عباس المرشد
باحث بحريني
المحتويات
الطائفية الجديدة : الجيوسياسية والتحريك المذهبي في البحرين نموذجا 2
أولا: مقاربات المسألة الشيعية في الخليج العربي. 5
التاركم التاريخي للطائفية الجديدة 6
ثانيا: التشكيلات الاجتماعية والدينية في الحالة البحرينية 11
تأسيس الهويات الاجتماعية والدينية 13
الهويات الفرعية البناء المنقسم للمواطنة 14
ثالثا: تجاوز الطائفية التقليدية للطائفية الجيوسياسية 20
النفوذ الإيراني والمخاوف الإقليمية 20
الطائفية الجديدة : الجيوسياسية والتحريك المذهبي في البحرين نموذجا
الملخص التنفيذي
تقليدياً، يمكن فهم الطائفية/ المذهبية باعتبارها مجموعة مؤسساتية تحدد أنواع الولاء العائلي المحلي الإقليمي، وحتى أنواعاً أوسع للولاء والانتماء كما في الولاء العابر للوطنية. تجادل هذه الورقة بان المذهبية ” الطائفية” التقليدية والقائمة على اساس الانقسام التاريخي بين السنة والشيعة ليست هي التي يتشكل عليها الانقسام المذهبي الجديد في العالم العربي عموما، في البحرين على وجه الخصوص. وأن ما يشار إليه على أنه صراع طائفي / مذهبي، لم يعد هو الامتداد التاريخي للصراع المذهبي/ الطائفي الذي عرفته المجتمعات الإسلامية منذ القرن الاول الهجري وما تلاه من قرون. فالفارق بين الطائفية التقليدية والطائفية الجديدة يمكن في اختلاف اسس الصراع ومحتواه حتى وان اتحدا ظاهريا، فالمضمون المختلف عليه ليس تلك العقائد والافكار او الجماعات المذهبية، التي حتى وان تم استحضارها فهي توظف كادوات لخدمة التنازع والتنافس بين المشاريع السياسية الكبرى في المنطقة. إن الشكل / المذهبي الطائفي الذي تشكل منذ 1979 والمتزايد منذ 2003 يقوم على اسس سياسية قوامها تشتيت التحول الديمقراطي وعرقلته من جهة، وتنفيذا استراتيجيا لمتطلبت الحرب البادرة بين أقطاب القوة في منطقة العالم العربي وهم ايران والسعودية والولايات المتحدة الامريكية. وبالتالي فإن الصراع إن وجد فهو صراع جماعات سياسية تحتمي بالمذهبية وتوظف أنساقها الاجتماعية والمعرفية لتوسيع حصتها من السلطة والقوة، أو تمنع بها تمدد وتوسع الجماعات السياسية الاخرى.
بطبيعة الحال فإن توترات المنطقة العسكرية في 1979 حتى 1989 والحرب غير المعلنة منذ حرب الخليج الثانية 1990 وما تلاها من أحداث سياسية أبرزها احتلال العراق سنة 2003 وتداعيات ذاك الاحتلال ، كل ذلك اسهم في دفع الشكل الطائفي والانقسام المذهبي لواجهة الصراع السياسي. حيث اوجدت هذه العسكرة نظاما إقليميا جديدا تعلب فيه الهويات البدائية والفرعية دورا حاسما ومحوريا، ليس على مستوى السياسيات المحلية وإدارة التنوع في المجتمعات بل حتى بين الدول مع بعضها البعض. وفي الوقت نفسه فقد فتح سقوط نظام الحكم في العراق 2003 وصعود الشيعة لسدة الحكم مسألة موازين القوة الجديدة والرغبة في إعادة تموضع أغلب الأطراف حسب التوزيع الجديد للقوة والسلطة. وبالطبع فقد فجرت حرب لبنان 2006 عش الدبابير بصورة أقوى من السابق، وصار من القومية والوطنية ان تصاغ الخطابات على أسس طائفية ومذهبية شكليا، لكنها في الجوهر والعمق مملؤة بالخشية من انفلات جديد لمرساة القوة والسلطة أو رغبة في حشد المزيد منها.
من ناحية معرفية تبدو الورقة منشدة إلى أن هناك حاجة ملحة لإعادة موضعة مفهوم الطائفية/ المذهبية في السياقات السياسية والاجتماعية والتحول به من المفهوم المطلق البسيط إلى المفهوم المعقد والمركب، وما يسلتزمه ذلك من تفكيك دقيق لمفهوم الطائفية واستنساخه سياسيا واجتماعيا . فنظريا يمكن تحديد مفهوم الطائفية بشكل معمق في خمس سمات هي، أولا، يعد مفهوما عاما قابلا للتطبيق على كافة المجتمعات والنظم المعاصرة باعتباره تعبيرا عن ظاهرة عامة وشائعة الانتشار. فكل المجتمعات التي يعرفها عالمنا المعاصر هي إلى حد كبير تحتوي على نوازع طائفية رغم تباين صورها واختلافها في بعض الأحيان اختلافا كليا عن بعضها البعض. ثانيا، أن الطائفية مفهوم مطاط، ليس فقط لكونه تعبيرا عن ظاهرة عامة، بل أيضا لتباين تطبيقاته واستخدامه في كثير من الأحيان للإشارة إلى حالات وأوضاع متناقضة، الأمر الذي يصعب معه عزل المفهوم عن السياق التاريخي وطبيعة التطور المجتمعي في كل حالة على حدة. وثالثا، هو مفهوم مركب بوصفه تعبيرا عن ظاهرة متعددة الأبعاد، فهناك الطائفية الدينية والطائفية السياسية والطائفية الاجتماعية. ورابعا، هو مفهوم معقد بحكم كونه مركبا، وإن كان ليس كل تركيب يقود بالضرورة إلى التعقيد، إلا أن عملية التركيب في مفهوم الطائفية جعلت من المفهوم المعبّر عنها مفهوما معقدا، وذلك لارتباطه من ناحية بالعديد من المفاهيم الأخرى مثل العرقية والدولة القومية والديموقراطية..الخ، ولكون الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يقوم عليها من ناحية أخرى تتضمن عناصر متشابكة ومتداخلة تتوقف بدورها على مجموعة كبيرة من العوامل والمتغيرات المتفاعلة سواء في ذلك الداخلية أو الخارجية.وأخيرا فإن المذهبية / الطائفية، مفهوم مراوغ بما يعنيه ذلك من إمكانية استخدامه، على سبيل المثال، للإشارة إلى تسميم الرأي العام وتشتيت التوجهات التغيرية.
انطلاقا من هذه المقاربة يمكن إعادة النظر إلى الانقسام المذهبي في البحرين على أنه استراتيجية ضبط سياسي تنتهجها الأطراف الماسكة بمصادر القوة وتوزيع الثروة، يتم اللجوء إلى استثمارها في أوقات الانقسام السياسي. حيث تتجه بعض الاطراف السياسة لتغطية الانقسام السياسي وربطه بأشكال طائفية مذهبية، بهدف الابتعاد عن تقديم حلول سياسية، بيعدة عن الاحتراب الطائفي، أو حلول قائمة على اسس التعاقد السياسي الديمقراطي. إن جزءا من تعقيد مفهوم الطائفية/ المذهبية في البحرين يتأسس على ارتباط التراتيبية الاجتماعية والسياسية السائدة على مفرزات التصنيف المذهبي، إلا أن الجزء الأكبر يتأسس على تعثر بناء الهوية الوطنية الجامعة والاعتناد على الهويات الفرعية كإحدى الاستراتيجيات الفضلى. فقد تراكمت هذه الأحداث بصورة حدت من إنجاز مهمة بناء الهوية الوطنية المشتركة، واصبحت الولاءات والهويات الفرعية قادرة على تلبية احتياجات الناس باختلاف طوائفهم وتوجهاتهم السياسية. ورغم حالة الهدنة الاجتماعية التي سادت منذ 2001 إلا أنها لم تقاوم افرازات الربيع العربي الذي كشف هشاشة الهوية الوطنية وإمكانية تسخيرها لخدمة أغراض سياسية محدودة عبر توظيف الانقسام الطائفي/ المذهبي وتحويل المجتمع المتماسك اجتماعيا لمجمتع جماعاتي يستقوي بالهويات الطائفية .
ستحاول هذه الورقة استعراض المسألة المذهبية في البحرين عبر ثلاثة أقسام يتولى القسم الاول مقاربة المسألة المذهبية في البحرين نظريا، في حين يتناول القسم الثاني المقاربة العملانية وأخيرا فإن القسم الثالث يستعرض ديناميات التحريك المذهبي والطائفي اثناء انطلاقة الربيع العربي في البحرين في فبراير 2011.
أولا: مقاربات المسألة الشيعية في الخليج العربي
اذا كان الاصل في العلاقة بين الدولة والمجتمع انها علاقة تفاعلية فان هذا لا يعني انعدام انماط اخرى بالنسبة لقوى المجتمع امام هيمنة الدولة وفرضها الرقابة الشمولية سواء في تحولاتها أو في ثباتها النسبي في خصوص بعض الفاعلين ، فواقع العلاقة بين الدولة والمجتمع اكثر تعقيدا من كونها مجرد علاقات ذات اتجاه واحد. مقارنة بالدراسات التي أجريت على بنية الدولة في الخليج العربي، ودراسة الخصائص الاجتماعية والاقتصادية لهذه المجتمعات، فإن دراسة المجال الديني عموما والبعد الشيعي في هذه المجتمعات يعد ضئيلا جدا ومجالا لا يزال بسيطا في مفاهيمه وتحليلاته.
فقد تمت دراسة المسألة الشيعية في العالم العربي من جوانب مختلفة من قبل الباحثين ومراكز الدراسات المختلفة، خاصة في الغرب. وقد اختلفت الدراسات التي تعرضت لهذه القضية باختلاف الزوايا التي اقتربت من خلالها للموضوع وتباين الاتجاهات التي تبنتها. فهناك من اهتم بتوصيف مظاهر ما سماه “الانبعاث الشيعي” وتجلياته ونتائجه، وهناك من ركز على موقع إيران ودورها في “الواقع الشيعي الجديد”، وهناك من اهتم بالبعد الإقليمي، محاولا بيان تأثير ذلك على حالة التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط وعلى طبيعة التعامل مع أزماته ومشاكله، وهناك من ناقش طبيعة العلاقة بين الشيعة العرب وإيران، ومن اهتم بسياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، خاصة إيران، على ضوء واقع الاحتقان الطائفي في الشرق الاوسط، أخيرا، هناك من اهتم بأوضاع الأقليات الشيعية في المنطقة ومطالبهم وطريقة التعامل معهم، وتأثير ذلك على حالة الاستقرار الداخلي ونتائجه الإقليمية، فضلا عن عمليات الإصلاح السياسي.[1]
التاركم التاريخي للطائفية الجديدة
تعد مسألة الصحوة الشيعية في دول منطقة الخليج العربي واحدة من تلك الوقائع المؤكدة على ضلوع الهويات الفرعية في رسم السياسات الاستراتيجية لدول المنطقة وللأطراف الدولية المعنية بتفاعلات الدولة والمجتمع في الخليج العربي. فمنذ الصعود الحديث للشيعة في إيران بعد انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 تحول الاهتمام بالجماعات الشيعية من مجال البحث التاريخي والعقائدي المقارن إلى حيز مجال السياسات الهيكلية والأدوار التي يمكن للهويات الفرعية أن تمارسها في ظل هيمنة هوية أخرى مختلفة محمية بنظام سياسي قائم يمتلك الكثير من القدرة والقوة، مثل الأنظمة الريعية في دول الخليج العربي.
