تقترح هذه الورقة عنوانا مختلفا لقراءة المشكل الثوري في البحرين، في ظل ثورة تراوح محلها، وتعاني من اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية، حيث سنسعى من خلال البحث معالجة ذلك، عبر طَرْق عدد من الأسئلة المهمة في المشكل المعرفي، وصولاً إلى طرق عدد من النواقص في الجسم الثوري البحريني.
تقترح هذه الورقة عنوانا مختلفا لقراءة المشكل الثوري في البحرين، في ظل ثورة تراوح محلها، وتعاني من اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية، حيث سنسعى من خلال البحث معالجة ذلك، عبر طَرْق عدد من الأسئلة المهمة في المشكل المعرفي، وصولاً إلى طرق عدد من النواقص في الجسم الثوري البحريني.
ففي قراءة الاختلاف الحاصل بين الفئات المعارضة في البحرين، يظهر لنا مدى عمق ذلك الاختلاف الذي يترقى أحيانا لدرجة الخلاف، والذي يتمظهر شكله في أكثر من قالب، بعضه عقلاني وبعضه غير ذلك.
في الشكل، الاختلافات الحاصلة في البين المعارض متعددة، لكن هل هو كذلك في العمق؟
لو نرجع للذاكرة في فجر الرابع عشر من فبراير 2011، وما اتخذه ذلك اليوم وما يليه من تزايد أعداد المتظاهرين والمحتجين، حتى بات دوار مجلس التعاون “دوار اللؤلؤة”، موئلا لحشود من الشعب البحريني، في اعتصام حاشد وعلى مدار الساعة رافعا شعار التغيير الجذري وإسقاط النظام.
هناك إذن إجماع في اللحظة الثورية، اتخذ سمة العنفوان والحماس، والإصرار على نفض تركة ثقيلة من تاريخ البحرين خلفتها العائلة الخليفية طوال قرنين من الزمن وأكثر.
لكن ظهرت قوى سياسية تطالب بإصلاحات، انتجت انقساماً كبيرا في الفئات المعارضة، خصوصا بعد عسكرة الدوار بدخول درع الجزيرة في مارس ذات العام (عام الثورة 2011).
اتخذ شباب الرابع عشر من فبراير منحيان، المنحى الأول: هو المنحى “الثوري التقني” ، ويترجم في تقنيات “العصيان المدني” المتصاعد، ورفع وتيرة التمنع ورفض القانون الحكومي المفروض، وقد أمتد هذا الأسلوب إلى ما قبل الضربة الثانية للدوار في مارس 2011، ووصف هذا المنحى من قبل بعض المراقبين بالخيار الثوري الحقيقي، وهو أكثر ثورية من خيار المواجهة الميدانية الذي اعُتمدَ لاحقا مع تزايد ضحايا التعذيب. كالفعاليات المقامة بين فبراير وابريل من عام 2011، مثل اعتصام المرفأ المالي في 7 مارس 2011، ومسيرة الديوان الملكي في 11 من نفس الشهر، كما هدد القيادي في حركة حق المعتقل عبدالجليل السنقيس، باحتلال الوزارات وشل الطرقات الرئيسية في المنامة، كل تلك الأساليب أكثر ثورية من المولوتوف والأسياخ الحديدية والإطارات..الخ التي استخدم بعضها في الفترة التي أعقبت فض اعتصام دوار اللؤلؤة.
ألا أن “المنحى” الثاني الذي اتخذه الثوار، من اعتماد جداول للمسيرات والاعتصامات في المناطق الشيعية، مثّل تحولا كبيرا في تفاصيل ثورة البحرين، ويرجع السبب الأكبر في ذلك للخيار الأمني الصارم، الذي اتخذته العائلة الخليفية بمساعدة من السعوديين.
في الثورة البحرينية إذن أسلوبان، الأول: المنطق الثوري للشباب بصورتيه/ بمنحييه الآنفين، والثاني: الأسلوب السياسي للجمعيات بسقفها الإصلاحي. ألا أن كلاهما يتحدثان بإسم الثورة، مما يوقع الخلاف الشديد بين المكونين المعارضين.
فشباب الرابع عشر من فبراير يتمسكون بعنوان الثورة، لأنهم من أطلقوها، وأشعلوا جذوة لحظتها، وقدموا الكثير من التضحيات في سبيلها، وأما الجمعيات -جمعية الوفاق الوطني الإسلامية تحديدا- تتحدث باسم الثورة لما تمتلك من جماهير أعطت زخماً للحظة الثورية، وشكلت عددا وازناً في المعادلة الشعبية بين فريقي المعارضة والموالاة.
ألا أنه يمكن القول أن الجنبة التقنية “لديناميكيات الثورات” تفضي إلى أن كلا الفصيلين لا ينتهجان نهج “ثورة”، فالجمعيات بقيادة الوفاق تنتهج بشكل واضح نهجا سياسيا، يخضع للمعادلات السياسية المحضة. وأما شباب الرابع عشر من فبراير، فهم يمارسون عمليا احتجاجات، يتسم معظمها بالخجول، ولعل تلك الاحتجاجات تزعج السلطة وربما تقلقها، لكن لا تثقل كاهلها الأمني والاقتصادي إلا بنسبة هامشية ترتفع وتنزل حسب ظهور فئات ثورية أكثر تنظيما، وسرعان ما تكتشف وتقمع.
