- مصر والإشكاليّة الطّائفيّة في الشرق الأوسط
- أهمّية موضوع البحث
- أولاً: مدى الحضور الطائفي في مصر
- ثانياً: أسس العلاقات الخارجيّة المصريّة وصلة ذلك بالبعد الطائفي
- ثالثاً: العلاقات مع إيران وتأثّرها بالبُعد الطائفي
- رابعاً: العلاقات مع العراق وتأثرها بالبعد الطائفي
- خامساً: العلاقات مع الشيعة العرب في البحرين، وتأثرها بالبعد الطائفي
- سادساً: العلاقات المصرية مع حزب الله في لبنان
- سابعاً: دور موسّسة الأزهر الدّينيّة وتأثيرها في علاقة مصر بالعالم
- الخلاصة العامة
- هوامش
يشهدُ الشّرقُ الأوسط حالةً من عدم الاستقرار والصّراعات الدّمويّة، وأصبح منظرُ الاقتتال على “الهويّة” من المناظرِ المألوفةِ في منطقةٍ يتنامى فيها الاحتقانُ الطّائفي على نحوٍ يمكن أن يقودها إلى المجهول.
في هذا المشهد؛ يُشكّل البُعدان السّني والشّيعي جوهر الإشكاليّة التي تأخذ العنوان الطّائفي، حيث ترتفعُ الأبواقُ التي تُنادي بالمواجهةِ والفتنةِ وباستخدام أدوات التّدمير والاحترابِ التي يُمكنها أن تحصد الأخضر واليابس وبشكلٍ أكثر سوداويّة ممّا يجري. يتمّ ذلك جرّاء تصاعُد موجة التّشدّد الدّيني، ونموّ التّيارات الأيديولوجيّة التي تستخدم العنف في التّعبير عن مواقفها، وما هو أدّى إلى صراعاتٍ طاحنةٍ هدّدت وحدة الأوطان في العديد من بلدان الشّرق الأوسط، حيث تتميّز هذه البلدان بتعدّد تركيبتها الاجتماعيّة والاختلاف المذهبي والعقيدي والإثني. وبالنّظر إلى ما تنطوي عليه الحراكات الاجتماعيّة من نتائج وإفرازات ومؤشرات؛ فإنّ هناك حاجّة ماسّة تستدعي البحث عن الأسباب، ومحاولة اقتراح الحلول التي تُساعِد على تطويق هذا الاحتقان أو التّقليل من حجمه وتداعياته.
إنّ إقليم الشّرق الأوسط يمتاز بالتنوّع، والمدخل التّوحيدي (الوحدة) هو السّبيل المُتاح لاحتواء هذا التنوّع والانسجام معه. وتجلّت مظاهر هذا التوجّه مع بداية ظهور ما يُسمّى بـ”الدّولة القوميّة” الواحدة، والتي جمعت الطّوائف والأقلّيّات في بوتقةٍ واحدة، ضمن هدفٍ مشترك يأخذُ عنوان “مصلحة الوطن”، وبعيداً عن المصالح الفرديّة، أو مصالح الجماعات المغلقة.
وعلى الرّغم من وجود التنوّع داخل النّظم السّياسيّة التي تحكم دول الإقليم – الملكيّات والجمهوريّات معاً – وتعايش المذاهب المختلفة فيها بين أكثريّةٍ وأقلّيّة؛ إلاّ أنّه لم تُسجَّل فيها مظاهر للاحتقان الطّائفي إلاّ في مراحل متأخّرة نسبيّاً. وبعضُ الباحثين يربط ذلك مع قيام الثّورة الإيرانيّة بقيادة الزّعيم الرّاحل روح الله الخميني في عام عام 1979، وما نتجَ عن ذلك من مخاوف عبّرت عنها بعضُ الأنظمة في الدّول العربيّة وتوجّسها من تأثيرات الثّورة الإيرانيّة وانعكاساتها عليها.
في هذا البحث، نركّزُ تحديداً على العلاقات الإقليميّة لمصر بوصفها دولةً لا تُعاني داخليّاً من الإشكاليّة الطّائفيّة، ولا تُشكّل دوراً تفريقيّاً بها، ولكنها تتأثّر بما يحدث في الدّول الأخرى المُحيطة بها، وخاصة تلك التي تزخر بالتّواجد الشّيعي، مثل إيران والعراق، إضافة إلى الوجود الشّيعي في الخليج، وخصوصاً في البحرين.
