حسن سعيد
باحث بحريني
المقدمة
التحول الأول وتشابه البدايات
التحول الثاني ومشروع الدولة الصفوية
التحول الثالث وتشابه مسار الصعود
الخاتمة
المقدمة:
يبدو ملفتا في الكثير من خطابات السيد حسن نصر الله الأخيرة، وخصوصا منذ بدء حراك البحرين عام 2011، التطرق لملف البحرين ومآلاته. وبعيدا عن البعد السياسي والآني، كان هذا الاهتمام من قبل “عالم دين لبناني” بقضية البحرين محفزا للنظر في العلاقة التاريخية بين البلدين والتشابه بين التجربتين. انطلقت العلاقة، كما يبدو، من المراكز العلمية في إيران والعراق ولكن هذه العلاقة تطورت من “زمالة علمية” إلى “مسارات متشابهة”. يبدو جليا أن هناك مجموعة من الاختلافات بين ظروف شيعة البلدين، ولكن يبدو أن هناك تشابها، بشكل أو آخر، في بعض التحولات أيضا وهذا ما تحاول هذه الورقة رصده بإيجاز.
التحول الأول وتشابه البدايات:
تتشابه التجربة البحرينية مع التجربة اللبنانية في البدايات التي يمكن تلمسها في ارتباط البلدين المبكر بالمذهب الشيعي وفي بروزهما كمركزين من مراكز العلم الديني في محيط المراكز التقليدية في العراق وإيران. يتجلى تشابه الارتباط المبكر بالتشيع بارتباطه بالصحابة وبالسنوات الأولى للإسلام. ترجع جذور الانتماء للمذهب الشيعي في البلدين لإثنين من الصحابة هما أبان بن سعيد بن العاص الذي كان واليا على البحرين من قبل النبي (ص)، والصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي تم نفيه إلى بلاد الشام. من جهة أخرى، يتجلى تشابه البدايات أيضا في النهوض المتقارب زمنيا للحركة العلمية في كلا البلدين وخصوصا من خلال إسهامات الشيخ ميثم البحراني المتوفى 1280م والشيخ محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول الذي استشهد عام 1384م. فإذا كانت المدرسة العلمية في البحرين قد برزت واشتهرت من خلال إسهامات البحراني، فإن مدرسة جبل عامل في لبنان قد برزت واشتهرت من خلال إسهامات الشهيد. فكلا العالمين ساهما إسهاما بارزا على صعيد تطور المدرسة العلمية محليا، كما ساهما في رفد الحركة العلمية الشيعية بشكل عام بإضافات مهمة جعلتهما من أبرز علماء المذهب.
رغم المائة عام التي تفصل بينهما، يتشابه البحراني والشهيد الأول أيضا في ارتباطهما بحوزة الحلة في العراق والتي عرفت بتميزها في المباحث الكلامية والفقهية على حد سواء فبرز البحراني في الكلام وبرز الشهيد في الفقه والحركية السياسية. اشتهر الشيخ ميثم البحراني بتميزه في مجال المباحث العقلية والكلامية وهي المباحث التي ميزت الحركة العلمية في البحرين في القرن الثالث عشر الميلادي. في هذا الصدد، يبدو لافتا ما يذكره علي العريبي في بحثه “Rationalism in the School of Bahrain: a Historical Perspective” من أن المدرسة العلمية في البحرين في تلك الفترة كانت هي من أدخل الفلسفة للتشيع الإمامي. إذ على الرغم من أن الشيخ نصير الدين الطوسي (المتوفى 1273م) بات أكثر تأثيرا، إلا أن نتاج علماء البحرين في تلك الفترة (الشيخ أحمد ابن سعادة والشيخ علي بن سليمان والشيخ ميثم البحراني) وتأثيرهم كان أسبق زمنيا (انظر: العريبي، 2001، ص 332). أضف إلى ذلك، فقد عد علي حسين الجابري في كتابه “الفكر السلفي عند الشيعة الإثنا عشرية” أن من أسباب ازدهار مدرسة الحلة في المباحث العقلية والكلامية “وجود العديد من الأعلام ممن تبنوا عملية التجديد في الفكر الإثنا عشري وكان منهم الشيخ كمال الدين [ميثم]البحراني” (الجابري، 1977، ص 233).