يقرر غوستاين غاردر في كتابه “عالم صوفي”، ان فرويد اعتبر اللاوعي شيئا من صميم الطبيعة البشرية، حيث كان فرويد يعتقد “بوجود علاقة صراعية دائمة بين الانسان ومحيطه. وتحديداً بين رغبات الانسان وغرائزه من جهة، ومتطلبات ومحرمات العالم المحيط به، فليس العقل وحده هو الذي يقود أفعالنا، لأن الانسان ليس كائنا عقلانيا بحتا، كما أراد الفلاسفة العقلانيون في القرن الثامن عشر، أن يقنعونا، فغالبا ما تحدد ما نفكر به أو نحلم به اندفاعات لا عقلانية”.[1]
وهذه المحددات الفعلية العميقة في ذهنية الإنسان تتفاعل وطبيعة الثقافة المؤطرة للسلوك، وفي موضوع الثورة البحرينية، فإن الاندفاعات المتموضعة في دائرة المصلحة هي ما تشكل وعي الثوري والسياسي معاً. طبعا المصلحة بمعناها الواسع، المشتمل على اللذة ودفع الألم، والراحة النفسانية المستجلبة من خيارات خارج نطاق الشعور الإدراكي.
من الممكن بحث “الثورة” في البحرين من خلال المقاييس السياسية، أو الإعلامية أو الحقوقية، لكن ممن الممكن طرق البحث الإدراكي في هذا الجانب أيضا، وهو بحث يشترك بين علم الاجتماع وعلم النفس، وهو أحد أدوات الدراسات الأكاديمية المتقنة لفهم مجتمع ما.
من ذلك المجال يمتد خيط إلى الفعل الميداني، المتمثل في ثورة مقموعة (شباب 14 فبراير)، عاجزة عن فعل أدوات الثورة، وتسمي عناوينها كلها بعناوين ثورية على نحو التصديق اليقيني، ويمتد ذلك الخيط أيضا إلى فعل ٍ سياسي خالص (الجمعيات السياسية)، يسمي نفسه بالفعل الثوري على نحو الاستهلاك الإعلامي، ويصدقه تابعوه بتصديق يقيني أيضا أنه ثورة.
وبين هذا وذاك، تكمن مغالبة في تفاصيل موضوعيهما فضلا عن الغايتين، فيغالب الثوري السياسي في أدواته القانونية وأطره الذي لايستطيع الخروج عنها، كما يعاكس السياسي الثوري في اندفاعاته وطرائقها المختلفة، وكلاهما يتوفران على قدر كبير ٍ من المواربة غير الحقيقية في الفعل الثوري.
إن الثورة بما تعني هدما لبناء ما وإعادة بناؤه، يشي بمفردة غريبة على الواقع البحريني، وإذا تلطفنا في القول، فإن مفردة الثورة تبعد بمسافة عن الحاصل الحقيقي في الداخل، والأمر لا يعود إلى المجال السياسي والأمني إذا ما تحررنا من التفسير السياسي والغطرسة الإعلامية المستهلكة.
فكل الأحداث التي تحصل في البحرين منطلقها “الهم المصيري” للناس، وجدير بهذا الهم أن يدرس أصحابه الداء المعرفي لمشكلهم.
ويمكننا هنا أن نستعير فلسفة ديمقريطيس في فهم الأجزاء، وكونها قابلة لإعادة التركيب لأجسام مختلفة دوما، هذه الاستعارة منطلقها هذا السؤال:
لماذا ثورة البحرين راكدة؟
هناك كما قلنا إجابات سياسية يمكن أن يطنب فيها المحللون السياسيون كثيراً، لكن – وكما قلنا أيضاً- هناك جوانب أخرى من الجدير بالباحث دراستها والكشف عن مكنوناتها.
إن الركود العقلي والنفسي يمثل حجر الأساس للركود الإنساني بجميع فروعه الاقتصادية والسياسية ..الخ، وهذا الركود إنما يتفاعل مع الظروف الأكثر تلائما مع قابليات الإنسان.
لذلك فإن بعض الملهمين الثوريين (كغاندي والخميني مثالا) ينظرون لمفهوم الثورة بنظرة واسعة، تشمل المفاهيم والأعراف والظروف والمجتمع، ولا تختص بالسياسية والحكومة والأمن والوضع الاقتصادي. وبالتالي فإن النقص الاجتماعي في البحرين ليس في جانب السياسيين أو الثوريين.
هناك نقص في الجانب المعرفي/الفكري، فرغم وجود مثقفين ألا أننا نفتقر للمفكرين، وهناك نقص في الجانب الاستراتيجي الغائي، فرغم وجود سياسيين ألا أنه لا يوجد استراتيجيين، وهناك نقص في جانب المخططين الاحترافيين، فرغم وجود ثوريين ألا أنه لا يوجد مخططين.
كل تلك الأدوات الواقعية في تكامل أضلاع الثورة الفاعلة، تفرض أسئلة على المكونات المعارضة، التي تتعالى على النواقص بالفرضيات، وتعالج دائها بدواء غيرها، فتتخبط وتجعل الآخرين يتخبطون معها، والمشكل أن حدثاً كهذا ليس محض ترف لا يضر التماطل فيه، بل هو مصير مرتبط بأرواح وأنفس الناس، مرتبط بأعراض وأمن وراحة المواطنين، وإذا ما عولج معرفيا ً بطريقة صحيحة، وسدت النواقص بشكل حقيقي، فإن أمراً ما لن يتحرك، وسيبقى آسناً، ليزكم بعد حين برائحة ركوده أنف الواقع، الذي لم يتغير ولم يتبدل، وهل يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟
*باحث بحريني مقيم في لندن
[1]. غوستاين غاردر، رواية حول تاريخ الفلسفة، دار المنى، ص 454