رغم ذلك فإن أغلب الاهتمامات كانت تتجه ناحية دراسة الانظمة السياسية في دول الخليج وتحديد بنيتها الهيكلية والسياسية وبدرجة ما التباينات الاجتماعية في مجتمعاتها. نتيجة لذلك غابت الدراسات المختصة بمتابعة التكوينات الاجتماعية والتشكيلات السياسية المنتشرة في أنسجة المجتمعات الخليجية، ربما كان ذلك بسبب الصورة النمطية التي كرستها دراسات الأنظمة السياسية في دول الخليج العربي وهي صورة قاصرة عن بلوغ درجة المعاينة الحقيقية لفعالية المجتمعات في الخليج العربي. قامت تلك الصورة النمطية على فرضية بدوية المجتمعات الخليجية وقبليتها ، وبالتالي غياب الفاعلية السياسية للمكونات الاجتماعية وهامشيتها في ظل صعود وهيمنة القدرة المالية المتعاظمة للثروة النفطية وانتهاج سياسات ريعية متبذلة انتجت اقتصاد استهلاكي وتراكم ثروات ضخمة لأفراد الطبقات المتوسطة والثرية أساسا من خلال تنشيط قطاع الإنشاءات والعقارات.
لا يعني ذلك أن تلك الدراسات لم تلتفت إلى وجود حركات وتنظيمات سياسية معارضة وتعتنق فكرا سياسيا مغايرا لأفكار النخب الحاكمة، إلا ان سيطرة الفكر القومي والأفكار اليسارية على جل تلك التشكيلات والتنظيمات السياسية جعلها في موضع العداوة مع المركزية الغربية، أما التيارات الشيعية فقد خضعت لمنظور الأقليات المهمشة من جهة، والنظرية الانقسامية من جهة أخرى.
ما من شك أن السياسة الخارجية للثورة الإسلامية الايرانية ( سياسة تصدير الثورة والسياسة الكونية) قد ساهمت في جعل هذين المنظورين على قائمة الادوات البحثية المختصة بالتيارات والجماعات الشيعية في دول الخليج العربي، كما ساهمت الدعاية العراقية التي أسسها حزب البعث العراقي ضمن مجموعة الادوات التي استخدمها لتعزيز موقعه الداخلي في العراق وتعزيز مكانته الاقليمية وحربه ضد إيران التي استمرت ثمان سنوات في ترسيخ وجهات النظر المشككة بولاء الجماعات الشيعية والتعامل معهم كونها يمثلون الأغيار والدخلاء الواجب توخي الحذر منهم. فرغم حالة العداء بين كلا النظامين الايراني والعراقي أنذاك إلا أن مخرجات تعاملهما مع الجماعات الشيعية كانت تصب في مصب واحد هو النظر للجماعات الشيعية على أنها جماعات فرعية غير منصهرة أو غير متجانسة مع المجموع الكلي لجمعتمات الخليج العربي وأن خياراتها الاجتماعية والسياسية إما أن تكون خيارات أقلوية بمعنى أنها تنظر لنفسها على أنها أقليات مهمشة سياسيا واجتماعيا بل ودينيا، وإما أن تكون خياراتها البحث عن امتدادات قوية تتعاضد معها عقائديا من الممكن أن توفر لها حماية ومظلة سياسية وربما تؤسس معها علاقة تخادمية. رغم الشكل المسبط الذي يتخذه هذا التحليل إلا أن مقاربة المسألة الشيعية سواء في بعدها العربي الاسلامي أو بعدها الخليجي لا تبدو بسيطة وسهلة، بقدر ما هي معقدة ومتداخلة مع تراث سياسي واجتماعي يمتد لعقود طويلة تقارب بجذورها التراث السياسي الإسلامي والعربي وما يحفل به من تناقضات. فما يبدو أنه صراع عقائدي قد يكون صراعا سياسيا وما يبدو أنه صراع سياسي قد يكون صراعا حول حدود الجماعات ومساحات الانتماء التي تسمح بها الهويات الفرعية والهويات الوطنية.
من الواضح أن مثل هذه المقاربات (Approaches) قد ترسخت بفعل معطيات واقعية تلت حدث انتصار الثورة الاسلامية في ايران، من قبيل بروز تنظيمات سياسية شيعية موالية لنظام الثورة في إيران ومن قبيل بروز التصدعات الاجتماعية داخل أكثر من منطقة خليجية كالبحرين والكويت والسعودية، في المقابل فقد رسخت هذه المقاربات أيضا – تحت هاجس الخطر الشيعي- سياسات عامة تقوم على منهجية الحذر من الجماعات الشيعية وإقصائهم من هياكل الدولة العليا وبالتالي بناء سياسات مواطنية منقوصة بدلا من الادماج والاستيعاب الايجابي (مقابل الاستعياب السلبي) لتلك الجماعات. بالرجوع لأدبيات الصعود الاول والصعود الثاني للشيعة وتزايد الاهتمامات البحثية بالجماعات الشيعية يظهر أن زيادة الاهتمام بالتيارات الشيعية في منطقة الخليج العربي له علاقة مباشرة بمجالين رئيسيين هما :
الاول: تولي بعض التيارات الشيعية زمام الحكم في بلدانها كما في العراق 2003 او الهيمنة على مخرجات سياسات الحكومة كما في لبنان بعد 2006 وقيام التيارات الشيعية الأخرى بزيادة وتيرة نشاطها كشكل من أشكال التداعي.
الثاني: تغير الاتجاهات البحثية حول القضايا ذات الطابع العالمي، واختلاف سلم الأولويات الاجتماعية والسياسية كأثر مباشر لتغيير المسارات المعرفية.
نتيجة لذلك برز توجه جديد اتجه ناحية فرز السياسيات العامة والهياكل القانونية المعيقة لبناء المواطنة الكاملة بدأ من المنظومة الحقوقية السياسية ونهاية بالحقوق الاجتماعية للفئات والجماعات الهامشية فبدأت اهتمامات جديدة لم تكن منظورة سابقا، واحدة من تلك الاهتمامات هي، قدرة الأنظمة السياسية في منطقة الخليج العربي على:
أولا: البقاء والحفاظ على درجة من الاستقرار الهيكلي في ظل تغيرات واسعة وخطيرة.
ثانيا: قدرة هذه الدول على تنويع تقنيات وأدوات المراقبة وإدخال اشكال مختلفة من أدوات السيطرة التي تمارسها الدولة تجاه سكانها ومواطنيها لتعزيز الشرعية/ المشروعية.
ووفقا لفوكو فإن استراتيجات المراقبة كانت ولا تزال قابلة لأن تتكيف مع الأشكال الحديثة للدولة وهي استراتيجيات تبدأ بفرض سياسات ديمغرافية كتعداد السكان والمواليد والوفيات وتمر من خلال ضبط أنظمة التعليم والصحة وتنتهي بإعادة التشكيل الاقتصادي وإدخال أنماط مختلفة من الوكلات لغرض السيطرة . بدورها أثار قدرة الأنظمة الخليجية على التكييف والمراقبة، قضايا رئيسية أخرى من قبيل الهوية الوطنية لمجتمعات هذه الدول ومسألة الاندماج الاجتماعي، و التحول في بنية الأنظمة السياسية من الحالة القبلية التي كانت عليها قبل تأسيس الدولة الحديثة مطلع القرن العشرين. وبالطبع فإن الانقسامات الإثنية ( وهي المصطلح الأكثر حيادية لمسالة الأقليات) أصبحت في موقع متقدم خصوصا في ظل انتشار مفاهيم الحكم الرشيد والإصلاحات الهيكلية والسياسات العامة للمواطنة.
احجية المناقشة المذهبية
رغم تعدد الدراسات حول الجماعات الشيعية في دول منطقة الخليج تقف تساؤلات بحثية قائمة دون إجابات مقنعة وغير منتمية لتنميط السائد لذا تغدو الحاجة ملحة لتقديم إجابات مقنعة حول تحديد نمط التفاعلات السائدة والمتطورة بين الجماعات الشيعية والدولة من جهة[2]، وحول طرق بناء الجماعات الشيعية لنفسها وهل هو بناء يستند لأرضية عقائدية أو سياسية من جهة ثانية.
وما هي التحولات التي تعرضت لها الجماعات الشيعية؟
ولماذا فشلت الدولة في الخليج العربي على استعياب الهوية الشيعية ضمن النسق العام والهوية العامة للدولة ؟
وما هي الاستتباعات الضمنية لعملية إعادة بناء الهويات الفرعية ومنها الهوية الشيعية على مستقبل الدولة في الخليج العربي؟ وهل هناك إمكانية لنشوء ما يعرف بعولمة الهويات الدينية؟
وكيف كان تاثير النظام الاقليمي الخليجي على تفاعلات الكتل الشيعية في الخليج؟ وهل هذه التاثيرات تتم بمعزل عن طبيعة الدولة القائمة في هذه الدول؟ وما هو تأثير السياسات الدولية على أوضاع الشيعية السياسية في هذه الدول . وما هي حدود مصداقية هذه الاثارات والى اي حد تأثرت تفاعلات العلاقة بين الدولة والمجتمع بالبيئات الداخلية والتقدم بالفكرة الديمقراطية للامام؟ وهل فعلا أن التحركات الشيعية تعيق عملية الانتقال الديمقراطي وتحقيق درجة من الاندماج الوطني أو الهوية الوطنية التي تعتبر الأرضية الاساسية لتحقيق أي انتقال ديمقراطي ؟
وبالتالي فإن السؤال الأبرز هو كيف تصعد التيارات الشيعية تحت تأثيرات الأنظمة السياسية ؟ وما هي العوامل التي تحدد شكل العلاقة بينها وبين الانظمة من حيث الاختراق أو الصراع أو الموازنة؟ وهل يمكن افتراض وجود نظام مللي خاص بالكتل الشيعية في دول الخليج له من التأثير ما يعادل تأثيرات الأنظمة الأقليمية ؟ أي هل توجد لدى التجمعات الشيعية مراكز قرار وتأثير منقسمة بين قوى مركزية وقوى طرفية يمكنها أن تكون عوامل مؤثرة في صياغة العلاقة مع الأنظمة؟ وإذا ما وجدت كيف تتشكل وهل تتحدد بالثروات الاقتصادية أو الموارد البشرية؟
إن أسئلة بهذا الحجم وهذه المباشرة لم تعالج لحد الآن خارج نسق الخطر الأمني والتصورات الكلية القائمة على مستندات غير مقنعة من قبيل اللجوء لفكرة التمدد الصفوي أو فكرة ولاية الفقيه كمحددات سياسية تقتضي عزل الجماعات الشيعية سياسيا واجتماعيا فضلا عن ارتكاز العديد من المواقف السياسية لرؤية عقائدية ممنهجة تذهب لتفكير الجماعات الشيعية واعتبارهم خوارج العصر الحديث.