من جهة أخرى، فإن تأثير النتاج الفقهي والحراك السياسي للشهيد الأول على المدرسة العلمية في لبنان والحركة العلمية الشيعية بشكل عام تأثير كبير للغاية. فعلى صعيد الحركة العلمية في لبنان استطاع الشهيد تحويل تلك الحركة الفتية “إلى نهضة علمية حقيقية لعلها أكبر تحول في تاريخ الشيعة في لبنان” (المهاجر، 1989، ص 54). أما على الصعيد العام، فبالإضافة إلى كتبه التي لازالت تدرس حتى اليوم في المدارس العلمية المختلفة في المجال الفقهي ككتاب اللمعة الدمشقية، فإن للشهيد دور مهم في البناء الفكري والحركي لما بات يعرف اليوم بولاية الفقيه. يقول جعفر المهاجر في كتابه “ستة فقهاء أبطال” في الحديث عن الشهيد الأول: “إليه وحده دون سواه يعود الفضل في البعث السياسي للتشيع. إذ طرح في ميدان الفكر الشيعي مبدأ ولاية الفقيه فزوده برؤية سياسية وهدف منشود بعد أن كان قد خمد واستكان زمناً طويلاً منذ انتهاء فترة الحضور المباشر للأئمة عليهم السلام” (المهاجر، 1994، ص 111).
التحول الثاني ومشروع الدولة الصفوية:
مثل قيام الدولة الصفوية عام 1501م تحولا مهما في مسار تحولات شيعة البحرين ولبنان ومشروعا مشتركا لشيعة البلدين كما ساهم في انبعاث الهوية المذهبية التي كان من تداعياتها الشعور بالاستظلال تحت هوية مذهبية واحدة رغم التباعد الجغرافي. بعد قيام الدولة الصفوية وإعلانها التشيع كمذهب رسمي للدولة، بدا جليا حاجة الدولة الفتية لعلماء تناط بهم المسئوليات الدينية الضرورية لتسيير الدولة وفق المذهب الرسمي الجديد الأمر الذي دفعها لدعوة علماء البحرين ولبنان والعراق للهجرة إليها نظرا لعدم وجود العدد الكافي داخل إيران نفسها. بالإضافة إلى الأسباب المرتبطة بالشأن الديني، يبدو أن عدم الاستقرار السياسي في كل من البحرين ولبنان تحديدا قد ساهم في تشجيع الهجرة للدولة الصفوية وخصوصا بعد استيلاء البرتغاليين على البحرين عام 1521م وسيطرة العثمانيين على لبنان عام 1516م.
ربما من الممكن القول بأن نشوء الدولة الصفوية قد أثر في انبعاث الحركة العلمية “المقيمة” في البحرين كما أثر في انبعاث الحركة العلمية العاملية “المهاجرة” إلى الدولة الصفوية. مرت الحركة العلمية في البحرين في تعاملها مع الدولة الصفوية بمرحلتين: في المرحلة الأولى (1501-1601) كان التأثير مرتبطا إلى حد كبير بمدى ارتباط علماء الدين في البحرين بالمراكز العلمية في الدولة الصفوية وخصوصا في أصفهان وشيراز. أما المرحلة الثانية (1602-1717)، والتي شهدت استيلاء الدولة الصفوية على البحرين، فقد ساهم الارتباط السياسي في تعزيز الارتباط الديني مما ساهم في انتعاش وامتداد المدارس الدينية في البحرين نفسها ولذلك تعتبر هذه الفترة من أنشط فترات الحركة العلمية في البحرين. أما بالنسبة للمدرسة العلمية اللبنانية فقد كانت السيطرة العثمانية على لبنان عاملا أساسيا في انحسار الحركة العلمية في الداخل اللبناني وانبعاثها في مهجر الدولة الصفوية. في تلك الفترة، هاجر الكثير من علماء لبنان إلى الدولة الصفوية حتى أن البعض يقدرهم بما لا يقل عن 158 عالما لبنانيا (انظر: أبي صعب، 2004، ص 9). تبوء علماء لبنان المناصب الرسمية الدينية الأساسية في الدولة الصفوية، وخصوصا في سنواتها الأولى، ومثلت للكثير منهم الفضاء المناسب لتحويل الرؤية النظرية الدينية إلى واقع عملي ومن أبرز هؤلاء العلماء المحقق الكركي.
