ينشر ضمن ملف “قطر مستقبلا”، الذي يتضمن قراءات لمستقبل السياسة القطرية، في ضوء صراعها مع الثلاثي السعودي الإماراتي البحريني.
ابراهيم العبادي، كاتب عراقي
مركز البحرين للدراسات
لم تشهد العلاقات العراقية القطرية تحسنا مثل ماهي عليه الان، فقد وصف أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في اتصاله الهاتفي برئيس الوزراء العراقي، الانتصار العراقي في تحرير مدينة الموصل من تنظيم (داعش) بانه “انتصار لكل العرب وفرحة دائمة للعراق”، مضيفا “باننا مستعدون للوقوف معكم ودعمكم، وواثقون بانكم تقودون العراق الى بر الامان، ومستعدون للتعاون مع العراق في جميع المجالات”[1].
التوتر سمة العلاقات بين بغداد والدوحة
لم يعهد العراق لغة دبلوماسية قطرية ودية إزاءه منذ سقوط نظام صدام عام ٢٠٠٣، ولم يكن ينتظر تحولا في الخطاب القطري في ضوء تجربة طويلة من المحاولات العراقية المتكررة لفتح صفحة علاقات مع الدوحة، تستهدف تحييد الموقف القطري المتسم بالعداء المبطن ازاء العراق، ودفع المواقف القطرية باتجاه متوازن، ولمنع قطر من التدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وتخفيف الاثر التحريضي لخطابها الاعلامي الذي تقوده الجزيرة، والذي تغلبت عليه أيديولوجية الاخوان المسلمين والاتجاهات الاسلامية المتطرفة بمساهمة بعض عتاة المعادين للنظام السياسي الجديد في العراق.
اتسمت علاقات العراق وقطر بالتوتر منذ اليوم الاول لسقوط النظام في بغداد، رغم ان القوات الامريكية – التي ناصبتها الجزيرة العداء – انطلقت من قطعة أرض مجاورة، أعني قاعدتي العديد والسيلية لتطيح بنظام البعث، الذي سعت قطر لتأهيله اعلاميا وبادرت لإقامة علاقات ودية معه، رغم الجرح الخليجي المتمثل بغزو صدام للكويت، وتداعياته الفكرية والسياسية التي كانت شغلا شاغلا لقناة الجزيرة، والذي بسببه وبسبب عوامل اخرى أتيح لقطر أن تحقق هذا الحضور السياسي، الذي تحول لاحقا إلى أداة من أدوات السياسية الخارجية مدعوما بالوفرة المالية والفرادة الصادمة في المواقف والخروج على المألوف الخليجي والعربي التقليدي.
قطر: دعم التمرد والحفاظ على علاقاتها بطهران
من منطلقات قومية وطائفية لا تخطئها العين، ساندت قطر قوى عراقية سنية، عارضت النظام الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الامريكية، حليف قطر الاستراتيجي وحامية امنها، والداعم لسياساتها في التقريب بين العرب وإسرائيل، والتبشير بالحرية الاعلامية والسياسية، والسماح للنقد السياسي بأن يأخذ مداه عربيا واسلاميا خارج قطر، وليس داخلها.
يوم فكّر الرئيس الامريكي بوش الابن بقصف قناة الجزيرة لإسكات دورها المدمر في العراق، وأثرها المسيء للاستراتيجية الامريكية العلنية، المتمثل باحتواء التمرد الاسلامي السني المتطرف في العراق، كان من الواضح ان قطر تلعب لعبة مزدوجة، فهي تريد للاتجاهات السياسية والدينية القريبة لمزاجها ان تقرر مصير العراق، وفي نفس الوقت تريد الاحتفاظ بالمظلة الحمائية الامريكية، ولا تخسر عامل القوة والـمن الذي تحصل عليه.في الوقت عينه، حافظت قطر على علاقاتها الودية مع إيران الجار الشمالي، الذي تتشارك معه في أكبر حقل غاز عالمي، منح قطر الريادة في سوق الطاقة الدولية، ووفر لها مصدر تمويل هائل لنشاطاتها الدولية السرية والعلنية.