إن هذه التساؤلات تعتبر اشكاليات بحثية تكتسب اهميتها لما هو شائع من سيطرة الطائفية على النسق التفاعلي بين الشيعة والانظمة الحاكمة بل وحتى مع المكونات الاخرى وما يثار بشكل متكرر عن العلاقة بين الولاء العقيدي والولاء السياسي للكتل الشيعية في دول الخليج العربي . معنى ذلك أن هناك حاجة ماسة للكشف عن العوامل المسئولة عن تشكيل العلاقة بين الكتل الشيعة والدولة من جهة ، وهذه الكتل والمكونات الاجتماعية والسياسية الاخرى . كما تقدم النتائج التي يمكن التوصل اليها عبر الاسئلة السابقة، مؤشرات مهمة لاحتمالات وسيناريوهات التحول الديمقراطي في دول المنطقة وصياغة منهجية تساعد على فهم تفاعلات العلاقة بين الدولة والمجتع في دول الخليج العربي وفهم حدود الترابط والاختراق والتبيعة للدولة واسباب تباين درجة ومستوى اختراق الدولة ( الانظمة ) للقوى المجتمعية او تعميدها ( من التعميد والتقريب).
كمحصلة أولية أو فرضية يمكن الإدعاء بأن الفرضيات التالية تشكل مدخلا مهما ونقطة ارتكاز في فهم المشكل الطائفي/ المذهبي في منطقة الخليج والبحرين تحديدا:
أولا: ان الانقسام الطائفي في دول الخليج العربي رغم كونه واقعا إلا أن نتائجه وتداعياته ليست وليدة الانقسام المجتمعي وإنما هو أحد مخرجات أزمة الدولة والمسار الواحد في تعاطيها مع المجتمع. إن كون المجتمع في البحرين منقسم طائفيا لم يمنع في لحظة تاريخية من تاسيس خطاب وطني مؤسس على أرضية هوية وطنية جامعة. وفي هذا الصدد فإن إرجاع المفردات الطائفية في خطابات القوى السياسية والمجتمعية تجد نفسها محشورة في المفهوم غير المكتمل للمواطنة. وهكذا فان هذه الفرضية تستند الى وجود علاقة ايجابية بين تكامل مفهوم المواطنة وبين الهوية الوطنية وتضاءل فرص ظهور المطالب الفئوية الطائفية.
ثانيا: انه على الرغم من التحولات العديدة في بئية النظام السياسي في البحرين، الا ان بنية النظام التقليدي والقبلي ظلت محافظة على تفوقها ضمن علاقات القوة. وبفعل الثروة النفطية وظهور الدولة الريعية تضاعفت قوة الدولة على حساب قوة المجتمع، الامر الذي أدى لأن تكون التيارات السياسية والقوى المجتمعية معالة ( من الاعالة) من قبل الدولة لدرجة ان فقدت بعض التيارات استقلاليتها وقدرتها على التاثير في تفاعلات العلاقة بين الدولة والمجتمع. وبطبيعة الحال انعكس ذلك على البناء المؤسسي ( القانوني) والاداء الوظيفي لتلك القوى من جهة وعلى تكريس الانتماءات الفرعية وبناء الهويات الفرعية من جهة ثانية. وبالتالي يمكن القول أن هناك علاقة طردية بين قوة الدولة وسيطرتها الفعلية على مدخلات ومخرجات النظام وبين تعزيز الهويات الفرعية بما في ذلك الهويات الطائفية.
ثالثا: ان اختلال توزيع عناصر القوة داخل الدولة في البحرين ادى لبروز قوى اجتماعية محمية ذاتيا ونظرا لضعف الهوية الوطنية واختراق الدولة لأنظمة المجتمع، تأسست هذه القوى كنظام فرعي داخل أكثر من نظام أكبر يبدأ من نظام الدولة وينتهي بنظام إقليمي. واصبح من الممكن الحديث عن قوى مركزية وأخرى طرفية داخل التيار الواحد وهو ما ساهم في أن ترتبط التيارات السياسية بمثيلاتها في دول أخرى وتبنى علاقاتها على أسس عقدية وسياسية. معنى ذلك إن هناك علاقة طردية بين تأثيرات البيئة المحلية وتفاعلاتها ( توزيع القوى السياسية على مستوى الداخل والخارج ودرجة الاستقطاب) وما بين انماط علاقات القوة هل هي صراعية ام تعاونية ام محافظة ام تنافسية.
رابعا: ان هناك تاثيرا واضحا لما يعرف بالحراك السياسي والاجتماعي في تحديد ادوار الفاعلين وتوجهاتهم الفكرية والسياسية وانماط التفاعل داخل الدولة فمواقع هؤلاء الفاعلين لا تتسم بالجمود وكثيرا ما يحدث انتقال بين المواقع من المركز الى الاطراف ( حسب مستوى النظام الساسي وحسب مستوى التيار الواحد وحسب مستوى القوى المجتمعية) وقد تصل كثافة التفاعل الى درجة الاقتراب والتغلغل او الاقصاء والتهميش وفق معايير النزاع والمشاركة والاحتماء.
ثانيا: التشكيلات الاجتماعية والدينية في الحالة البحرينية
من ناحية سيوسيولوجية تصنف البحرين ضمن البلدان المتنوعة ” إثنيا ” و من شأن هذا التنوع أن يعلب دورا مهما في التأثيرعلى فعالية النظام السياسي وشرعيته من جهة وأن يمارس دورا أهم في تشيكل الهوية الوطنية والهويات الفرعية وما قد ينتج عنها من صراع أو تعايش من جهة اخرى. وعادة ما يصادف الدراسون للتركيب الاجتماعي صعوبات منهجية ومفهومية إزاء تحديد الاثنيات في البحرين نظرا لندرة وعدم شمول الموضوعية المتبعة بما ادى الى ضعف التراكم وقلة البيانات الخاصة بالوضع الاجتماعي . وهذا يرجع في الاساس لسياسات الدولة التي تحت حجة المواطنة الشاملة، تعمل على حجب المعلومات وعدم الاعتراف بالجماعات كجماعات أصيلة، الامر الذي يؤدي لخلق تصورات ذاتية لكل جماعة على حدة، وفي المقابل يُمكن النظام السياسي من استغلال غياب المعرفة، لتمرير سياسات خاصة به تدور وظيفتها حول تقوية جهاز الدولة وتشويه المجتمع.
الاصول والاقدمية
نظرا لكثرة وتعدد الهجرات من وإلى البحرين فإن من الصعب التسليم بمقولة سكان أصليين إلا أن ذلك لا يمنع من تشييد مقولة أكثر اقترابا من الواقع هي مقولة السكان الأقدم بناء على تحديد فترات زمنية بحسب متطلبات البحث الموضوعي. فلو أخذنا فترة دخول آل خليفة البحرين واستيلائهم عليها سنة 1783 لتكون عتبة زمنية تقاس عليها أقدمية السكان لوجدنا أن المصادر التاريخية تشير إلى أن السكان القدماء كانوا ينحدرون من أصول عربية مستوطنة قديما وأصول إيرانية وقليلا من الأصول الإفريقية والغالب عليهم اعتناقهم مذهب التشيع. التنوع الذي لحق بالبحرين بعد هذا التاريخ فهو دخول قبائل عربية سنية وأفارقة سنة شكلوا أنفسهم ضمن جماعات أثنية مغايرة لجماعات السكان القدماء.
ولدى تحليل هذه الهجرات ومعرفة تأثيراتها على النسيج الاجتماعي والسياسات العامة للمجتمع، فهي على الأرجح أدت لتقوية تقسيم السكان على أسس طائفية، استفاد منها النظام السياسي في تقوية سلطته على الأرض وعلى السكان. وقد تأثرت معظم مناطق البحرين بحركة الهجرات الخارجية الإقليمية، التي ساعدت بشكل تدريجي على ظهور الكثافة الديموجرافية في العديد من المدن والقرى بالشكل الحالي على مدى أكثر من قرن زمنياً[3].
من ناحية تحليلية حيث التركيز على نمط العلاقة السائدة بين اطراف التنوع والقواعد التي تحكم هذه العلاقات، يمكن القول ان هناك تسلسل هرمي او شكل تراتبي يكفل تفوق فئات معينة على اخرى كما سنرى لاحقا. اما المسارات التي تنتهجها فئات التنوع فهي مختلفة من فئة الى أخرى فعلى قمة الهرم تفق فئة العائلة الحاكمة بخيار استلائي مبلورة ايديولوجية ضمنية تؤمن بالتعايش مع عدم المساواة فهي لا تفصل نفسها عن المجتمع والجماعات الاخرى لكنها في الوقت نفسه لا تقبل مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات السياسية والمدنية، في حين ان الجماعات السنية تندمج مع النظام السياسي اعتقادا منها بوجود مصالح مشتركة او احساس بالخطر المشترك مقابل ذلك تميل الجماعات الشيعية لسلوك التعددية والاحتفاظ بخصوصية كل جماعة مع المساواة في الحقوق السياسية والمدنية.
غالبية سكان ( المواطنون) البحرين حاليا ينحدرون من أصول قبائل عربية مهاجرة ( الأقدم هجرة والأحدث هجرة ) إلا أن نسبة لا بأس بها منهم تنحدر من أصول إيرانية واصول أفريقية ، تتوزع هذه الأعراق مذهبيا ما بين سنة وشيعة، فالقبائل العربية الأقدم تعتنق التشيع في حين أن القبائل الأحدث هجرة تعنتق المذهب السني. أما الاصول العرقية الأخرى فهي منقسمة مذهبيا فالمنحدرون من أصول إيرانية قسم منهم يطلق عليهم ” العجم” متشيعون والقسم الأخر يطلق عليهم ” الهولة” سنيون. ويشكل ذو الأصول الأفريقية شريحة واسعة من المواطنين وهم ينحدرون غالبا من العبيد المحررين أو من الأفراد المهاجرين بفعل عوامل اقتصادية واجتماعية والغالب على ذي هذه الأصول التسنن. يقودنا ذلك إلى الجزم بعدم وجود تنجانس عرقي أو إثني داخل المذاهب الإسلامية إذ أن أغلب المذاهب الإسلامية تحتوي على عناصر مختلفة الأعراق، فالشيعة يتشكلون من شيعة عرب ومن شعية إيرانين وشعية هنود وباكستانين وبالمثل فإن المذهب السني يحتوى خليطا من القوميات والأعراق فمنهم ذا اصول قبلية ومنهم ذا أصول إيرانية وأفريقية وعدد منهم ينحدر من اصول بلوشية.
ما تجدر الإشارة إليه هنا، حقيقة هامة أثبتها تقرير جوشياردي الذي منح البحرين استقالها سنة 1971 ،حيث اشار التقرير إلى أن سكان البحرين الذين أمكن نسبتهم إلى أصول إفريقية أو هندية أو باكستانية أو إيرانية، قد اندمجوا اندماجاً يكاد يكون كاملاً في المجتمع البحريني، وبالتالي فلم يكن ثمة سبيل إلى تمييز آرائهم عن الغالبية العظمى من الشعب البحريني، كما أشار التقرير نفسه إلى حقيقة أخرى وهي عدم وجود خلافات مذهبية تستدعي العنف بين السنة والشيعة، كما لا يوجد فرق ملحوظ بين آراء السكان في المدن والقرى.[4]
التوزيع المذهبي
يشكل الإسلام دين الدولة الرسمي واللغة العربية هي اللغة الرسمية المعترف بها محليا. وبنص الدستور 1973 ودستور 2002 فإن الشريعة الأسلامية تعتبر مصدرا رئسيا للتشريع. وتشكل المذهبية عنصرا أساسيا في انقسام المواطنين حيث أن الغالبية من المسلمين هم من الشيعة الأثنى عشرية وأغلبهم من الحضر في حين أن أتباع المذهب السني يشكلون أقلية وينتمى الكثير منهم إلى القبائل العربية المعروفة في منطقة الخليج والقسم الآخر هم السنة الحضر الذين يتوزعون بين الهولة والآخرين .