ربما من الممكن القول بأن الشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي (المتوفى 1533م)، الذي يعتبر أول وأبرز من تسلم منصب مشيخة الإسلام في الدولة الصفوية، يعتبر من أكثر علماء لبنان تأثيرا في الدولة الصفوية من جهة ومن أبرزهم تأثيرا على الحركة العلمية في البحرين في تلك الفترة من جهة أخرى. النفوذ الواسع الذي حظي به الشيخ الكركي مكنه من تطبيق ولاية الفقيه وذلك بما تسمح به ظروف تلك المرحلة. يذكر عبد الهادي الفضلي في كتابه “تاريخ التشريع الإسلامي” أن الشيخ الكركي قد سار “في مرجعيته العامة، وزعامته للطائفة سيرة الشهيد الأول فقد كان يقول بولاية الفقيه، وأدار في هديها وبحكم نيابته عن الإمام المهدي (ع) شئون الدولة الصفوية” (الفضلي، 1992، ص 401). بدت صلاحيات عالم الدين واسعة للغاية وتتعدى كثيرا مجرد الدرس الديني أو صلاة الجماعة وذلك تحت عنوان عريض يتمثل في رعاية الشأن الديني بكل تفاصيله على المستوى النظري والتطبيق العملي. هذه الأدوار التي لعبها الشيخ الكركي كان لها أثرها في صلاحيات ووظائف عالم الدين سواء في الدولة الصفوية أو في الدول المرتبطة بها ومنها البحرين في فترة ارتباطها بالدولة الصفوية. يتجلى تأثير الشيخ الكركي على علماء البحرين في عدة مساحات. كان الكركي أستاذا لمجموعة من علماء البحرين ومن هؤلاء الشيخ يحيى البحراني (المتوفى 1562 تقريبا) الذي كان من أبرز تلامذته ونائبه وشيخ الإسلام في يزد. تقدم العلاقة بين الكركي والبحراني نموذجا للعلاقة الوطيدة والتقارب الفكري والمشروع المشترك الذي جمع علماء البحرين ولبنان وتمثل آنذاك في الدولة الصفوية. أضف إلى ذلك، فإن هجرة الكثير من علماء البحرين لتحصيل الدرس الديني في الدولة الصفوية التي كان يتولى شئونها الدينية بعض علماء لبنان الكبار من أمثال الكركي والشيخ البهائي وغيرهما ربما ساهم في أن يصل تأثير علماء لبنان على الدولة الصفوية إلى علماء البحرين أيضا. في هذه الفترة أيضا، ونظرا لارتباط البحرين بالدولة الصفوية، ظهر في البحرين ما كان يعرف حينها بمنصب “رئاسة الإمامية” ويبدو أن هذا المنصب هو النسخة المحلية لمنصب مشيخة الإسلام في الدولة الصفوية وهو المنصب الذي حدد مساره الأول الشيخ الكركي.