ومن المُلاحظ أنّ كلّ دولةٍ من هذه الدّول تختلفُ عن الأخرى في نظام الحكم، فالعراقُ يتحرّكُ على أرضيّةٍ متوتّرة بين العراق المُوحّد وإرهاصات الفيدراليّة. وإيران يحكمها نظامٌ “ثيوقراطي” جمهوري يجمعُ الدّين بالسّياسة، في إطار تركيبةٍ نظاميّة معقّدة. أمّا البحرين؛ فتحكمها (عائلة ملكيّة) تنتمي للأقليّة السّنيّة، مع وجود “أغلبيّة شيعيّة” تُطالب في معظمها بملكيّة دستوريّة(1) ونتيجة لهذه التّركيبة الديموغرافيّة، فإنّ البحرين تشهدُ قدراً مثيراً من الصّراع الطّائفي.
إنّ العامل الدّيني يمكن أنْ يكون مدخلاً لتوحيد الشّعوب، إلاّ أنّ التنوّع الفقهي تحوّل إلى مُحفّزٍ غير إيجابي في تأجيج النّزوع الطّائفي، وذلك نتيجة هيمنة العقل المتشدّد، وتراجع الفهم الدّيني الصّحيح لدى بعض الجماعات “الدّينيّة” التي تنتهجُ العنف وتدعو إلى الفرقة. يُضاف إلى ذلك، اختلاف الموروث السّياسي والاجتماعي من دولةٍ لأخرى في الإقليم، وتباين أنظمة الحكم فيها.
الفيلسوف أبو نصر الفارابي يصفُ هذا الحال في شرحه لآراء “أهل المدينة الفاضلة” ويقول: “وصنفٌ آخرون من الناس يتزيّف عندهم المثالات كلها، لما فيها من مواضع العناد، ولأنهم أسأوا الأفهام، يغلطون أيضاً عن مواضع الحقّ من المثالات فيتزيف منها عندهم ما ليس موضعاً للعناد أصلاً، وإذا رُفعوا إلى طبقة الحقّ حتى يعرفوها؛ أضلّهم سوء فهمهم عنه، حتى يتخيّلوا الحقّ على غير ما هو به أيضاً، فيظنون أن الذى تصوّروه هو الذى ادّعى المحق أنه الحق، وأن تزيّف ذلك عندهم ظنوا أن الذى تزيّف هو الحق لا الذى فهموه هم، فيقع لهم لأجل ذلك أنه لا حقًّ أصلاً، وأن الذى يٓظُنّ أنه أُرشِد إلى الحق مغرورٌ، وأن الذى يقال فيه أنه مُرشد إلى الحق مخادع طالب بما يقول من ذلك رئاسة أو غيرها”(2).
فلسفة الفارابي هذه تؤكد لنا ما هو واقعٌ اليوم من سوء الفهم الدّيني، والتشدّد الأيديولوجي عند أولئك الذين يستخدمون الدّينَ لغاياتٍ خاصة، أو وسيلة للوصول إلى أهدافٍ معيّنة. وهو سلوكٌ تحايليّ يؤدي إلى اختلاط الحقّ بالباطل، ويُمثّل الأرضيّة المُعزّزة لدعواتِ الصّراع الدّاخلي على أساس ديني، بحجّة الوصول إلى السّلطة والزّعامة.
وينقل أبو الحسن الأشعري في “مقالات الإسلاميين” جانباً من هذه الصّورة، ويقول: “وقد أدرك سيّدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه خطورة النّصوص مُحذّراً من استخدامها في إسالة الدّماء، وعندما كان يُقاتل معاوية في معركة (صفين) كان يُردّد:
نحن ضربناكم على تزويله * فاليوم نضربكم على تأويله
حرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله” (3). فالإسلام، منذ ذلك الوقت، تحوّل إلى آراء أيديولوجيّة على ضفاف النّص، على خلافِ البلاغيين والفقهاء المدرسيين الذين يستندون على قواعد أصوليّة في قراءتهم للنّص القرآني.