د. حسن سعيد
باحث بحريني
من الإشكاليات التي تطرح، بين فترة وأخرى، على بعض قوى التغيير في البحرين هي مدى رجاحة خيار التواصل مع بعض القوى الخارجية التي تتميز بعلاقاتها الوثيقة مع السلطة في البحرين مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
تعتمد الإشكالية، كما يبدو، على أساس أن العلاقة الوثيقة التي تجمع هذه الدول مع السلطة في البحرين تجعلها شريكا، إن لم يكن أكثر، في كل ما ينسب للسلطة من تجاوزات. بالإضافة إلى هذا البعد المحلي، فإن هاتين الدولتين، بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، لا تحظيان بسمعة طيبة لدى الكثير من شعوب المنطقة العربية والإسلامية نظرا للأدوار السلبية لهما في عدد من القضايا المركزية كالقضية الفلسطينية، على سبيل المثال. لذلك، فإن تواصل بعض قوى التغيير في البحرين مع مثل هذه الدول، المتهمة بانحيازها للسلطة، قد يفهم منه البعض نوعا من “المهادنة” أو خيارا غير ذي جدوى. ليس الهدف من هذه الورقة هو قراءة العلاقة القائمة اليوم بين بعض قوى التغيير وبعض القوى الخارجية، ولكنها تهدف لتقديم قراءة تاريخية مقتضبة ربما تساهم في فهم خلفيات العلاقات القائمة اليوم.
يمكن مناقشة هذه الإشكالية وفق النقاط التالية:
أولا: في البدء، من المهم الإشارة إلى أن الجغرافيا البحرينية المميزة في الخليج العربي جعلتها منطقة جاذبة للأطماع الخارجية مما شكل عنصر تهديد مستمر يستدعي السعي لتوفير الحماية من هذه الأخطار خصوصا مع صغر حجم البحرين وعدم قدرتها على مواجهة اللاعبين الكبار بمفردها. لذلك، ليس من المستغرب أن تكون البحرين في أكثر مراحلها التاريخها، إن لم يكن في كلها، دولة منتمية أو وثيقة الصلة، بشكل أو آخر، بدولة أخرى. يمكن ملاحظة ذلك منذ فترة ارتباط البحرين بالدولة الساسانية في مرحلة ما قبل الإسلام وحتى اليوم. فهم هذا المعطى الجغرافي أساسي لمعرفة بعض خلفيات السعي لنسج العلاقات مع بعض القوى الخارجية سواء على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الشعبي.
ثانيا: على الصعيد الرسمي، يمكن بوضوح ملاحظة السعي لبناء علاقات خارجية ضامنة للحماية في نموذجين تاريخيين: الأول هو توقيع السلطة في البحرين على معاهدة السلام العامة مع البريطانيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر والثاني هو كيفية تعاطي الشيخ محمد بن خليفة مع القوى الخارجية. رغبة منها في الحصول على الحماية البريطانية، بادرت السلطة في عام 1820م بالتوقيع على معاهدة السلام العامة التي وقعتها بريطانيا مع بعض القوى العربية الخليجية رغم أن البحرين لم تكن معنية بهذه المعاهدة. في كتابه “دراسة لتاريخ الإمارات العربية في عصر التوسع الأوروبي الأول 1507-1840″، يتساءل الدكتور جمال زكريا قاسم “عن الدوافع التي دفعت بشيوخ البحرين إلى تقييد حريتهم وحرية رعاياهم” بالتوقيع على هذه المعاهدة رغم أنها “كانت تستهدف شيوخ الساحل العماني فقط، ودخول حكام آخرين في تلك المعاهدة كان يعد إلى حد كبير بمحض إرادتهم ورغبتهم المطلقة”. ثم يجيب على هذا التساؤل بقوله “أن انضمام شيوخ البحرين إلى معاهدة الصلح البحري العام كان رغبة منهم في ضمان الحماية البريطاية” (قاسم، 1985، ص 438). رغم ما لهذه المعاهدة من أثر في “تقييد حريتهم وحرية رعاياهم”، إلا أن حكام البحرين في تلك الفترة آثروا “ضمان الحماية البريطانية”. وفي حال عدم توفر الحماية البريطانية، كما حصل في فترة حكم الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة، فإن السلطة سعت للحصول على الحماية من أي قوة أخرى. تذكر مي الخليفة في كتابها “محمد بن خليفة: الأسطورة والتاريخ الموازي” أن الشيخ محمد بن خليفة طلب الحماية من البريطانيين وحين تقاعسوا في تلبية طلبه طلب الحماية من العثمانيين ومن الفرس أيضا.