التحول الثالث وتشابه مسار الصعود
بعد أن تعرض الشيعة في البحرين ولبنان للحرمان والتهميش لفترات طويلة، تبدو الإنطلاقات نحو التأسيس لمرحلة جديدة متشابهة في بعض جوانبها. مثلت مرحلة بداية السبعينيات في البحرين منعطفا جديدا لشيعة البحرين. في تلك الفترة حصلت البحرين على استقلالها من بريطانيا وتأسس المجلس التأسيسي وتم إقرار أول دستور للبحرين ثم جاء المجلس الوطني الذي تم حله عام 1975. في خضم هذه الأحداث بدا جليا ظهور مجموعة من علماء الشيعة ومن أبرزهم الشيخ عيسى أحمد قاسم والشيخ عبد الأمير الجمري الذين سعوا للتصدي للشئون الدينية والسياسية في آن واحد. بالإضافة لانخراطهم في المؤسسات الرسمية المنتخبة المتمثلة في المجلس التأسيسي ثم الوطني، عمل هؤلاء العلماء على تأسيس أول جمعية معنية بالشأن الديني في البحرين وهي جمعية التوعية الإسلامية التي تأسست عام 1972. هذا الهم السياسي والديني الذي كان يشغل هذه المجموعة من علماء البحرين، يبدو مشابها للهم السياسي والديني الذي كان خلف حراك السيد موسى الصدر بعد رجوعه للبنان عام 1959 وإن كان مشروع الصدر مستوعبا لمساحات أكثر اتساعا. مثل رجوع السيد الصدر من قم إلى لبنان مرحلة تحول في تاريخ شيعة لبنان المعاصر. نجح الصدر في إحياء الهوية الدينية لشيعة لبنان كما نجح في توجيه الشيعة نحو قضاياهم الكبرى. من أهم الوسائل التي اعتمدها الصدر لتحقيق أهدافه هو السعي لتأسيس المؤسسات فأنشأ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1969م كما أنشأ حركة المحرومين وحركة أمل. في هذه الفترة من تاريخ البلدين، بدا علماء الدين هم الفئة القائدة لقاطرة السعي للحصول على الحقوق السياسية بالإضافة إلى الوعي بتحديات الملف الديني. كما أن اعتماد المؤسساتية والمشاركة فيها يعتبر إحدى وسائل تلك المرحلة.
في الوقت الراهن، ومع استثناء الجانب العسكري أو ملف العلاقات الخارجية بشكل عام، فإن تجربة حزب الله على الصعيد اللبناني الداخلي تبدو مشابهة في بعض جوانبها لتجربة جمعية الوفاق الوطني الإسلامية في البحرين. في كلا التجربتين، هناك نقلة نوعية في بناء مؤسسات فاعلة وممثلة لشريحة مؤثرة وواسعة من المواطنين وهناك سعي للاستفادة من هذا التمثيل لتحقيق نجاحات على المستوى الوطني الجامع. تتشابه التجربتان أيضا في المزاوجة بين العمل المؤسساتي وتراتبية هياكله الداخلية وبين العمل الجماهيري ومحورية تأثير عالم الدين فيه. أضف إلى ذلك، يبدو لافتا في كلا التجربتين، أن شيعة البحرين ولبنان باتوا من العناصر الأساسية في البلدين وأن تحديات كبرى لازالت ماثلة أمامهم.
الخاتمة:
رغم بعض الاختلافات، يتشابه شيعة البحرين ولبنان في بعض محطات مسار التحولات. يجمعهما تشيع مبكر ونهوض علمي قديم كما جمعهما مشروع الدولة الصفوية بكل تحدياته ونتائجه. مشروع السيد موسى الصدر الرائد في لبنان شابهه، في بعض جوانبه، حراك علماء البحرين كما يتضح بعض الشبه في المؤسسات القائمة في البلدين اليوم.
المصادر:
الجابري، علي حسين، الفكر السلفي عند الشيعة الإثنا عشرية، بيروت: منشورات عويدات، الطبعة الأولى، 1977.
الفضلي، عبد الهادي، تاريخ التشريع الإسلامي، الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية، بيروت: دار النصر، الطبعة الأولى، 1992م.
المهاجر، جعفر، ستة فقهاء أبطال، لبنان: مركز الدراسات والتوثيق والنشر، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، 1994.
المهاجر، جعفر، الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي، بيروت: دار النهضة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1989م.
Abisaab, Rula, Converting Persia: Religion and Power in the Safavid Empire, London and New York: I. B. Tauris, 2004.
Al-Oraibi, Ali, Rationalism in the School of Bahrain: a Historical Perspective, Shiite Heritage: Essays on Classical and Modern Traditions, Edited and Translated by: L. Clarke, Binghamton, New York, Binghamton University: Global Publications, 2001.