السيد محمَّد علي العلوي
مُدرس في الحوزة العلمية
المحتويات
مقدمة
مفهوم المعارضة
المعارضة لغةً
المعارضة اصطلاحًا
تعدد المعارضة
جوهر الأزمة
مقدَّمة:
هل يمكن لأطراف المعارضة السياسية في البحرين تحقيق حالة من الوحدة أو التقارب أو التنسيق في ما بينها؟
تحاول هذه الورقة البحث في إجابةٍ موضوعية للسؤال أعلاه، وقد كان الاعتماد على تفكيك أطرافه مع التركيز على (المعارضة السياسية) كونها طرف القضية الذي يُبحث عن محمولِه الذي جعلتُه مرددًا بين أربعة عناوين، هي:
1- الوحدة.
2- التقارب.
3- التنسيق.
4- الافتراق.
وللوقوف على مقربة من حقيقة الصورة، تعرضتُ أوَّلًا لمفهوم المعارضة لغةً واصطلاحًا، ثًمَّ حاولتُ تحديد المقامات المتصورة للمعارضة وعلاقتها بسلطة الحكم، ومن بعد ذلك قررتُ فهمي لشكل التعدد في أطراف المعارضة والعلاقة بين كل طرف والآخر من جهة، وعلاقة الجميع بالشعب والوطن بعد البناء على محورية الأخيرين.
أحسب بذلك أنَّ الورقة قد مهدت للبحث بما يناسب المقام في مشكلة (وحدة المعارضة)، ولذلك كان الانتقال لتوضيح المقصود من الوحدة والتقارب والتنسيق والافتراق، فالانتهاء بالنظر في شأن المعارضة السياسية المتعددة في البحرين ومحاولة الوقوف على أصل المشكلة التي دعت للبحث في إمكان تحقيق وحدة أو تقارب أو تنسيق بين أطراف المعارضة.
وفي الختام كان الانتهاء إلى تحديد المشكلة وطرح رؤية مجملة جدًا لحلِّها.
أُشير هنا إلى أنَّني اعتمدتُ النظر المفاهيمي، مبتعدًا قدر الإمكان على بحث المصاديق الخارجية، وذلك فِرارًا من بعض المحاذير الصارفة للورقة عن موضوعيتها المتوخاة، لذا فقد تُرِك الجانب التطبيقي والقياسي على القارئ الكريم.
أعتقد بأنَّه من الضرورة بمكان الاهتمام، بل المبالغة في الاهتمام بتكثيف العمل في مجال الدراسات والبحوث واستطلاعات الرأي، في الشأن السياسي وغيره، فنهضة المجتمعات رهينة رقيها الثقافي وعلوها الفكري، وهذا لا يتحقق إلَّا بمزيد من العطاء العلمي القائم على أسس منهجية وعمق بحثي.
• مفهوم المعارضة:
المعارضة لغةً:
قال ابن فارس في المقاييس: “عرض: العين والراء والضاد بناءٌ تكثُر فروعُه، وهي مع كثرتها ترجعُ إلى أصل واحد، وهو العَرْض الذي يُخالِفُ الطول”.
ثُمَّ قال: “تقول: عارضتُ فلانًا في السير، إذا سرت حياله، وعارضتُه مثل ما صنع، إذا أتيت إليه مثلَ ما أتى إليك، ومنها اشتُقت المعارضة؛ وهذا هو القياس، كأنَّ عرض الشيء الذي يفعله مثلُ عرض الشيء الذي أتاه”.
المعارضة اصطلاحًا:
“المعارضة السياسية هي مظهر من مظاهر الحكم الذي ينقسم بين طرفين أحدهما يكون في السلطة (الحكومة) والآخر خارج السلطة (المعارضة). أي أن المعارضة تعبر عن القوى غير المساندة للحكومة والتي تقف موقف الضد أو الرفض منها”.
بالنظر إلى الوحدة الموضوعية فإنَّ المعارضة هي وجود في عَرَضِ وجود آخر، أي أنَّه خيار مختلف كالألوان في عرض بعضها البعض، لا كالتدرج الوظيفي -مثلًا- الذي تكون فيه الوظيفة في طول الأخرى مع تضيُّق أو توسع المهام والصلاحيات، وهذا موافق تمامًا لوزنها الصرفي الذي من دلالاته المشاركة، ومن هنا فلا معارضة ما لم تكن مقبولة من السلطة معارضةً بمعناها العلمي المحدد، ولذا فهي تُتصور فيه مقامين:
الأوَّل: مقام المُقابل التكاملي مع السلطة الحاكمة، وبالتالي فهي في هذه الحالة تعترف بالسلطة وتتعامل معها كجهة حكم محترمة بالعقل العملي.