سفير من حزب الدعوة في الدوحة
لم يكن ساسة العراق قصيرو النظر في التعامل مع التأثير المتزايد لقطر وادواتها الاعلامية والسياسية، ولهذا ارسلت بغداد السيد صادق الركابي، أحد قادة حزب الدعوة الاسلامية الذي سيكون له دور كبير في الخريطة السياسية العراقي، كسفير للعراق في قطر.
في حين كان السفير الركابي يواجه أبوابا موصدة في الدوحة، كان قادة ورموز وضباط وتجار نظام صدام يتوافدون على قطر، ليرتفع عدد افراد الجالية العراقية الى أكثر من عشرة الاف شخص، وليتشكل لوبي (بعثي – إسلاموي) يمد أجهزة الاستخبارات القطرية بتفاصيل ورؤى لطبيعة الصراع الدائر في العراق، تخدم نزعة العداء للنظام الجديد، وتنقل رسائل اعلامية يومية مشوهة عن “العراق الجديد”، وعن الصراع السني –الشيعي، الذي تنتصر فيه قطر – بطبيعة الحال – لحلفائها سنة العراق، الذين تغلبت عليهم الاتجاهات السلفية والقومية الشعبوية.لقد تحولت الحكومة القطرية الى راع رسمي للمؤتمرات وممول رئيسي للجماعات المسلحة، وطرف مباشر في توحيد وتقريب وجهات نظر هذه الجماعات ودورها في السياسة العراقية الداخلية.
ورغم هذه المواقف السلبية الا ان العراقيين لم ييأسوا من التواصل مع القطريين رسميا، فيما لم ينقطع التواصل الاجتماعي ولم يكف أمراء ومشايخ قطريون عن المجيء سنويا للعراق، وممارسة رياضة صيد صقوره الثمينة والاستمتاع بصحاريه الباردة شتاءً.
مشاركة قطرية خجولة في قمة بغداد
بقيت قطر الرسمية تواصل جفاءها لبغداد وامتنعت عن المشاركة بوفد عالي المستوى في القمة العربية التي انعقدت ببغداد في مارس عام ٢٠١٢، وكانت مبررات قطر حينها والتي أعلنها رئيس الوزراء وزير الخارجية السيخ جاسم بن جبر آل ثاني بأن لقطر ملاحظات على النظام السياسي في العراق، وأنها لم تحضر للقمة بوفد أكثر من مستوى سفير لأنها تشعر بان السنة في العراق يواجهون التهميش.
كان من الواضح ان قطر انخرطت في الصراعات السياسية العراقية، وإنها تستثمر لدوافع مختلفة في الأوساط العراقية. فمثلما هي صديقة وممول وداعم رئيس للزعامات الاخوانية والبعثية العراقية وفصائلهم المسلحة، ولاحقا لما أطلق عليه بثوار العشائر الذين يرددون شعارات طائفية ويتوعدون بفتح بغداد، كانت قطر تقيم علاقات ودية مع رئاسة اقليم كردستان، وتستثمر في بعض اوجه النشاط الاقتصادي (تملك شركة قطر تيليكوم حصة كبيرة في شركات الهاتف المحمول العراقية).
في نفس الوقت كانت قطر تستقبل وفود رسمية وغير رسمية عراقية وزعامات دينية وسياسية، وتحتفي بهم دون ان يغير ذلك من الموقف القطري الثابت ازاء الوضع العراقي المضطرب.كانت الشكوى العراقية مريرة من المواقف القطرية وكان المزاج الشعبي يزداد غضبا كلما أوغلت الدوحة في نشاطاتها الاعلامية والمالية والمخابراتية الداعمة للخطاب المناوئ لاستقرار العراق.
التبني القطري للمسلحين
كان التبني القطري العلني للفصائل والجماعات المسلحة في سوريا السلفية والقريبة من داعش وجبهة النصرة التي ولدت من احشائها، مدعاة لمزيد من الغضب والحنق من الدور الذي تلعبه قطر على الساحتين العراقية والسورية، واللتين أصبحتا مترابطتين بعد تمكن تنظيم داعش من اجتياح ثلث الاراضي العراقية واسقاط مدن كبرى، كالموصل وتكريت وبيجي والفلوجة وعشرات المدن الاصغر في صيف عام ٢٠١٤.
