيبة الأنظمة، وخلطت الفوضى فيما بينها، مما سيعزز خيارات العنف التي تتبناها بعض الاتجاهات في البحرين.
العامل السادس: استخدام التقنية الافتراضية في بث وترغيب وتحبيب بعض الاتجاهات بات سهلا ويسيراً ومؤثرا ً بشكل كبير، مما يكثّر من قنوات التأثير على المتلقي.
الهوامش
1- انظر ظاهرة العنف السياسي في الجزائر ـ دراسة تحليلية مقارنة 76-1998.
2- عباس المرشد، القرى المختفية، «الفداوية» وأنظمة الضبط والسيطرة «4»، نشرة الوفاق 27-11-2009.
3- راجع وسائل الشيعة باب القصاص في النفس.
4- راجع: موقع البحرين في الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، أمين حطيط، مركزالبحرين للدراسات – لندن.
لقراءة النص العربي pdf/ والانجليزي / و الانجليزي pdf