بالرجوع إلى الكتابات التاريخية، خصوصا تلك المتعلقة بالتاريخ السياسي للبحرين، ثمة إجماع على أن الشيعة كانوا يشكلون الأكثرية وما زالوا ذلك. فيذكر صاحبة التحفة النبهانية أن سكان البحرين قبل استيلاء ال خليفة عليها عام 1783 كانوا من الشيعة. بدورها كانت هذه النسبة( العددية) تقف خلف العديد من المشاكل السياسية بين الشيعة ونظام الحكم، حيث أن العديد من الدراسات تؤكد أن الشيعة في البحرين يمثلون الأغلبية المطلقة ( 60% إلى 70 %) حاليا و قديما ، في ظل عدم وجود اعتراف رسمي بنسب الجماعات المذهبية.
بناءا على ذلك يمكن لنا أن نفهم خطورة مسألة الأغلبية و الأقلية، كأدوات سياسية تستخدم من أجل تمرير مجموعة كبيرة من الأغراض السياسية على رأس تلك الأغراض مسألة شرعية نظام الحكم و مشروعية السياسة المتبعة في التعامل مع المواطنين من حيث درجة المشاركة السياسية و نسبة الحقوق مقابل الواجبات السياسية، وفيما يتعلق بتوزيع الثروة الاقتصادية و تقديم الخدمات الإنمائية و التنموية للمناطق السكانية، بل إن لها دور خطير في صياغة الذاكرة التاريخية و الهوية الجماعية . وفي الواقع فإن العديد من المشاكل السياسية ظلت عالقة لكونها مسائل تتطلب وضع حلول عملية وواقعية لمسألة الأكثرية و الأقلية و تلبية استحقاقات مترتبة عليها.
تأسيس الهويات الاجتماعية والدينية
إلى فترات متاخرة من تاريخ البحرين الاجتماعي لم تعاني البحرين من مسألة الهوية، ربما لأن مفهوم الهوية بصيغته السياسية والاجتماعية يعتبر مفهوما حديثا وربما لأن المجمتع البحريني ظل مجتمعا متجانسا يتقبل الانفتاح والتعامل مع الأخر بحكم الطبيعة التجارية للمجتمع وبحكم وجود نظام إداري يحضى بالشرعية. إلا أنه ومع منتصف القرن التاسع عشر بدأت مسألة الهوية تثير قلقا واسعا حيث تزايدات الهجرة من وإلى البحرين بشكل واسع. ان المجتمعات التي تتنوع تكويناتها الاجتماعية تقتضي ديمقراطية ناضجة يمكنها ان تعنى بالتعدد الثقافي وما يقترن به من تنوعات اجتماعية وفكرية. لكن الدولة الحديثة في الوطن العربي لم تعمل على استيعاب الانتماءات السابقة لها، أو ان تُكامِل بينها عبر نقلة ديمقراطية حقيقية. وهذا ينطبق بصورة جلية في البحرين، حيث ظلت الدولة تستمد نسق وجودها من التكوينات الصغرى القائمة في المجتمع وتعتمدها في الهيمنة على المجتمع، حيث أخفقت الدولة في دمج هذه الانتماءات المتنوعة من أجل الوصول إلى هوية مشتركة تمثل مصالح الجماعة بانتماءاتها المختلفة.
إن أي الجماعة هنا تحاول أن تبدع لها متخيلها الخاص الذي يقوم بدور مركزي في الإنتاج السياسي ، إلا أن المتخيل كما يشير فرانسوا بايار[5] لا يمثل كلا متماسكا في مجتمع معين ما دام يشمل سديما من أشكال غير متجانسة ودائمة للانفلات فالمنتجات التخيلية ليست بالضرورة متماثلة الأشكال فهي بحكم تعريفها منتجات رمزية متعددة المعاني وملتبسة . إن تأسيس الجماعات السياسية مشروط بنتيجة ممارسة السلطة المقامة على أرضية تكوين المتخيل، فليس بمقدور المتخيل أن يخلق جماعة سياسية من دون أن يستند إلى نمط سلطة ممارسة، بل يمكن القول أن المتخيل في النهاية هو نتيجة لممارسة سلطة وليس سببا[6].
في الجانب الاجتماعي الناشئ عن التركيبة السكانية للبحرين حتى 1923، كان الشيعة هم الأكثر اشتغالا بالزراعة وصيد الأسماك مقابل السنة الين كانوا يشتغلون بصورة اكبر في الغوص وقد انجر ذلك في تركيب علاقة أخرى قوامها تعرض الشيعة للآثار السيئة للحكم المقاطعاتي الذي استمر حتى 1923 وابتعاد السنة عنها مما ولد شعورا باستحقاق الشراكة السياسية عند أهل السنة والشعور بالغبن والظلم عند الشيعة .
مثل هذه الآثار الاجتماعية والاقتصادية انعكست بدورها، على الرؤية السياسية وطبيعة المطالب المرفوعة وتحديد الموقف من التحديث السياسي عند كلا الفئتين فالشيعة سيميلون إلى تأييد التحديث السياسي ويطالبون به لكونه بوابة وآملا في تخفيف ما يقع عليهم من حيف ولكونه أيضا سيضمن التخلص من حكم المقاطعات . في حين أن السنة ونظرا لاعتبارات قبلية فهم ينظرون إلى أنفسهم كشركاء في الحكم والسلطة أو في أقل التقادير كونهم منتفعين من السلطة القائمة لذا فهم لا يرغبون جدية في التحديث السياسي إلا بالقدر الذي يؤسس هذه النظرة ويكرسها.
لقد كان النظام الميراثي الذي يعمل من خلاله النظام السياسي في تلك الفترة، على درجة عالية من الوعي بمثل هذه التركيبة الأثينية واستطاع أن يعمل بها لتأمين استقراره وبقاءه لأطول مدة فعبر هذه الإستراتيجية استطاع أن يضمن ولاء السنة بجانبه أمام الضغوط المتتالية لإدخال التحديث السياسي المطلوب . وبقدر ما كان أهل السنة يشعرون بضعف المركز كان الشيعة ينظرون إلى المركز ممثلا في الشيخ الحاكم كمنقذ لهم وكحكم يتوسط بينهم وبين حكام المقاطعات. ومن وجهة نظر عبد الهادي خلف فقد أسهمت هذه السياسية المعتمدة على الأثينية في خلق هويات متصارعة ومتقاطعة مع بعضها بما اثر في النهاية على امتناع قيام هوية وطنية مركزية أو شعب واحد [7]. وبسبب ضعف الجانب المؤسساتي وتعدد مصادر تنفيذ السلطة فقد ضعف المركز السياسي للشيخ الحاكم وأصبح النظام الميراثي في وضع غير قادر على تأمين الاستقرار المطلوب للنظام السياسي وفي مثل هذه الأوضاع فإن فرص التدخل الخارجي تأخذ في الارتفاع وان تفتش القوى المتصارعة عن تحالفاتها على ضوء مصالحها وكنتيجة متوقعة فقد أفرزت التدخلات البريطانية عزل الشيخ عيسى بن علي وإلغاء سلطة حكام المقاطعات والبدء في تأسيس مركز قوي يجمع بين طيات مؤسساته السلطة السياسية والاجتماعية و كما اصطلح عليه بالإصلاحات الإدارية.
ويحق لنا القول أن النظام الميراثي ورغم إبداءه الاستعداد لقبول بعض مظاهر التحديث إلا أنه كان عاجزا عن وضع تصورات تخص الدولة والمجتمع وبالتالي فإن الحدود الواقعة بين السلطة السياسية والسياسية المجتمعية كانت تعوزها الخبرة المشتركة التي تضمن للتحديث السياسي بالعمل داخل نطاق الدولة . ولما كان مفهوم الدولة مفهوما غائبا لم يتبلور بعد حتى السنوات الأخيرة للنظام الميراثي فقد ظلت الأمور تدار بآليات مشابهة لتلك الآليات المعمول بها في النظام المشيخي.
ومن جانب مؤثر في رسم السياسية المجتمعية فقد استطاع هذا النظام أن يقوم بعملية خطيرة ودقيقة للغاية، ميزته عن النظام المشيخي وهي الانتقال بالشرعية في ممارسة السلطة من محيطها القائم على الغزو والميراث الحربي إلى شرعية تستند إلى الإرثية في الحكم، أي أن السلطة السياسية لم تعد مهددة بالهزيمة والغزو مجددا كما كان في النظام المشيخي حيث تتداول السلطة بواسطة الحرب وفك التحالفات وإقامة أحلاف جديدة . فبحكم نظرة الإرث في ممارسة الحكم تتحول السياسية إلى ثابت يكفل الحق السياسي للحاكم ويمنع عنه أخطار الغزو من أي طرف كان وهذا كان يعني في النظام الميراثي أن السياسية يقررها من يحق له الوراثة وليس من يستطيع الغلبة . كانت هذه الانتقالة ضرورة فرضتها الأحداث التي مرت بها الدولة قبل تكوينها من حيث كمية الحروب والصراع على السلطة من جهة وضرورة تطورية بالإمكان أن يشهدها أي نظام حكم يسعى إلى مأسسة نفسه لدفع أخطار تفسحه وانهياره . وهكذا وعبر تحول النظرة إلى الشرعية تم تثبيت نظام الحكم وحصره في عائلة آل خليفة وهو ما أعطي الفرصة أيضا لممارسة تدخل أكبر من قبل بريطانيا في الشؤون الداخلية لفرض نوع محدد من التحديث السياسي وتطبيع النظام الحاكم بتقبل الفرق بين الدولة والمجتمع والفرق بين الحاكم وسلطة الدولة .
وفي الواقع فقد أثار النظام الميراثي بالطريقة المعمول بها الكثير من الأسئلة استدعت بفعلها الاجتماعي آلية ( النبذ والإقصاء) وتم تفعيل قانون الهوية الجماعية بصورة هائلة لم يسبق لها مثيل، وابتكرت نمطية تمثيلية للحماة والغزاة، ولم يعد من الممكن الابتعاد عن (النحن) و(الهم ). فعلى خلفية ما حدث من تميز واضح واستدعاء لمورث شرعية الغزو، تكونت جغرافية معرفية أصبحت فيما بعد مدار الاستقطاب والتجاذب، لذا كان من الطبيعي أن يتحول الجدل الدائر بين الفئات الاجتماعية والسياسية، إلى جدل اجتماعي وسياسي يبحث له عن مبررات تحتمي بالعقيدة والسلوك .
الهويات الفرعية البناء المنقسم للمواطنة
المقصود بالهويات الفرعية هي الهويات والانتماءات التي تقف في مواجهة متطلبات الهوية الوطنية المشتركة،وذلك خلافا للثقافات الفرعية التي تتكامل مع الهوية الوطنية عبر مجموعة الحقوق والواجبات المقررة للجماعات والفئات المختلفة. ولما كانت الهوية الوطنية المشتركة متعثرة هيكليا وتجد ممانعة من قبل النظام السياسي فمن الطبيعي أن يكون لتلك الهويات الفرعية نشاط غير طبيعي وأن تمارس دورا مهما في مسألة الصراع السياسي والاجتماعي. يحدث ذلك رغم حالة الوئام والانسجام وزيادة معدل الترابط الأسري بين فئات المجتمع تنوعاته، إلا أن المسألة المذهبية أو الطائفية تشكل واحدة من أبرز المشاكل التي بدأ يعاني منها المجتمع البحريني، لدرجة أن المسائل المتعلقة بالهوية الاجتماعية ظلت دائما حاضرة عند التعاطي مع مشاكل المجمتع البحريني، وبالتالي فنحن أمام خليط قابل للاستثمار السياسي والاجتماعي ومحور هذا الخليط هو البعد المذهبي وإشكاليات بناء هوية كل مذهب وما قد يؤسسه من تفاعلات سياسية واجتماعية.