يومها لم تكن تغطيات الجزيرة والإعلام القطري سوى انعكاس للتوجهات الايديولوجية السلفية التي اعلنت انتصارها، وقاربت من تحقيق أهدافها في أن تكون الوارثة لأنظمة ودول المنطقة التاريخية كالعراق وسوريا، ومصممة على كسر معادلات التوازن الديمغرافي والحدود السيادية للدول، امعانا في تحطيم صنم سايكس بيكو، الذي مهد لولادة الدول القطرية، وهي دول مسخ منافية لعقيدة السلف الدينية وللتوجهات القومية الوحدوية.كانت الجزيرة تحتفي ضمنا بما تحقق، تاركة لراعيها الرسمي دولة قطر حصد مكاسب الجيوبوليتيك، وجعل قطر دولة متعاظمة التأثير في الموزاييك العربي المهترئ.
قطر عرضة للابتزاز
صعود قوة التنظيمات السلفية القتالية كان ينبئ ايضا بتحولات تدريجية في تحليل مخاطر التغيرات السريعة الحاصلة في المنطقة. فالدوحة التي اصبحت لاعبا رئيسيا في سوريا بالتنسيق مع تركيا، ولاعبا ذو تأثير على بعض الشخصيات والقوى السياسية والعشائرية العراقية، بدأت تدرك مقدار المخاطر التي تترتب على الانغماس المتزايد في هذه الصراعات.
فمن جهة كان هناك وعي متزايد لدى الدوائر الأمريكية والبريطانية والغربية عموما بأن قطر منغمسة في تغول الظاهرة الدينية المتطرفة، التي اصبحت مصنفة إرهابيا. ومن جهة اخرى عرفت القوى المنافسة كيف تبتز قطر وتدفعها لمقايضة مواقفها بالمال تارة، وبالرهائن والتشهير تارة أخرى.
اشتداد انغماس قطر في الأزمتين الليبية والمصرية وانحيازها للقوى الاخوانية، التي صارت محط عداء الموقفين الاقليمي والدولي، كان لابد من معادلة اتجاهات القوة التي بدأت تتجه لغير مصالح حلفاء قطر والمحسوبين عليها.
وربما كان للأزمة الخليجية الأولى (٢٠١٤)، التي سحبت بموجبها السعودية والامارات والبحرين سفراءها من الدوحة، اول علامات الوهن في السياسة الخارجية القطرية المندفعة، والتي باتت تواجه ضغوطا متزايدة بخسائر الحلفاء عسكريا وسياسيا، وبضغط الدبلوماسية والاعلام ايضا.
مبادرة قطرية
في عام ٢٠١٥، قام وزير الخارجية القطري بزيارة بغداد، كانت بمثابة اول بادرة قطرية للانفتاح الحذر على العراق، بعد ان اصبحت بغداد محطة دبلوماسية عالمية، ومركزا لقياس جدية التحالف الدولي المواجه للإرهاب والذي تشكل في أغسطس/ آب عام ٢٠١٤، لمواجهة خطر داعش على السلام والامن الإقليمي.
وباعتبار قطر عضوا في هذا التحالف، فإنها لم تشأ التخلف عن ركب الداعمين لبغداد من اغلب بلدان العالم، خصوصا بعدما تأكد الجميع ان العراق أصبح يقاتل نيابة عن العالم، وان انتصارات قواته المسلحة بعد بدء مرحلة استعادة المدن والاراضي المحتلة من داعش، وتزايد التوحد الاجتماعي والانسجام السياسي العراقي في مواجهة الخطر الإرهابي.
ولأن ثقل جرائم الارهاب صار جاثما على صدر سُنة العراق، الذين راهن البعض على جماعاتهم المسلحة والرافضة للعملية السياسية في احداث التغيير السياسي المنشود فأخفق، حققت زيارة الوزير القطري دفئا في علاقات بغداد – الدوحة، دون ان تتخلى قطر عن استضافة المؤتمرات ذات الصبغة الطائفية، التي اعتبرتها بغداد تدخلا في شؤونها الداخلية.
