عباس الجمري*
باحث بحريني
لم تكن الأربعمائة والخمسون ملياراً التي دفعتها السعودية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على شكل صفقات، جزية الحماية فقط، ولا يمكن تأطيرها بهذا الإطار وحسب، بل الواضح أنها ثمن رسم استراتيجيات جديدة، يغذيها ترامب بالمباركة والمعاونة والمعاينة، في إعادة محاولات الرياض في النجاح في نقطة من النقاط الساخنة التي تورطت فيها، لا سيما مستنقع اليمن الذي أغرقت نفسها فيه حتى أذنيها، وورطة الموصل التي هرب منه داعش صاغرا، ولم يتبق إلا عشرة بالمائة منه، وكذا سوريا وليبيا وغيرها.
الثمن السعودي المدفوع نقداً يعطي مساحة سياسية واسعة من قبل واشنطن لحكومات الخليج، وقد قالها الرئيس الأمريكي للعاهل البحريني، أنه يبارك العلاقات المتبادلة، ووعده بعدم توتر العلاقات بين البلدين من جديد.
ولم تمض 48 ساعة إلا وقد هجمت قوات خاصة مدعومة بمدرعات على منزل آية الله الشيخ عيسى قاسم ( الثلاثاء 23 مايو/آيار 2017)، كانت الرسائل السياسية الكثيفة التي وزعتها السلطة أكثر من المعتاد، ويبدو أن “ما بعد الهجوم على بيت قاسم” سيكون مختلفاً تماما في الشكل والمضمون عما قبله.
فبعد عدد من التأجيلات في إصدار الحكم ضد قاسم وبعض طاقم مكتبه بشأن الخمس، والتي ارتأتها المحكمة المقطوع بعد نزاتها، حكمت المحكمة يوم الأحد 21 مايو/أيار بالسجن سنة مع وقف التنفيذ لمدة ثلاث سنوات، أي أن قيام قاسم بممارسة فرضة الخمس خلال ثلاث سنوات يمكن السلطات الأمنية من سجنه لمدة سنة. كما قضت المحكمة بمصادرة مبلغ الخمس المودع في حسابه البنكي ( ثلاثة مليون دينار و 367 ألف و301 دينار بحريني، أي ما يعادل أكثر من ثمانية ملايين دولار أمريكي)، وتفادت المحكمة قرار ترحيل آية الله قاسم (لكبر سنه)، كما لم تغير أي من التهم الموجهة لأكبر مرجعية روحية في البحرين، ولم يتم مراجعة قرار سحب الجنسية من آية الله قاسم الذي اتخذ في ٢٠ يونيو ٢٠١٦.
الظفر بالمعارضة
تصفية المعارضة أهم الخطوات التي دأبت السلطة بانتهاجها كبديل عن الحل السياسي، حيث أغلقت جمعيتين سياسيتين شيعتين (الوفاق، وأمل)، وأدرجت جمعية وعد (ذات التوجه الليبرالي) في درج القضاء المسيس، ورغم قناعة الكثير أن غلق الجمعيات ليس غلقاً نهائيا، وقد يكون باب للضغط والتفاهم السياسي، إلا أن المؤكد أن شل الحركة السياسية عقد الأوضاع وأعطى تأكيدا للنهج الأمني السائد في البلاد، لكن مسألة الهجوم على المعتصمين في الدراز وقتل خمسة مواطنين على الأقل، واعتقال العشرات، ومداهمة منزل الشيخ قاسم، يعد أمرا مختلفا. وتعتبر المعارضة قاسم “أعلى” خط أحمر لديها.
إن كل تلك الإجراءات العنيفة يؤكد مضي السلطات في خيار تصفية المعارضة، خصوصا وأن المباركة الأمريكية جاءت بنقد المنظمات الحقوقية والإعلامية التي توجه اللوم دائما للسلطة في البحرين.
حصار الشيعة والخمس في الخليج
كما أن قضية الخمس لدى الطائفة الشيعية ولما لها من خصوصية مذهبية تتعدى في محتواها الجانب المالي، فإنه-أي الخمس- موضوعة عقيدية مهمة، لها أبعاد ودلالات تتعلق بتعلق الشيعي بمرجعه الديني الأعلى، والذي يمثل الشيخ عيسى قاسم أحد الوكلاء لأبرز المراجع في مدنيتي قم والنجف المقدستين لدى المسلمين الشيعة، وآية الله قاسم مخول بأخذ الخمس والتصرف به حسب التقدير الذي يراه، ويعد من أبرز الوكلاء على مستوى الخليج.
هذه الخصوصية المذهبية ذات الأبعاد العقائدية، والقوة الاقتصادية ذات التنظيم الذي يشبه في شكله التنظيم الضريبي في الغرب، كان محط إزعاج للعائلة الحاكمة عبر التاريخ، لكن لظروف كثيرة، كان السكوت عنه عنوان تعايش “هش” ما بين الشيعة وآل خليفة.