إن الفشل في صياغة الهوية الوطنية المشتركة وعدم القدرة على بلورتها أدى بطبيعة الحال لبروز نتيجتين اساسيتين في المذهبية والتضاريس الجيوسياسية لها أولهما : صعوبة وتعثر الانتقال الديمقراطي والثانية البحث عن مخارج بديلة عن الهوية الوطنية المشتركة. ولتوضيح ذلك سنذكر هنا نمطين من المخارج البديلة عن الهوية الوطنية المشتركة.
المخرج الاول : ترسيخ ما يعرف بالهوية الخليجية المشتركة المبنية على الترابط الأسري والقبلي، ورغم أن البحرين كانت السبب من وراء فشل قيام اتحاد خليجي سنة 1970 إلا أن تأسيس مجلس التعاون الخليجي سنة 1981 أيقظ الرغبة في تأسيس هوية خليجية مشتركة تقوم مقام الهوية الوطنية. وقد أسهمت هذه الهوية في ربط المتطلبات الديمقراطية والاجتماعية المحلية بسياقها الإقليمي الخليجي وعبرت عن نفسها في صيغ من الهروب إلى الأمام عبر دعوتها ” الهوية الخليجية” إلى الوحدة الخليجية والتكامل الاقتصادي. ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على الهوية الخليجية المشتركة إلا أن الجهود الفعلية لم تعطي ثمار حقيقية للمواطن البحريني سوى بعض الامتيازات الشكلية، بل إن تلك الامتيازات أسهمت في الفترة المتأخرة في رفع الإيجارات وأسعار الأراضي السكنية بما أدى لعجز المواطن عن مواكبة المواطنين الخليجين في التملك.
المخرج الثاني : عسكرة الهوية المحلية على مستويين:
المستوى الأول البعد الهيكلي للدولة من خلال تأسيس أجهزة أمنية متعددة وفاعلة وعبر ربط السياسات الداخلية بالإدارة الأمنية من خلال تطبيق قانون أمن الدولة من 1975 حتى إلغاءه سنة 2001 واستبداله بقوانين مشابهة كقانون مكافحة الإرهاب أو قانون التجمعات والمسيرات.
المستوى الثاني هو خلق عدو خارجي ممثلا في البعد الإيراني ، إذ تتم عملية بناء الهوية البحرينية فكريا وسياسيا وثقافيا من خلال الهوية المضادة لإيران ” الشيعية، الصفوية، الفارسية” فالهوية المحلية الرسمية تبقى محتاجة بالضرورة للهوية الإيرانية كي تبني هوية تقوم على الاختلاف والتباعد مع كل ما هو فارسي – صفوي ـ شيعي ـ هذا التباعد يساعد النظام على تبلور هوية ” بحرينية” مبنية على العداء للآخر المختلف. ونعرف دوما ان الانظمة التي تواجه خللا داخليا في تركيبتها وعلامات استفهام كبيرة على قواسمها المشتركة مع شعبها هي انظمة تسعى لان تعوض عن الاهتزاز الداخلي بحرب او حروب خارجية ضد هذا الآخر العدو حتى تستجدي لحمة ولو آنية من مجتمعها في حالة اغتراب قديمة لمواجهة استحقاقات الهوية الوطنية المشتركة.
الهوية الشيعية
تقوم الهوية الشيعية للمواطنين البحرينين على أسس عقائدية مشابهة للعقيدة الشيعية العامة للأثنى عشرية . إلى جانب ذلك فإن الهوية الشيعية تبني نفسها من خلال سرد تاريخي للشيعة في البحرين انطلاقا من أسبقية الاستطيان ومن التراث الثقافي والاجتماعي الذي تأسس عبر قرون طويلة للوجود الشيعي في البحرين. فقد أسس الشيعة منذ القرن السابع و الثامن الهجري مدراس وحوزات علمية دينية كما تولى العديد من فقهاء الشيعة مناصب الحاكم الشرعي في البحرين وكانوا يشرفون على تنظيم القرى والأرياف كما في حالة السيد عبد الرؤف الجدحفصي ( ت1625) الذي يسدى إليه بناء شبكات الري وشق الطرق وتعبدها او كما في حالة الشيخ محمد بن ماجد الذي تولى منصب شيخ الاسلام في البحرين .
إن جزءا مهما من الهوية الشيعية في البحرين له علاقة قوية بكمية ونوعية المظالم التي تعرض لها الشيعة منذ دخول آل خليفة البحرين سنة 1783 الأمر الذي كون ذاك الجزء على مشاعر التهميش والإقصاء والحرمان والمظالم الكبيرة. وينبغي القول أن هذا الشعور ليس شعورا وهميا بقدر ما هو شعور يستند إلى وقائع حدثت في الماضي واستمر بعضها باقيا حتى الوقت الراهن. فعلى سبيل المثال كتب الميجر ديلي سنة 1923 تقريرا ضخما عن مظالم الشيعة في عهد الحاكم عيسى بن علي واحتوى التقرير على اسماء ووقائع عديدة وصل بعضها لحد انتهاك الاعراض والسخرة الجنسية، كما تشير أدلة تلك الفترة لوجود ضرائب عنصرية تفرض على الشيعة فقط مثل ضربية الرؤس وضربية الأسماك وافتقاد الشيعة لأي نوع من التظلم أمام الحاكم في شأن مصادرة واستملاك أراضيهم أو حجز مصايد الأسماك . وتشير نليدا فوكارو إلى أن كثرة الأوقاف وبناء المأتم قد شهد طفرة كبيرة في عشرينات القرن الماضي دون أن تشير لسبب ذلك في حين أن هذه الفترة تم إدخال نظام الطابو لتسجيل الأراضي ولما لم يكن عدد كبير من الشيعة يملكون وثائق معتمدة من قبل الحاكم أو الإدارة البريطانية وخوفا من مصادرتها يتم وقفها للمأتم .
رغم أن الجزء الأكبر من الهوية الشيعية من الناحية السياسية متعايش مع مع فكرة الهوية الوطنية ولا يرى بأسئا في التعامل مع الدولة العلمانية خلافا لأوضاع نظرائهم شيعة العراق ( 1923-1937) الذين فرضوا مقاطعة على الدولة آنذاك، بدليل أن المطالب التي رفعتها الجماعات الشيعية لم تخرج عن المطالب الوطنية والدعوة للتعامل بالمثل والمواطنة، فقد كان التوتر الذي تخلقه هذه المطالب يعامل وفق رؤية شعبوية استطاعت منذ وقت مبكر جدا في ربط قضية الشعوبية التي أرسى معالمها ساطع الحصري ودعاة القومية العروبيين بالمطالب والاحتجاجات الشيعية على التمييز بحقهم وتصوير تظلمات الشيعة وكانها افعال تروج للطائفية في الدولة. وتجسد سعى الشيعة لايضاح مطالبهم السياسية والاجتماعية في دعمهم للإصلاحات الإدارية التي تمت سنة 1923 وفي عريضة مطلبية رفعت للحاكم آنذاك سنة 1935 إلا أن الشيعة توحدوا بعد ذلك مع السنة في حركة 1938 وحركة 1954 وحركة 1994 وانخرط العديد من شباب الشيعة في حركات سياسية يسارية وعلمانية وفي حركات عمالية مختلفة، ولم يعد للهوية الشيعية مطالب طائفية بقدر ما كانت المطالب المرفوعة هي المساواة والمزيد من الديمقراطية وترسيخ المواطنة بدلا من التمييز والهرمية التراتبية.
وفي هذا الإتجاه واجهت الهوية الشيعية اتهامات سائدة تربطها بمخططات خارجية وإقامة علاقات مشبوهة مع القيادات الروحية العليا للمذهب الشيعي في النجف أو في قم .ان وجود صلات تربط اتباع المذهب الشيعي مع بعضهم البعض مع اختلاف مناطقهم الجغرافية امر طبيعي جدا وان الصلات التي تربط شيعة البحرين ببعض مراجع الدين في قم او النجف لا تمتد الى المستوى السياسي ولا تاثير لها على الهوية الوطنية، وربما جادل بعض الشيعة بأن مراجع الدين الشيعة في النجف وفي قم أكدوا مرارا على هوية البحرين الوطنية ودفعوا برجال الدين الشيعة على الانخراط في مؤسسات الدولة وتقويتها وهنا تذكر حادثة الاستفتاء الأممي الذي أجرى سنة 1971 حيث أشار المرجع الديني الشيعي آنذاك السيد محسن الحكيم إلى اختيار استقلال البحرين وعروبتها.
من وجهة نظر تحليلية فإن ربط التشيع بنظرة شعوبية كان ذا مغزى سياسي مؤداه التدخل الايراني في الشئون الداخلية العربية سواء في دول الخليج العربي او مناطق اخرى، إلا ان امعان النظر يقود الى اتخاذ موقف من وجهة النظر تلك وارجاعها الى موقعها الايديولوجي ذلك بان كتب التاريخ تؤكد ان الفرس المسلمين كانوا حتى القرن الخامس عشر الميلادي يعرفون باهل السنة والجماعة وانهم اخذو التشيع بعد تاسيس الدولة الصفوية وقد جهدت السلطة الصفوية لفرض التشيع على السكان واستعان الصفويين بعلماء من البحرين ومن جبل عامل لهذا الغرض ولكن بسقوط الدولة الصفوية انتهى هذا الدور . وبالتالي فإن النفوذ الإيراني داخل الهوية الشيعية في البحرين هو تأثير محدود وربما تصاعد بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 لكنه ظل هامشيا مقارنة بأصالة تكوين الهوية الشيعية لدى البحرينين.
من ناحية مؤسساتية فقد أسس الشيعية لأنفسهم أول مؤسسة دينية خاصة في العام 1973 حيث تأسست جمعية التوعية الإسلامية كأول جمعية دينية شيعية معترف بها رسميا وفي العام نفسه تم إصدار أول مجلة شيعية أيضا وهي صيحفة المواقف الاسبوعية ولم يسمح للشيعة بإنشاء تنظيم سياسي رسمي لكون القانون السائد لا يجيز ذلك ويعتبره جرما يعاقب عليه القانون وهذا ما حول من المؤسسات الدينية كالمآتم والمساجد والمؤسسات الاجتماعية كالنوادي لمؤسسات شبه سياسية تقوم بدور أحزاب سياسية كما يقول الخوري . وفي العام 1984 تم إغلاق جمعية التوعية الإسلامية والمكتبة الإسلامية واستمرت مجلة المواقف بالصدور إلا أنها تعثرت بعد ذلك وتوقفت عن الصدور. ونظرا للمنع القانوني للأحزاب والمؤسسات السياسية فقد أسس الشيعة أحزابا سياسية سرية مثل الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين ( 1974) وحزب الدعوة في البحرين ( 1969) أي قبل انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 ومن الملاحظ هنا أن الارتباط الفكري الذي يربط كلا التنظيمين كان نابعا من العراق ( النجف، كربلاء) وليس من إيران.