اختطاف الشيوخ
غير ان العودة المنتظرة للمياه إلى مجاريها الطبيعية اصطدمت بتحول دراماتيكي خطير تمثل باختطاف اربعة وعشرين قطريا وسعودييَن، بينهم أحد امراء العائلة الحاكمة القطرية، في صحراء السماوة العراقية في منتصف ديسمبر عام ٢٠١٥.
يومها كان هذا الحادث اخفاقا لأجهزة الأمن والمخابرات العراقية، ونجاحا للفصائل المسلحة العراقية، التي كان يقاتل بعضها في سوريا بدعم إيراني، والذين كانوا يصنفون قطر على لائحة اعدائهم بحكم دعمها العسكري والمالي والمخابراتي والاعلامي للفصائل السورية التي كانت تتواجه مع الفصائل الشيعية في سوريا.
بعد ستة عشر شهرا من الاختطاف، كانت قطر تدير معركة اتصالات سرية كبيرة، اسفرت عن صفقة لا مثيل لها، امتدت لتفك الحصار عن البلدات التي يقطنها شيعة سوريا في ادلب، مقابل فك الحصار عن بلدات سورية تحاصر فيها القوات السورية الحكومية فصائل سورية مسلحة معارضة، اضافة الى إطلاق سراح العشرات من أسرى ومحتجزي ورهائن الطرفين مقابل إطلاق سراح الرهائن القطريين في العراق.
التنسيق مع أجهزة بغداد
ورغم سعي قطر لتحاشي التنسيق مع الجهات الرسمية العراقية، في المراحل المختلفة من المفاوضات السرية، لكن ارسال مبالغ “الفدية” القطرية الكبيرة، البالغة نحو ٥٠٠ مليون يورو، عبر حقائب شحنتها طائرة الخطوط القطرية إلى بغداد، اطاح بسرية المفاوضات.
مكن ذلك بغداد من ان تضع يدها على المبلغ الذي وصل عبر مطار بغداد والبالغ ٥٠٠ مليون يورو، ليدخل تحت سقف التحقيق القانوني والقضائي، كون الأموال وصلت بطريقة غير مشروعة، وفيها انتهاك للسيادة العراقية، وربما وسيلة لتمويل جهات مسلحة بطرق غير قانونية.
دفعت هذه القضية رئيس الوزراء العراقي للتعبير عن انزعاجه من ملابسات الموضوع برمته، واعلانه عدم موافقته المسبقة لدخول الصيادين القطرين بتأشيرات رسمية، لان امكانية حمايتهم كانت ضعيفة، في ظل انشغال القوات العراقية والأمنية بالحرب، واتساع مساحة تحرك القطريين في الصحراء العراقية، وتزايد الحنق على الدور القطري، وسعي جهات غير مسيطر عليها للنيل من قطر، ولجم طموحات دورها الاقليمي.
لم يكن وزير الخارجية القطري موفقا في رده على تصريحات رئيس الوزراء العراقي[2]، ولم تقنع الدوحة أحدا بمبررات ارسالها الاموال بهذه الطريقة، ولم ينفع استغرابها من عدم ترحيب الدكتور حيدر العبادي بمواطنين قطريين لم يشاؤوا ان يقطعوا التنزه السنوي في اجواء العراق لتزايد التحديات الأمنية.
الا ان هذه الاحداث أوضحت للدوحة عدم امكانية تجاوز الدور العراقي، بسبب امكانات التأثير، والتأثر السلبية والايجابية. فالعراق لاعب قوي، وامكاناته القوة البشرية والاقتصادية والموقع الجيوبوليتيكي، يحتمان التعامل معه لموازنة اضطرابات محتملة في الاقليم وصراعات خفية وعلنية لمحاور سياسية وتقاطعات استراتيجية.
المرحلة الجديدة
لم تكد تمض ساعات على انتهاء القمة الامريكية -الاسلامية في الرياض في العشرين والحادي والعشرين من مايو المنصرم، حتى كان وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن ال ثاني يحط الرحال في بغداد، مسلما رئيس الوزراء العراقي دعوة رسمية من الشيخ تميم لزيارة قطر، وهي الزيارة التي لم يقم بها رئيس وزراء عراقي من قبل.