تجريم الشيخ عيسى قاسم بتهمة غسيل الأموال، محاولة جديدة لوضع “حد” للخمس خارج نطاق اليد الرسمية، ليس في البحرين وحسب بل وفي الخليج.
وتقدر أن الأخماس الخليجية هي الأكثر من بين ما يدفع، ولعل ذلك يمر تحت أعين السلطات في الخليج، لكن اللحظة الأمريكية السعودية هي التي حسمت الموقف الرسمي تجاه الخمس بذرائع سياسية وقانونية راكبة موجة محاربة الإرهاب موارده المالية.
عسكرة انتفاضة البحرين
ورغم أن كبار العلماء في البحرين وجمعية الوفاق وبقية الفصائل المعارضة تشدد دائما على النهج السلمي في المطالبة السياسية بتحول البحرين إلى مملكة دستورية. لكن لعل التعقيد في قراءة المشهد وتشابك خيوطه يزداد مع معرفة دخول بعض الأصوات التي تنادي برفع السلاح في البحرين دفاعا عن النفس، المساس بالشيخ عيسى قاسم سيحرك القناعة أكثر بما يسميه البعض المقاومة.
ومع ذلك، فإن الشواهد المتوافرة عشية الهجوم الحكومي المسلح على اعتصام الدراز وقتل الأمن التابع لوزارة الداخلية خمسة من المعتصمين لم يواجه من قبل المعارضين والمعتصمين والقوى الشعبية بحمل السلاح.
مع ذلك، فإن مخاوف تنتاب الكثيرين من أن يؤدي اسكات الأصوات المنادية بالمطالبة السياسية إلى الاعلاء من شأن تلك الأصوات التي مازالت محدودة لكنها مسموعة والمنادية على الرد على العنف الحكومي بمثله.
ولعله يسجل أن أطراف المعارضة وجدت مساحة مهمة في التلاقي، ورفع النبرة الخطابية حدثت لدى مختلف التوجهات بالتوازي والتساوي. وحتى تلك الأصوات التي اعتادت خطابا معتدلا وجدت نفسها مضطرة للتحذير من أن المساس بأي ألله قاسم قد يأخذ البلاد إلى ما سموه منعطفا غير محمود.
الموقف الإقليمي
أصدرت دول الخليج بيانات منفصلة دعما لقرار حكومة البحرين بفض اعتصام الدراز الذي تم تنظيمه دفاعا عن آيه الله قاسم بعد سحب جنسيته في العام الماضي.
وطالما دفعت الإمارات والسعودية خصوصا بنهج أكثر تشددا في البحرين تجاه المعارضة، وقد عاد الملك البحريني من قمم الرياض الأخيرة محملا بعدة سياسية لمواصلة العنف ضد المعارضين، وفي مقدمتهم آية الله قاسم، الذي انحاز في ٢٠١١ واستمر مناديا بإصلاح الأوضاع السياسية في البحرين.
من جانبه، أطق حزب الله اللبناني بيانا شديد اللهجة، جاء فيه: “أي مسّ بحياة أو سلامة وكرامة سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم سيفتح الأمور على مدى المكان والزمان على احتمالات لا يستطيع أحد توقع مخاطرها ونتائجها”[1]، وهذه اللهجة الخطابية من أقوى حزب عربي على مستوى إقليمي ودولي لها دلالات ما، قد تكشفها الأيام المقبلة، وربما يحددها السلوك الرسمي في تعاطيه مع إرهاصات تصعيده.
النبرة الإيرانية بدت أكثر حذرا. ومع ذلك كلا الموقفين (حزب الله وإيران) ينزعان للابقاء على النج السلمي والحل السياسي. فقد قال المتحدث باسم الخارجية الايرانية “بهرام قاسمي” وصف حادثة الهجوم بأنها قد عقدت الاوضاع الراهنة في هذا البلد اكثر من السابق. وأن هجوم قوات الامن البحرينية اليوم على المحتجين ومنزل آية الله الشيخ عيسى قاسم في منطقة الدراز، خطأ ارتكبته الحكومة البحرينية.[2]
إذن، المشهد السياسي يتجه نحو مزيد من التعقيدات، ويتكثف في صورة تقول: أن الصراع الإقليمي سيزداد في البحرين. كما إن الأسئلة تزداد الحاحا فيما إذا كانت السلطات الرسمية في البحرين قادرة على اجتراح حل سياسي، في وقت تواصل فيه المعارضة دعوات الحوار.
ويرجح أن مأساة البلاد آخذة في التردي، مع اصرار الحكومة على خيار وحيد ونهائي يتوجب على المعارضة فعله: دخول برلمان ٢٠١٨ بدون أن نقاش. لكن المعارضة تظن أن الأنسب الولوج في حوار وطني، بدل المضي في سفك الدم الذي سيطيح بالبحرين، ويدفع بها نحو نماذج عربية أخرى تآكلت فيها الدولة والمجتمع حين اصطدما بدون ضوابط.
[1] http://www.alalam.ir/news/1972706#sthash.W5WHuEbi.dpuf
[2] http://www.alalam.ir/news/1972667#sthash.cyEJnxxZ.dpuf
p,g