في 2001 وبعد إقرار قانون الجمعيات السياسية شكل الشيعة العديد من الجمعيات السياسية أقوها جمعية الوفاق الوطني الغسلامية وجمعية العمل الإسلامي وهما جمعيتين معارضتين بجانب جمعية الرابطة الغسلامية وهي جمعية موالية للحكومة. الحدث المثير للانتباه هو دعوة علماء الشيعة في البحرين لتأسيس مجلس علمائي خاص بالطائفة الشيعية سنة 2004 دون الحصول على ترخيص من قبل الدولة له بالعمل ويقوم هذا المجلس حسب نظامه الداخلي بمهام دينية ومذهبية خالصة بجانب قيامه ببعض الأدوار السياسية المتصلة بالقضايا الوطنية الكبرى كالانتخابات ( 2002/ 2006/ 2010/ 2011) أو قانون الاحوال الشخصية أو الأحداث السياسية الكبرى المحلية أو العربية.
الهوية السنية
يشكل أهل السنة أقل من 40% من المواطنين، ويمتمد الوجود التاريخي السني في البحرين لعصور قديمة جدا إلا أن القرن الثامن عشر يعتبر الفترة التي هاجرت فيها العديد من القبائل العربية السنية إلى البحرين بمعية آل خليفة سنة 1783 واستمرت هذه الهجرة متواصلة حتى بداية القرن العشرين باستقرار بعض فروع قبائل النعيم في البحرين . من الناحية التاريخية فإن هناك علاقة وطيدة ربطت المؤسسة الدينية السنية بالعائلة الحاكمة عندما استقر آل خليفة في الزبارة واستقدموا لتأسيس مقرهم رجال الدين ورجال الاقتصاد آنذاك. وعندما استولى آل خليفة على البحرين استقرت العديد من القبائل المتحالفة مع آل خليفة في البحرين وهو ما فسره البعض على أنه بداية الوجود السني المؤسس في الجزيرة .
تشكلت الهوية السنية حالها حال الهويات الدينية الأخرى تحت عباءة رجال الدين السنة الذين كونوا لأنفسهم مرجعية دينية قوية ونافذة في الفترات الاولى إلا أن هذه المرجعية تلاشت وانتهت برحيل رجلها الاقوى القاضي قاسم المهزع إذ أدت وفاته إلى تلاشي المرجعية الضابطة للهوية السنية على المستوى الاجتماعي والسياسي. فقد كان القاضي المهزع الرجل الوحيد الذي استطاع قيادة أهل السنة بمختلف توجهاتهم نظرا للنفوذ القوى الذي كان يحضى به لدى النظام السياسي. مع ذلك لم تمنع قوة القاضي المهزع من وجود أقطاب سياسيين سنة مثل الشيخ عبد الوهاب الزياني الذي يعد مصلحا اجتماعيا قاد أول عملية إصلاح لنظام التعليم واسس اول مدرسة نظامية عربية بعد مدرسة الإرسالية الامريكية والمدرسة الايرانية ثم قاد عملية إصلاح سياسي أسس من خلالها مؤتمرا للمطالبة بالإصلاحات السياسية في البحرين سنة 1923 وقد نفي على إثر ذلك مع زميله أحمد بن لاحج إلى الهند ومارس من هناك معارضة في المنفى للسياسة البريطانية ودعما للحاكم المعزول عيسى بن علي.
من الناحية السياسية فإن الهوية السنية الدينية تعتبر موالية ومساندة للنظام وتصف أسلوب عملها دائما بأنه طريقة المناصحة وليس المعارضة . لقد انخرط العديد من رجال الدين السنة ومن المثقفين السنة في مشاريع ثقافية واجتماعية مقابل عزوف واضح عن ممارسة العمل السياسي الذي توجه لدى اهل السنة لمعارضة الإدارة البريطانية ودعم الأسرة الحاكمة في توجهاتها. ومثل هذا الموقف دفع بالعديد من فئة الشباب للانخراط في المشاريع السياسية القائمة آنذاك وهي مشاريع وطنية جامعة كما في حركة 1938 وحركة 1954 كما أسس العديد من أفراد السنة تنظيمات سياسية ذات طابع يساري وتنظيمات عمالية عديدة.
ومن ما يلفت النظر هنا هو تباين نشاط الجماعات السنية في البحرين عن نظيرتها في دول الخليج الأخرى وبالأخص في الكويت حيث تنشط هناك جماعة الإخوان المسلمين وجماعة السلفيين بشكل معارضة سياسية ومطالبة بالمزيد من الديمقراطية وقد تضطرها هذه المواقف لاتخاذ مواقف حادة وصراعية مع السلطة إلا أن سلوك جماعة الإخوان المسلمين في البحرين وجماعة السلفيين يؤسس لما يدعونه بالمناصحة لا المعارضة. باستثناء التوجهات الديمقراطية التي انخرطت فيها الهوية السنية فإن التوجهات الدينية السنية كانت تقف سلبيا من أي تحركات سياسية معارضة وربما قامت في أوقات عديدة بالمشاركة في الدعاية الرسمية حول المعارضة ووسمها بالصفات التي تقررها السلطة الحاكمة وذلك عبر بيانات خطب الجمعة أو تصريحات صحفية.
يشار هنا الى واقعية ما يذكره النفيسي من ان العامل الرئيسي الذي عمق شق الخلاف بين رجال الدين السنة ورجال الدين الشيعية وكان له اثر فعال في وجهتي النظر السياسي لدى الطرفين هو مصدر الدخل لدى كل طائفة منهما فالعالم السني والمؤسسة الدينية السنية تعتمد في دخلها على ما تصرفه وتقدمه الدولة، اي ان العالم السني يعتبر موظفا حكوميا يتقاضى مرتبا بينما العالم الشيعي والمؤسسة الدينة الشيعة قادرة على تمويل نفسها والاستقلال عن مؤسسة الدولة وان قبلت الاعانة في بعض الاحيان. ومن الملاحظ هنا ان رجل الدين السني يعتبر الحكومة القائمة وسلطتها سلطة شرعية يجب الامتثال لها اما عالم الدين الشيعي فهو قادر على اتخاذ مواقف معارضة وانتقادية للحكومة بل انه يمتلك من الوسائل الاحتجاجية السلمية ما يثبت به معارضته للنظام او الحكومة .
مؤسسيا فإنه بحكم العلاقة الوثيقة التي تربط المؤسسة الدينية السنية بالعائلة الحاكمة وبنظام الحكم فقد أسس أهل السنة لهم العديد من المؤسسات الدينية والثقافية منذ الخمسينات وقبلها. ففي عام (1949) أسست جماعة الإخوان المسلمين أول فرع لها في البحرين تحت إشاف أفراد من العائلة الحاكمة وفي العام (1976) أسس التيار السلفي جمعية خيرية بعد خروجه على جمعية الغصلاح التابعة للخوان المسلمين كما اسس رجال الدين الأزهريون جمعية خاصة بهم في الفترة نفسها وحضيت هذه الجمعيات ولا تزال بدعم سخي من الحكومة.
من ناحية العلاقات البينية التي تدور حولها الهوية السنية فهي كما سبق القول تعتبر السلطة السياسية محورا أساسيا في تحديد نمط العلاقات الأخرى بل إن الهوية السنية تعتبر نفسها جزء اصيلا من تركيبة نظام الحكم وطبيعة النظام السياسي القائم. ونظرا لتوتر العلاقة بين الحكومة والمعارضة السياسية ومنها المعارضة الشيعية فلا يبدو أن علاقة الهوية السنية بالهوية الشيعية كانت مستقرة بشكل جيد بل إن ما يشار إليه كحالات انسجام وتصالح سرعان ما يتعرض للتشويش في كل مفصل أو استحقاق سياسي معين كما في أحداث سنة 1923 وأحداث 1954 وأحداث 1994 .
ما تجد الإشارة إليه هنا أن الهويات الفرعية ليست كتل صماء بقدر ما تحتوي هي الأخرى على تفريعات داخلية تقودها اتجاهات فكرية وسياسية تستهدف في الغالب القيام بدور البطولة التاريخية عبر حملها لواء الدفاع عن الهوية الفرعية الكبرى وقيادتها في صراعها او مزاحمتها للهوية الوطنية المفككة.[8] والملفت أيضا أن هذه التفريعات الداخلية عمدت لتشكيل نفسها ضمن الأطر الجماعاتية التي ينظمها قانون الجمعيات السياسية محولة بذلك التنافس الداخلي إلى تنافس ضمن المجال العمومي الذي يشغل حيزا داخل الهويات الفرعية باعتباره قناة التواصل بين القيادات والجماهير وتشير دراسة التجارب الداخلية لبعض تلك الأطر أن مسارها العام لم يكن متوجها ناحية البرامج السياسية والاجتماعية بقدر ما كانت تتجه لتسييد نفسها كناطق رسمي ووحيد للهوية الفرعية التابعة لها.[9]
ثالثا: تجاوز الطائفية التقليدية للطائفية الجيوسياسية
إذا كان العداء بين الشيعة والسنة ليس جديداً، فإنه اليوم، يعرض بعض الخصائص التي تختلف عن المذهبية التاريخية في الشرق الأوسط. مع ذلك، فإن تزايد الصراع الطائفي اليوم هو، في المقام الأول، نتيجة لانهيار الحكم الاستبدادي والنزاع على السلطة السياسية والاقتصادية. ويشيرﻏﺮﻳﻐﻮري ﻏﻮس إلى أن الاضطراب الإقليمي الراهن ليس إلا نتيجة استفادة اللاعبين الإقليميين الأقوياء – وخصوصاً المملكة العربية السعودية وإيران – من الفراغات السياسية التي تسود في الدول الضعيفة وذلك للمنافسة على الحصول على نفوذ في السياسات المحلية لهذه الدول ، وإلى أن التوترات الطائفية لم تنشأ عن رفض الدول هويات الأقليات الثقافية الأساسية، بل لأنها لعبت تاريخياً “لعبة مزدوجة” – مدعيةً في الظاهر المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الطائفة بينما كانت في الحقيقة تميّز بعض المجموعات الدينية أو العرقية.[10]
ما هو بالغ الأهمية لفهم الهويات الطائفية الحديثة، انها تعبر عن تقاسم غير مرئي للقوة والنفوذ وأن الإطار التاريخي للإنقسام المذهبي لا يعتبر من ضمن حدودها كما كان في القرون الاولى للتاريخ الاسلامي. فعلى مر القرون، كانت هناك تباينات عدة وتحولات في “الارثوذكس”، الدين التقليدي، كما في التشكلات الطائفية، وكانت الانقسامات تتفجر بصراعات فقط عندما تتسيّس بنزاعات على سلطة او موارد. ففي الأعم الأغلب، عاشت طوائف شيعية متنوعة ساكنة تحت حكم السنة، وكانت، في معظمها، معزولة. وكما الحال في اي مكان في العالم ما قبل الحديث، كانت تلك الطوائف تقليديا منعزلة في مناطق منفصلة، باستثناء تلك التي تعيش في المدن الرئيسة حيث تسكن احياء مختلفة. وجاء التسييس بصراعات اجتماعية، وحركات تمرد ومواجهات جيوبولتيكية. وبعض حركات التمرد ردّت مطالبها الشرعية الى عترة علي والنبي الشريفة. والمواجهات والحروب التي قامت بين العثمانيين والصفويين على مر القرون اشركت رموزا طائفية. فكثيرا ما كان العراق، بسكانه الشيعة ومراقده المقدسة ساحة معركة بين الاثنين. وعلى اعتاب العصر الحديث، صار وهابيو الجزيرة العربية – الذين كونوا لأنفسهم دولة – يشنون جهادا على الشيعة، في شبه جزيرة العرب وفي العراق.[11]
النفوذ الإيراني والمخاوف الإقليمية
بدء من 1979 فرضت التحولات السياسية العميقة نفسها على منطقة الخليج العربي حيث أدى قيام حكم شيعي متدين في إيران لإعادة تموضع القوى المجتمعية عبر سعيها في تحصين نفسها إما باكتساب قدرا زائد من القوة كما لدى الجماعات الشيعية والجماعات السلفية أو عبر السعي لمنع تمدد القوى المناوئة والحفاظ على خنادق المواجهة كما لدى الأنظمة السياسية القائمة. الأخطر من بين كل ذلك كان تأسيس نظام إقليمي جديد يستقوي بالمذهبية والطائفية كاستراتيجية فاعلة لجنى المكاسب وتقليل الخسائر وعبر تلك الاستراتيجية اصبحت المشكلة الطائفية / المذهبية محفوفة بكل عوامل الصراع الإقليمي[12] .