فور عودة الوزير القطري من بغداد، فتحت السعودية والامارات والبحرين ومصر النار على قطر وسياساتها ودورها، لتندلع أكبر أزمة سياسية خليجية ولتدخل المنطقة مرحلة جديدة، أصبحت فيها قطر محاصرة اقتصاديا ومهددة عسكريا، وتتعرض لهجوم اعلامي ودبلوماسي غير مسبوق، وتشن ضدها حملة ضغط وتشهير واملاءات وشروط، جعلتها وجها لوجه مع اختبارات القوة والتحالفات، وفاعلية الدبلوماسية، والقدرة على التحمل والصمود بوجه عاصفة الاشقاء والاشارات المزدوجة والمتناقضة من واشنطن.
الخيارات العراقية
اوساط عراقية عديدة اعتبرت ان الفرصة باتت مواتية للاقتصاص من الدور القطري، والاصطفاف مع المحور السعودي، لاسيما وإن مبررات حملة هذا المحور هي دعم قطر للمنظمات الإرهابية، والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، وتبني مشايخ ووجوه سلفية واخوانية معارضة، وتجنيس مواطنين من دول أخرى، ليمارسوا نشاطاتهم المعارضة بمظلة جنسية الانتماء لقطر. إضافة الى المطالبة اغلاق قناة الجزيرة، او تغيير خطابها ومنهجها، وتقليل العلاقات مع إيران لحدها الادنى.ومعظم تلك المطالب، باستثناء الأخير، هي مؤاخذات عراقية على قطر، وبالتالي ستكون فرصة لتحقيق ما يريده العراق، لتستوي العلاقات القطرية العراقية على قاعدة راسخة.في حين رأى طيف عراقي واسع ان العراق لا يسعه ركوب موجة العداء لقطر، لأنه يريد اثبات عدم انحيازه لأي محور اقليمي، ورفضه لمنطق استغلال الفرص المؤقتة، وحرصه على مبدئية مواقفه، التي ترفض المقايضة.
وعلى الرغم من ان الفرصة تبدو مواتية، ورغم تحسن علاقات العراق والسعودية، ومتانة العلاقات المصرية العراقية، الا ان العراق لم يفكر في الالتحاق بركب الدول التي تحاصر قطر، ولا يريد ان تحسب مواقفه على أساس التبعية لهذا الطرف او ذاك.إن سياسة العراق الراهنة تريد العمل باتجاه عمل جماعي عربي واقليمي ودولي لمحاصرة الازمات، وتفادي المشكلات، ومعالجة مسببات الاضطراب في داخل دول المنطقة، والابتعاد عن التدخل فيها بمبررات طائفية أو مصلحية أو قومية، كون المنطقة ملتهبة، وتعج بصراعات متعددة الاشكال.
الحروب والنزاعات لم تكن إلا فرصة لتمدد التهديد الإرهابي، وتغول الظاهرة السلفية القتالية، التي تقدم نفسها بديلا عن الدولة الوطنية، وأنموذجا ناسخا لنموذج الدولة الوطنية، التي بلغ بعضها مرحلة الفشل والانفجار الاجتماعي.
خبرة المنطقة الخضراء
ان العراق الذي اختبر اشكال التدخل الاقليمي في شؤونه الداخلية واصبح ساحة لنزاع إقليمي، بخلفيات مذهبية وتاريخية تارة بدعوى مواجهة النفوذ الايراني، واخرى لإحداث توازن طائفي سني شيعي، وثالثة تحت مسمى استعادة العراق لحاضنته القومية العربية، يدرك ان ذيول الأزمات لها انعكاسات مباشرة على أمنه واستقراره، وإن مسلسل التصدعات في العلاقات الخارجية يؤثر في النسيج الاجتماعي، ويحدث استقطابات محلية، على قاعدة الضد والمع من هذا الطرف الاقليمي او ذاك.لكل هذا لا يجد العراق بدا من اتخاذ مواقف متوازنة بين جميع دول المنطقة، والعمل على قاعدة المصالح المشتركة.
والتوقعات تشير الى أن قطر ربما تدرك متأخرة ان علاقاتها مع العراق ستكون أكثر مجدية، فيما لو تخلت عن طموحات بناء النفوذ عبر امتدادات عراقية ذات صبغة طائفية قريبة من توجهات السياسة الخارجية القطرية خلال العشرين سنة المنصرمة.