ثالثا: على الصعيد الشعبي، يمكن ملاحظة السعي للحصول على الحماية الخارجية من خلال طلب الدعم الخارجي للخلاص من الاحتلال البرتغالي أو لصد الهجمات العمانية. يذكر الشيخ محسن التاجر في كتابه “عقد اللآل في تاريخ أوال” أن أهل البحرين استنجدوا بالشاه عباس الصفوي لتخليصهم من الاحتلال البرتغالي وقد تم ذلك في عام 1601م. كما يذكر الشيخ يوسف البحراني في كتابه “لؤلؤة البحرين” أن أهل البحرين طلبوا الحماية الإيرانية لصد الهجمات العمانية في عام 1717م. بالإضافة لذلك، يذكر الشيخ علي البلادي في كتابه “أنوار البدرين” أن السيد شبر الستري، أحد علماء البحرين القدماء، كان قد توجه لإيران لطلب الدعم لرفع الظلم عن البحرين. مثل هذه الحوادث التاريخية تشير إلى أن السعي للحماية من الاعتداءات الخارجية عن طريق التواصل مع قوى خارجية أخرى كان فعلا سياسيا قائما سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي.
رابعا: مع ارتباط البحرين ببريطانيا دخلت العلاقة مع الأجنبي مرحلة جديدة سواء على الصعيد الرسمي أو على الصعيد الشعبي ولتصبح بريطانيا مصدرا لحماية السلطة من الاعتداءات الخارجية ومصدرا لحماية الشيعة من الاعتداءات الداخلية. بعد توقيع العديد من المعاهدات والاتفاقيات بين البريطانيين وحكام البحرين، بدا الحكم في البحرين وخصوصا مع مطلع القرن العشرين تحت الحماية البريطانية من الأخطار الخارجية. هذه الحماية البريطانية لم تكن بلا ثمن. فقد استطاع البريطانيون أن يوسعوا من صلاحياتهم حتى صارت الكلمة الطولى بيدهم. نظرا للظلامات التي كانت تجري في تلك الفترة، وجد السكان الشيعة تحديدا أنفسهم في مواجهة مع الحاكم المحمي من قبل البريطانيين. بعد فشل تصدي حاكم البحرين حينها للظلامات ورفعها عن الشيعة، قام الشيعة بالتواصل مع البريطانيين بشكل مباشر لكونهم أصحاب الكلمة العليا في البلاد حينها ولكونهم من يوفر الحماية للحاكم. في هذه المرحلة، ربما من الممكن القول، بأن الشيعة حاولوا الاستفادة من نفس مفهوم الحماية الذي يستفيد منه الحكم في البحرين. فإذا كانت بريطانيا توفر الحماية للحكم من الأخطار الخارجية فإن الشيعة حاولوا الاستفادة من هذه الحماية على الصعيد الداخلي. استطاع الشيعة في تلك الفترة من فتح خطوط التواصل مع البريطانيين ومن الضغط من خلال اللقاءات المباشرة والرسائل والعرائض وقد نجحوا في الحصول على بعض الحقوق من خلال ذلك وخصوصا بعد تنحية الشيخ عيسى بن علي عن الحكم عام 1923م.
خامسا: من الأمثلة الملفتة في العلاقة بين قوى التغيير في البحرين وبريطانيا هو التعاطي المباشر بين هيئة الاتحاد الوطني (1954-1956) مع بريطانيا رغم رفضها للوجود البريطاني في البحرين. في كتابه “من البحرين إلى المنفى” يوضح عبد الرحمن الباكر – رئيس الهيئة – جزءا من هذه العلاقة. كانت نظرة الباكر لبريطانيا سلبية تماما. فهي بالنسبة إليه “المستعمر الغاشم” (ص 7) كما أنها “عدو جبار مخادع مكار” (ص 7). رغم هذه النظرة السلبية لبريطانيا، كان الباكر يستشعر ضرورة الإلتفات لوجهة النظر البريطانية. يصف الباكر ذلك بقوله “كشخص مسئول مثلي لابد له أن يستعمل كل الوسائل للحصول على المعلومات من العدو حتى يعرف كيف يرسم طريقه” (ص 88). كانت البداية هي السعي للتعرف على رأي البريطانيين من مطالب الهيئة ولكن النهاية تمثلت في لقاءات مباشرة بين الطرفين. ينطلق الباكر في تعاطيه مع البريطانيين من فكرة أساسية لخصها بقوله أن القوى الوطنية “ستلقي بنفسها في أتون معركة غير متكافئة إذا حاربت حكومة البحرين والانكليز معا” (ص 88).