بعد فترة ليست طويلة اندلعت حرب الخليج الاولى بين إيران والعراق وفرضت على النظام الإقليمي تعزيز الطائفية والإثنية محولة بذلك الصراع السياسي داخل المجتمعات لصراع مذهبي يعتمد على توسيع آليات الضبط الديني واستخدام المؤسسات والدعاية المذهبية كبديل عن المؤسسات السياسية الغائبة والممنوعة أصلا[13]. فأنشئت المدراس الدينية المنافسة للصعود الشيعي في إيران من اجل خلق حزام مضاد في التوجهات وقابل للصدام وهو حزام التفكير السلفي الرافض لكل أنواع الفكر الشيعي[14]. وفي الواقع لم تكن هناك حاجة لذاك العدد الهائل والتمويل الكبير لمنافسة بضعة زعماء شيعة تأثروا بصعود إيران المذهبي حيث كان بالإمكان الاتجاه نحو تبني تنمية سياسية ديمقراطية قادرة على إبعاد شبح التطرف الشيعي.
كانت للثورة الإيرانية التأثير العاطفي والنفسي القوي على الشيعة في البحرين، كما قدم لهم رؤية جديدة ودفعة جديدة لتأكيد على هويتهم المذهبية ظهرت بشكل لافت في تبنى تقاليد وخصائص الثورة الايرانية ، واستخدام الرموز الدينية على نحو متزايد لإضفاء الشرعية على العمل السياسي، واعتمدت الشعارات الإيرانية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.[15] كانت هذه المرحلة هي بداية التحول الكبير، في طأفنة المجتمعات الخليجية ففي مقابل الصعود الشيعي وتأييد الجماعات الشيعية للثورة الايرانية رأت الجماعات السنية أنها بحاجة أيضا لأن تعيد بناء هويتها ولجأت بعض الجماعات السلفية لإعادة تراث القرن التاسع عشر والنصوص التاريخية الخاصة بالملل والفرق الاسلامية لوصف الصعود الشيعي بالهرطقة والصفوية والمجوسية. لقد صورت الحرب بين إيران والعراق باعتبارها حربا مصممة أساسا لمكافحة النفوذ الفارسي، لا ضد الشيعة ومع ذلك، أدرج الشيعة ضمنا على جانب العدو وتعامل معهم بأنهم الخونة المحتملين. ونتيجة لذلك، فإن الحرب لم تؤثر على العلاقات بين إيران والعالم العربي، فقط ولكن أيضا نسجت علاقات شبه عدائية بين الشيعة والسنة داخل المجتمعات الخليجية. وهذا دفع الأنظمة السياسية لاتباع سياسيات مناهضة للشيعة كانت حافزا قويا لتقوية الهوية الشيعية.[16]
بعد سقوط نظام البعث في العراق 2003 تجددت الجيوالسياسية الطائفية وبعد سقوط النظام دخل عنصران جديدان إلى الواجهة وهما عنصران لم يكونا موجودين سابقا، ما أدى إلى انفجار الوضع الطائفي المحتقن أصلا، هذان العنصران هما: أولا؛ وصول القوى الشيعية إلى الحكم، والحديث العلني المباشر عن المطالبة بحقوق الشيعة السياسية، وثانيا؛ بروز الظاهرة التكفيرية القادمة من دول عربية مجاورة بين صفوف السنة[17]. وهنا برز المكنون الطائفي لدى الجميع وتناثرت أوصال مجتمع هو بالأساس كان بحاجة إلى جهود مضنية لجعله مجتمعا موحدا. وعن علاقة الدولة بالطوائف، تسعى النخب السياسية الطائفية أن تكون الطوائف كيانات مستقلة منغلقة قائمة بذاتها، ولا تقوم علاقات اجتماعية سوى بين الطوائف، ولا يمكن لمثل هذه العلاقات أن تتحدد إلا كعلاقات طائفية. وهي في وجودها الكياني هذا بالذات بحاجة إلى الدولة التي تؤمن لها ديمومة وجودها. إذن الدولة في هذا المنطق الطائفي، تكون شفيعة الطوائف، وكفيلتها. والدولة بدورها، تكون بحاجة إليها، فلو لم تكن الطوائف، لما وجدت الدولة الطائفية بالطبع. هكذا يعزز كل طرف وجود الآخر تبادلا للمصلحة. ضمن السياق نفسه فإن دراسة فالي نصر حول الانعاث الشيعي تعد واحدة من أهم الاعمال التي تعرضت للمسألة الشيعية في العالم العربي وترجع أهميتها لجهة قدرتها على تحديد رؤية منهجية لصعود الحالة الطائفية بعد احتلال العراق وتمكين الشيعية من تولى زمام الحكم فيه. ونظرا لأهمية دراسة نصر نرى من المهم التذكير بأهم ما طرحه وما يمكن استنتاجه من فرضيات وتحليلات تخص مستوى التفاعل بين الجماعات الشيعية والجماعات الأخرى أو أنظمة الحكم. فيذهب نصر إلى أن ما يسميه بتحرير العراق عام 2003 كان بداية لمد شيعي جديد بعد بروز نمط قيادة شيعية قننت وعقلنت الدور السياسي للحوزة الشيعية، وتسلك طريق الحكمة والاعتدال، تبتعد عن الراديكالية والشعبوية. ومن وجهة نظره فقد أطلق الوضع الجديد في العراق تفاعلاً متسلسلاً، وهذا التفاعل سيشتغل على نحو مغاير في لبنان والبحرين والسعودية، لكن المحصلة الإجمالية ستكون قوة شيعية أكبر ومزيداً من الصلات الثقافية الظاهرة بجلاء على امتداد الهلال الممتد من لبنان إلى باكستان”.
ثورات الربيع العربي
الجيل الذي بدأ ويواصل الانتفاضات العربية منذ العام 2011 ليس جيلا طائفيا، ومطالبهم من اجل قيم عامة من الخبز والحرية والكرامة. وفي اي مكان تواجههم مصالح الانظمة القديمة المتمترسة الراسخة والمرتبطين بها، ما يطلق عليه بـ”الدولة العميقة” في مصر، فضلا عن الشعبوية الاسلاموية.[18] تعتبر الحالة المذهبية في البحرين التي نشأت على تخوم ثورات الربيع العربي مثالا بارزا على الجيو السياسية الجديدة للطائفية حيث أن الثورات العربية[19]، الجارية عبر المنطقة، قلبت أو هددت بقلب، الترتيبات الصعبة وغير المستقرة غالب الأحيان التي تم التوصل إليها بين الشيعة والسنة. فقد كان هناك مستوى معين من الاندماج الاجتماعي هو قاعدة السلوك التاريخية، ، بما في ذلك بعض المصاهرة. إلا اهذا الأمر تغير بصورة دراماتيكة وبشكل كبير منذ بدء الانتفاضة في ربيع عام 2011، عندما تحدت المعارضة التي يسيطر عليها الشيعة، الحكومة ودعم معظم المثقفين والناشطين السنة، الذين انضموا إلى الشيعة في البداية، حركة الاحتجاج.
عندما بدأت الانتفاضة الأخيرة كجزء من موجة الثورات في العالم العربي، كانت غالبية المحتجين الشباب الذين قاموا بمسيرة إلى دوار اللؤلؤة، من الشيعة. وكان ذلك بعد ثلاثة أيام من طرد الرئيس السابق حسني مبارك من السلطة واختيار البحرينيين يوماً رمزياً، هو 14 فبراير/ شباط. ففي هذا اليوم قبل عشر سنوات، كان الملك حمد بن عيسى آل خليفة قد أعلن بأن ميثاقه، “ميثاق العمل الوطني”، مشروع الإصلاح الكبير، سوف يطبق، وأعلن البحرين نظاماً ملكياً دستورياً له برلمان من مجلسين وغرفة سفلى منتخبة.
كانت الحكومة البحرينية مصممة على عدم السير في طريق مصر وتونس. ففي 14 مارس/ آذار، رحبت الحكومة بـ1200 جندي من السعودية و800 جندي من الإمارات العربية المتحدة، العاملين تحت إشراف مجلس التعاون الخليجي، وكتب الملك حمد أن حكومته كانت مجبرة على استخدام الخيار العسكري وفرض حملة لتطبيق النظام لأن “المطالب المشروعة للمعارضة قد اختطفها متطرفون لهم علاقات مع حكومات أجنبية في المنطقة “، في إشارة واضحة ومباشرة إلى إيران. لم تكن الانتفاضة بتحريض من إيران. مع ذلك، فقد عقَّد مسؤولون ايرانيون الصورة عن طريق إعطاء الحكومتين البحرينية والسعودية الفرصة للتأكيد على أن طهران كانت وراء الثورة. فما أن بدأت الانتفاضة، حتى أشار إليها المرشد الأعلى خامنئي بغبطة، وقدم الدعم العلني والمعنوي للشيعة ضد الحكومة السنية القمعية.
في بداية الانتفاضة البحرينية، انضم السنة إلى المحتجين الشيعة في دوار اللؤلؤة في المنامة. فقد دعم السنة المعتدلون عموماً الانتفاضة لمصلحة جميع البحرينيين. ووضع المتظاهرون شارات تحمل شعار “لا سنية لا شيعية، فقط بحرينية”. “لكن التعاون العابر للمذهبية ضد الحكومة فشل في التجسد على المدى الطويل، حيث أصبح السنة مترددين بشكل متزايد بالعمل مع جماعات المعارضة الشيعية[20].
عوضاً عن ذلك، سرعان ما وضعت الانتفاضة الشيعة والسنة على طرفي نقيض. فقد وقف حتى السنة المنتقدين لسياسات الحكومة، إلى جانب الدولة ضد الشيعة عندما كانوا مجبرين على الاختيار. هذا الأمر أعطى مصداقية لمزاعم الحكومة بأن الانتفاضة نابعة من صراع مذهبي تماماً، وأصبح الأمر أكثر وضوحاً ما أن كسبت الانتفاضة زخماً.