سيتعين على قطر في ضوء ازمة علاقاتها الخليجية والضغوط الامريكية المعلنة والمستترة ان تختار بين منطق مصالح الدولة ومصالح الايديولوجيا، وضرورات الجغرافيا وهشاشة البنية السكانية وطموحات الدور الاقليمي غير المتناسب مع امكانات عسكرية وبشرية ضعيفة.
استشراف الموقف القطري المستقبلي
في ضوء هذه المحددات، فان استشراف الموقف القطري المستقبلي من العراق سيعتمد على تنامي الاستقرار الامني والسياسي والاقتصادي العراقي، بموازاة انخراط سنة العراق ايجابيا في معادلة الاستقرار هذه.
فمع نجاح الفاعليات السنية العراقية في التوحد في إطار سياسي واحد، والدخول في عملية إعادة اعمار العراق، انطلاقا من المساهمة الفاعلة في النظام السياسي بدون صراعات ومناكفات، فإنه يتوقع ان تتجه الدوحة إلى تحسين علاقاتها مع بغداد، والاستفادة من ذلك لموازنة ضغط جيرانها الخليجيات وباقي الدول العربية.
كما أن من شان نجاح النظام السوري في استعادة زمام المبادرة السياسية بعد نجاحاته العسكرية، سينعكس هو الآخر في دفع قطر لمراجعة فشل المراهنة على الفصائل المسلحة لإحداث تغييرات بنيوية في انظمة المنطقة السياسية.
يبدو لي إن رفض قطر لشرط القطيعة مع إيران الذي اشترطته السعودية والامارات، انطلاقا من كون هذا الشرط يعد تجاوزا لمنطق الجغرافيا والتاريخ والمصالح الاقتصادية وحقائق الواقع، باعتبار إيران قوة اقليمية كبرى، فان الشرط هو نفسه سيكون دافعا لمراجعة العلاقة مع العراق باتجاه الانفتاح الايجابي على العراق.أما الانتصار العراقي على قوى الإرهاب، فسيكون حافزا لمزيد من الثقة بالدولة العراقية وضرورات دعمها لإحداث توازن في المنطقة بين دولها الفاعلة: إيران وتركيا ومصر والسعودية.ان مقاربة واقعية لعقدين من الاستثمار والتوظيف والتخادم مع الجماعات المؤدلجة قد وضع قطر على خريطة الدول المؤثرة في المنطقة، لكن هذا الحقبة في طريقها الى التراجع والافول.
أغلب الظن إن الجماعات الإسلاموية ستكون مضطرة لمراجعة بناءاتها الفكرية وبرامجها السياسية لتفادي خسائر جديدة بعد الحقبة الدامية الراهنة. فالمنطقة متجهة للخروج من حفلات الدم والموت الجماعي، وسيبدأ شوط جديد من النزاعات السياسية والمجتمعية ربما لا ينجح الارهاب في دفعها إلى حافاتها الدموية بعد حصاد التجارب المرير. هذا ما سيدفع صناع السياسات للحذر من التوظيف والاستثمار في هذه المشاريع الخاسرة.
ولعل قطر وشقيقاتها الخليجيات المتصارعة معها ستدرك إن عهدا جديدا من فكر العلاقات السياسية قد آن أوانه. ومن أبجدياته خطأ المراهنة على احداث التغييرات بالتدخلات المباشرة والصراعات الطائفية والدموية لأن مشروعية الأنظمة الحاكمة أصبحت مهددة في بنياتها الأساسية.
وسيكون العراق نموذجا للدولة الخارجة من عهد الاختبارات إلى عهد بناء الأساسات. ستكون قطر وغيرها مضطرة بحكم سوسيولوجيا العلاقات في المنطقة إلى التعاطي الايجابي معه.
[1] http://www.aljazeera.net/news/arabic/2017/7/15/أمير-قطر-يهنئ-العبادي-باستعادة-الموصل
[2] http://www.dw.com/ar/قطر-دفع-الفدية-لإطلاق-المخطوفين-جرى-بعلم-الحكومة-العراقية/a-38613334