الثاني: مقام الندِّ المخاصم الذي يسعى لتحريك المعادلات لغرض أخذ مكان السلطة الحاكمة، وقد يكون تحريكه سلميًا وقد يكون مسلحًا، وتسمى في الأخير (معارضة متمردة)، ولكنَّنى أتحفظ على هذا المصطلح؛ فمفهوم (المعارضة) ينتفي مع خطوة التغيير المقصود لمعادلة السلطة والمعارضة.
• تعدد المعارضة:
إذا ما ثبت علميًا مفهوم المعارضة، فإنَّه لا ضير على الإطلاق من تعددها، فهي في نهاية المطاف وجوداتُ رؤىً متعددة في عَرَضِ رؤية السلطة الحاكمة، وإنَّما الكلام يقع في إدارة القرار ومناهج الانتخاب وما إلى ذلك مما يوافق فلسفة المعارضة كمفهوم ينسجم تمامًا مع طبيعة الإنسان عقلًا ونفسًا.
عندما يكون الحديث عن تعدد المعارضة السياسية، فلا بد من التأكيد أوَّلًا على أنَّ السلطة الحاكمة جهةٌ وجودية مقابلة للمعارضة السياسية واحدةً كانت أو متعددة، وهذه الوجودات محورها منظومة الشعب والوطن، وتبطل معادلة المعارضة السياسية بتحول السلطة الحاكمة إلى محور بدل محورية الشعب والوطن، وحينها قد تُسمى (طموح معارضي) أو ما شابه، ولكنَّها بكل تأكيد -كما أرى- ليست معارضة بالمفهوم العلمي.
تتجاوز الرؤيةُ المقدَّمةُ مُشكِلَ المِحور في واقع الوضع السياسي، وهو تجاوز يُسوِّغه تغيير مصطلح (المعارضة) إلى آخر يناسب وضعها من وجهة نظر علمية، ولكنَّ المقام لا يناسب هذا البحث، وبالتالي فالتركيز إذن على أطراف (المعارضة) مع المحافظة على العنوان تسامحًا.
وبالبناء على ذلك، فإنَّه وفي دور الدراسة والتنظير، لا بدَّ من تحديد نسب المسافات بين المعارضات المتعددة والسلطة من جهة، وبينها وبين الشعب والوطن من جهة أخرى، ومنها نستنتج المسافات فيما بينها كمعارضات متعددة، وكل هذا يقع مقدمة تصديقية لبحث مسألة الوحدة أو التقارب أو التنسيق بين أطراف المعارضة السياسية.
توضيح ذلك: إذا افترضنا الشعبَ والوطنَ محورًا للدائرة، كانت السلطةُ والمعارضةُ أو المعارضاتُ في مداره وعلى مسافة واحدة منه، وكل وجود منها يبتعد عن السلطة وعن غيره من وجودات المعارضة بحسب أصوله وأدبياته وفكره ورؤاه، بشرط أن يكون معارضًا سياسيًا بالمعنى العلمي للكلمة، لا بالمعنى العام المتداول بين عامة الناس، وحتَّى يكون البحث في وحدة أو توافق أطراف المعارضة السياسية بحثًا موضوعيًا ذا ثمرة واقعية، فإنَّنا في حاجة ضرورية للوقوف على المسافات بين أطراف المعارضة من السلطة، وفيما بينها، ومن بعد ذلك ننتقل إلى تحديد التقاطعات، ثمَّ النظر في الخيارات المتاحة، وهي كالتالي: وحدة، تقارب، تنسيق، افتراق.
أمّا الوحدة الحقيقية فمستحيلة لاستحالة اجتماع المثلين عقلًا، إلَّا إذا تَجَوَّزْنَا وقلنا بها قاصدين التماهي المفاهيمي على المستوى الفكري بين كل وجود معارض والآخر، ومعنى ذلك إلغاء المفاهيم المتنافية لمصلحة مفهوم يحقق الحالة الوسطية أو المشتركة بينها، فلو افترضنا فكرة مقاطعة الانتخابات البرلمانية من إحدى قوى المعارضة، وفكرة المشاركة من أخرى، فالتماهي ينتهي بنا -مثلًا- إلى المقاطعة مع عدم معارضة المشاركين، أو إلى تقليص العدد المشارك، أو الاتفاق على المشاركة ثَّم عدمها ما لم تُحقق نتائج معينة مكتوبة ومتفق عليها، وهكذا يتخلى كل طرف عن فكرته لمصلحة فكرة تحقق مفهوم التماهي بين فكرتين أو أكثر.