انتهزت إيران اللحظة وأطلقت العنان للآلة الإعلامية باللغتين الفارسية والعربية على حد سواء، للدفاع بصوت عال عن قضية الشيعة. ومع دعم إيران للانتفاضة ودعم قوات التدخل بقيادة السعودية لعشيرة آل خليفة السنية، تحولت الحركة الاحتجاجية البحرينية، وبسرعة، إلى معركة بالوكالة بين القوى الإقليمية القيادية. ووفرت أرضية خصبة لفكرة كون المعارضة السياسية في البحرين ما هي إلا تمرد شيعي لانتزاع السلطة من الأقلية السنة.
حتى لو لم تكن إيران تتدخل مباشرة في الانتفاضة، فقد كانت وسيلتها الإعلامية الناطقة باللغة العربية، أي قناة العالم، إضافة إلى قناة المنار التابعة لحزب الله ، وقناة أهل البيت التلفزيونية في العراق تعمل كلها بكد وجهد لإقناع الشيعة، ليس فقط في البحرين، وإنما، وهذا هو الأهم، في جميع أنحاء المنطقة، بأن الصراع عبارة عن كفاح من أجل حل خلافات سياسية ودينية قديمة بين المذاهب[21].
وهذا يؤكد أن التوتر الواضح بين الطوائف/ المذاهب هو نتاج ما ذكرناه سابقا من غياب أو هشاشة سياسية فاعلة تمثل الهوية الرئيسية لأبنائها في حراكهم الاجتماعي والسياسي، وحيث لا توجد أحزاب سياسية في الخليج ولا منظمات مجتمع مدني فاعلة في أكثر دوله فإن البنى التقليدية (الطائفة والعشيرة) تأخذ مكان الأحزاب والمنظمات السياسية والمدنية في التعبير عن الفرد الذي لم تعترف به الدولة كمواطن كامل الأهلية يمكنه التعبير عن خياراته بشكل مستقل. إن اصطدام محاولات الإصلاح والدعوات للتغيير في الخليج بالمنطق الطائفي الذي تشيعه السلطة وتقدمه كفزاعة وورقة ضغط لتخفيف هذه الدعوات وتحجيمها يذكربالتضاد بين الحالة الديمقراطية المؤسساتية ِّ المدنية والحالة الطائفية. لكن المشكلة أن التركيبة الحالية للمجتمعات الخليجية ومجتمعات المشرق العربي في العموم تجعل من مطالب الإصلاح والتغيير عرضة بالفعل للصراعات الطائفية التي تستفيد منها السلطة[22]
ومن خلال حملة إعلامية مدبرة للدولة تزعم بأن إيران وراء الانتفاضة من أجل إنشاء دولة دينية وفق حكم طبقة كبار رجال الدين، تمكنت الحكومة من خلق شكوك عميقة بين السنة تجاه الشيعة. ورداً على الاحتجاجات المستمرة، أصبح بعض السنة أقل امتناعاً بكثير عن كشف وجهات نظرهم التمييزية للشيعة، بعضهم ممن تحركه مخاوف من كون الشيعة يريدون تحويل البحرين إلى دولة ثيوقراطية. أما بالنسبة للموالين للحكومة السنية، فقد وفرت لهم وسائل الإعلام التابعة للدولة آلية هائلة للتعبير عن آرائهم. ونظراً لتاريخ البحرين الطويل من التوتر المذهبي وهاجس الخليج الواسع النطاق من نفوذ إيران المحتمل، لم تعاني استراتيجية الحكومة من صعوبات تذكر بالنجاح في أوساط النخبة البحرينية. كما كان للموضوع تأثير جيد في منطقة الخليج، لا سيما في المملكة العربية السعودية القوة الإقليمية في المنطقة، ووجد البحرين آذاناً صاغية ومتعاطفة في الغرب.
الخاتمة
تعد المسألة الطائفية إحدى العقبات الرئيسية التي تقف أمام التجانس الاجتماعي والإجماع الوطني، والوفاق السياسي، والتي تعرقل التوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية تنهي الأزمة الوطنية العميقة، وإلى إعادة بناء الدولة والمجتمع.[23] والطائفية بمعنى المذهبية العقائدية بحد ذاتها، كتعبير عن اجتهاد أو رؤية محددة في الدين، قد لا تكون هي المشكلة، إذا ما تم النظر إليها في حدود التنوع والتعدد المذهبي، لكنها تغدو مشكلة خطيرة حين تتحول إلى نظام سياسي يلغي أو يضعف الهوية الوطنية، ويقوم على أساس المحاصصة، دون اعتبار لمفهومي المواطنة والشراكة وحقوقهما وواجباتهما. إن التجاذب أو الشرخ أو الصراع أو الكره الطائفي والقومي المنتشر في البحرين لم يكن وليد لحظة محددة، أو جاء بقرار ما، بل انه يعود إلى مشكلات تاريخية لم تعالج بالشكل المطلوب، بل تم تجاهلها، ما جعل الدولة في البحرين معنية بشيوع الانقسام المذهبي وتعزيز الهويات الفرعية الطائفية.
ولقد اثبتت التجارب أن نظاما قائما على المحاصصة الطائفية السياسية يؤدي لا محالة إلى خلق حالة طائفية بكل أشكالها الفردية والمؤسساتية والثقافية والاجتماعية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من سلوكيات وتحيزات واصطفافات، تتجاوز الحياة الشخصية والخيارات الفردية، لكي تنعكس في النشاط العام وميادين العمل على شكل احتكاكات وأحيانا صراعات قاتلة وهذا يتمثل بوضوح في الحالة البحرينية الراهنة بكل تجلياتها. بقدر ما كانت الانتفاضة في البحرين رداً على الثورات المناهضة للحكم الشمولي في العالم العربي، فإنها تعزى أيضاً إلى تاريخ من التمييز الديني والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين الشيعة والسنة. وبعبارة أخرى، إن تهميش الشيعة في المجالين العام والاقتصادي أثار نقمة سياسية في زمن التغيير الكبير في الشرق الأوسط.
فلعدة قرون، حارب الشيعة في البحرين من أجل حقوقهم وكانت، بصفة عامة، مرفوضة من قبل الأسرة الحاكمة، التي فسرت هذه المطالب من قبل الطائفة ذات الأغلبية في البلاد على أنها تشكل تهديداً للنظام القائم. وللحفاظ على قوة وسلطة الاقلية السنية، كانت قبيلة آل خليفة تنظر للشيعة على أنهم ممثلين تمثيلا ناقصاً في اقوى المراكز في الوزارات الحكومية، واستبعدت الشيعة بما يتعلق بالجزء الأكبر من الأجهزة الأمنية، بما في ذلك الشرطة. هناك أيضا التمييز الموثق توثيقاً جيداً في الترقيات، في الجامعات، في مهنة الطب، وفي القدرة على الوصول إلى الإسكان العام.
الهوامش
[2] Fuller, Graham e., and rend rahim Francke. The Arab Shi’a: The Forgotten Muslims. New York: St. Martin’s Press, 1999.
[3] لقد تأثرت التركبية الإثنية للبحرين منذ نهاية القرن الثامن عشر تاثرا كبيرا ومفارقا حيث شهدت البحرين هجرات استطانية واسعة من قبل مجموعات كبيرة من القبائل العربية التي تحالفت مع قبيلة آل خليفة أو وجدت حماية ودعما لها كما في حالة قبيلة الدواسر الذين استوطنوا البحرين منذ العام 1846 واحتلوا مكانة اقتصادية كبيرة بفعل حماية الشيخ عيسى بن علي لهم كحلفاء ومدعومين من قبله . وفي المقابل فقد هاجر من البحرين في هذه الفترة مجموعات كبيرة من السكان القدماء ناحية الساحل الشرقي أو المنطقة الشرقية للجزيرة العربية في فترات أقدم كما في حالة الغزو العماني للبحرين سنة 1713 أو بعد استيلاء آل خليفة على البحرين سنة 1782.
[4] Report of the Personal Representative of the Secretary General in Charge of the Good Offices Mission, Bahrain 30th April, 1970
[5] جان فرانسوا بايار ، أوهام الهوية ، ترجمة حليم طوسون، كتاب العالم الثالث 1998 ص،201
[6] عباس المرشد ، السفارة وختم السياسة ، بحث غير منشور ص 5 ، لمزيد من التفاصيل حول فكرة المتخيل يمكن الرجوع إلى :
- إريك هوبسباوم ( j. hobsbawn) ، الأمم والنزعة القومية ، ترجمة عدنان حسن ،دار المدى ، دمشق 1999
- جان فرانسوا بايار : أوهام الهوية ، ترجمة حليم طوسون، كتاب العالم الثالث 1998
- بندكت أندرسون ( Anderson benedict) ، المجتمعات المتخيلة 1983
- ارنست غلنر( Ernest gellner ) ، الامم والنزعة القومية 1983
[7] عبد الهداي خلف : بناء الدولة في البحرين المهمة غير المنجزة ، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2000 ص
[8] لمزيد من تفاصيل هذه الهويات راجع : التحدي الطائفي في البحرين، المنظمة الدولية للأزمات، اصدار 40 ، 2005.
[9] حول هذه الأطر السياسية انظر : التنظيمات والجميعات السياسية في البحرين، عباس المرشد وعبد الهادي الخواجة، دار فراديس، البحرين، 2000.
[10] F. Gregory Gause III, Beyond Sectarianism: The New Middle East Cold War,BROOKINGS DOHA CENTER ANALYSIS PAPER Number 11, July 2014.
[11] سامي زبيدة : مسألة الطائفية في السياسة في الشرق الأوسط ، ترجمته لـ”المدى”، رفقة حسن الأحد, يونيو 8, 2014
[12] Louër, Laurence. Transnational Shi‘a Politics: religious and Political Networks in the Gulf. New York: Columbia University Press, 2008
[13] Barzegar, Kayhan. “Iran and the Shiite Crescent: Myths and realities.” Brown Journal of World Affairs 15, no. 1 (Fall 2008): 87-99.
http://belfercenter.ksg.harvard.edu/publication/18724/iran_and_the_shiite_crescent.html
[14] Jaafar Alloul ,The ‘Shi’a Crescent’ Theory : Sectarian Identity or Geopolitics of Religion? Submitted for the Award of MA 2010-2011
[15] F. Gregory Gause, III ,Sectarianism and the Politics of the New Middle East,, 2013 .
[16] Drachman, Edward r. “War in the Gulf, 1990-1991: The Iraq-Kuwait Conflict and Its Implications.” Perspectives on Political Science 27, no. 1 (Winter 1998): 48. ProQuest research Library
[17] Nakash, Yitzhak. Reaching for Power: The Shi’a in the Modern Arab World. Princeton, NJ: Princeton University Press, 2006
[18] سامي زبيدة : مسألة الطائفية في السياسة في الشرق الأوسط ، ترجمته لـ”المدى”، رفقة حسن الأحد, يونيو 8, 2014
[19] سامي زبيدة : مسألة الطائفية في السياسة في الشرق الأوسط.
[20] Gengler, Justin. “how radical Are Bahrain’s Shi‘a?” Foreign Affairs, May 15, 2011.
[21] Geneive Abdo,The New Sectarianism: The Arab Uprisings and the Rebirth of the Shi‘a-Sunni Divide, Saban Center for Middle east Policy
,2013
[22] بدر الابراهيم: النزاعات الطائفية في الخليج العربي، ورقة مقدمة لمنتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة 2012.
[23] Gengler, Justin. “Bahrain’s Sunni Awakening.” Middle east research and Information Project. January 17, 2012. http:// www.merip.org/mero/mero011712