سادسا: يبدو لافتا أن العلاقة مع بريطانيا، سواء أكانت من قبل الجهات الرسمية أو الشعبية، لم تكن مستقرة على الدوام ورغم ذلك كان هناك شعور واضح بأهمية الإبقاء على مساحة معينة من التواصل معها لقدرة بريطانيا على ضمان الحماية من الاعتداءات الخارجية والتأثير في صناعة القرار المحلي. تعارضت بعض السياسات البريطانية مع ما ترتأيه السلطة في البحرين في الكثير من المحطات التاريخية وخصوصا في فترة حكم الشيخ محمد بن خليفة (1813-1890) أو في نهايات حكم الشيخ عيسى بن علي (عام 1923). رغم ذلك، استمرت العلاقة بين الطرفين حتى وصلت لمراحل متقدمة كما يلاحظ اليوم. على المستوى الشعبي، يمكن تلمس الحرص على علاقة مستقرة مع البريطانيين من خلال بعض ما كتبه عبد الرحمن الباكر عن مرحلة حراك الخمسينيات. بعد كل الإجراءات التي اتخذتها بريطانيا تجاه أعضاء الهيئة في تلك الفترة من سجن وإبعاد، يبدي الباكر بعض النقد لطريقة تعاطيهم مع بريطانيا في تلك المرحلة. يقول “كان المفروض علينا أن لا نخلق لنا عدوا عنيدا وقاسيا، لو كنا سايرناه، لغنمنا منه مكاسب كثيرة وثبتنا قدمنا على مدى الزمن، وبعد ذلك يكون لنا شأن معه، ولكن جاءت الأمور بالعكس وغيرت بريطانيا سياستها في الخليج كله” (ص 125-126).
خلاصات:
مما تقدم يمكن استخلاص أهمية المعطى الجغرافي ومحورية دراسة طريقة التعاطي مع القوى المؤثرة في صناعة القرار المحلي في طريق السعي نحو حدوث تغيير في الواقع السياسي في البحرين. ما تقترحه هذه القراءة التاريخية هو ضرورة التمييز بين دائرة التوصيف للقوى الخارجية وبين كيفية التعاطي معها لخدمة مشاريع التغيير المحلية. بغض النظر عن توصيف النفوذ البريطاني في البحرين في مرحلة العشرينيات والخمسينيات سواء أكان نفوذا عدائيا أم صديقا، كان هناك شعور بضرورة التعاطي معه لقدرته على التأثير في صناعة القرار المحلي. هذا التعاطي، وفق النماذج التاريخية السالفة، لا يعني بالضرورة التخاذل وإنما يعد ضرورة جغرافية تعد إحدى ركائز نجاحات حراكات التغيير. للحد من الظلامات في بدايات القرن العشرين، كانت وسائل الفعل السياسي الشعبي متنوعة من قبيل المظاهرات والعرائض واللقاءات المباشرة وكلها كانت تعد نوعا من أنواع التعاطي مع البريطانيين للضغط باتجاه إجراء الإصلاحات. كما أن حراك الخميسينات نجح في فتح خطوط التواصل المباشر مع البريطانيين بعد ممارسته لمجموعة من الخطوات الضاغطة وخصوصا بعد دعوته للإضراب. بكلمات أخرى، إن التعاطي مع القوى القادرة على التأثير في صناعة القرار المحلي كان يعد أحد المفاتيح الأساسية في إحداث التغيير المطلوب أما كيفية هذا التعاطي فربما تختلف باختلاف الظروف. أضف إلى ذلك، فإن مجرد التعاطي مع القوى الخارجية المؤثرة لا يعني بالضرورة الوصول إلى توافقات تنتهي بإحداث التغيير المنشود بل ربما ينتهي الحراك دون ذلك كما حصل في أحداث الخمسينيات. رغم ذلك، يبدو هذا التعاطي كأحد وسائل الفعل السياسي المهمة حاله في ذلك كحال الوسائل الأخرى من قبيل المظاهرات والعرائض التي قد لا تؤدي إلى تحقيق الهدف من الحراك أيضا.
المصادر:
الباكر، عبد الرحمن، من البحرين إلى المنفى.
البحراني، يوسف، لؤلؤة البحرين في الإجازات وتراجم رجال الحديث، تحقيق وتعليق السيد محمد صادق بحر العلوم، البحرين: مكتبة فخراوي، الطبعة الأولى، 2008.
البلادي، علي، أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، النجف: مطبعة النعمان، 1377 هجرية.
التاجر، محمد علي، عقد اللآل في تاريخ أوال، إعداد وتقديم إبراهيم بشمي، البحرين: مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة والنشر، 1994.
الخليفة، مي محمد، محمد بن خليفة 1813-1890: الأسطورة والتاريخ الموازي، دار الجديد، 1996، الطبعة الأولى.
قاسم، جمال زكريا، الخليج العربي: دراسة لتاريخ الإمارات العربية في عصر التوسع الأوروبي الأول 1507-1840، القاهرة: دار الفكر العربي، 1985.