ويختلف التقارب عن الوحدة بالمعنى المشار في أن التقارب هو وقوف كل معارضة إلى جانب الأخرى مع استعداد كلِّ واحدة منها للتقدم في حالة عدم تحقيق المتقدمة للأهداف المقصودة، فهو تبادل أدوار بشكل سريع متفق على مبادئه وحالاته المُتصورة، مع الأخذ في الاعتبار مساندة كل القوى المعارضة للقوة المتقدمة، ويستمر الدعم ما دامت تحقق الإنجازات المقصودة أو مقدماتها، وتتراجع تلقائيًا لغيرها بمجرد قيام أمارات تستوجب تراجعها، فالمعارضات المتقاربة تعمل في حركة إسنادية وتبادلية مستمرة.
أمَّا التنسيق فهو الاتفاق على المستوى الهدفي المشترك، ثُمَّ توزيع الأدوار على أطراف وقوى المعارضة كل بحسبه، وقد نمثل بذلك قابلية إحدى الأطراف للتفاوض، في حين أنَّ الأخرى لا تجنح لمثله، ولكنَّها قادرة على الخطاب الداخلي، وثالثة تتقن العلاقات الخارجية، وكلُّها قوى سياسية معارضة مستقلة عن بعضها البعض، ولكن في موارد معينة يبرز التنسيق وتُحفظ الاستقلالية.
• جوهر الأزمة:
من الواقعية بمكان الإقرار بصعوبة هذه الخيارات، والاعتراف بأنَّ الاتفاق على افتراق سلمي هو الأصوب والأكثر حكمة؛ إذ أن تحقيق التماهي المفاهيمي والتقارب والتنسيق إنَّما هو نتاج طبيعي للحالة الثقافية للمجتمع الذي إذا كان ذا قابليات إيجابية وأصول ثقافية وفكرية راقية، فإنَّنا في حينها لن نشعر بالحاجة إلى دراسات وبحوث ومقالات تتناول موضوع الوحدة أو التقارب أو التنسيق بين قوى المعارضة السياسية، لأنَّ هذا ليس أكثر من فرد طبيعي مُكَرَّرٍ لأفراد أخرى يعيشها المجتمع في مختلف بناءاته، ولكن استشعارنا لهذه الحاجة يكشف عن خلل في عمقنا الثقافي، وليس التنافي والتطارد بين بعض قوى المعارضة السياسية إلَّا حالة من جملة حالات نعيش فيها نفس التنافي والتطارد، ولذا فإنَّ الحديث عن وحدة أو تقارب أو التنسيق بين قوى المعارضة السياسية أراه حديثًا استهلاكيًا ما لم نخرج من الأزمة الثقافية بأحد أمرين:
– الأوَّل:
– تفريغ كفاءات عالية للعمل على إحداث تحولات ثقافية عميقة في المجتمع، على المستويات التالية:
1- البحث عن التكامل مع الآخر، والبعد عن عقلية المغالبة.
2- إنكار الذات لمصلحة الفكرة، فالمهم هو الإنجاز، وليس اسم صاحب الإنجاز.
3- حسن الظن في الآخر على أسس من الحكمة وسعة الصدر.
4- تحديد وتصحيح المفاهيم الاستهلاكية وإبعادها عن الثقافة العامة.
5- التأكيد دائمًا على الحاجة للنقد ومحاورة الآخر على أسس أدبية وأخلاقية واضحة وبعيدة عن المفاهيم الاستهلاكية لمصلحة ضرب الآخر والنيل منه.
6- الاستعداد للاعتراف بالخطأ واتخاذ قرار التصحيح.
من المفترض أن تتحرك الحالة الثقافية للمجتمع لتحضر في مختلف مفاصله، ومنها المفصل السياسي، وهذا هو المطلوب.
– الثاني:
أن تعترف النخب السياسية المعارضة فيما بينها بالخلل الثقافي العميق المتمكن منها، وإذ ذاك تتحرك للعمل على دراسات وتنظيرات تبني عليها رؤاها لإحداث تغيير ثقافي داخلي حقيقي يكفل استمرار المعادلة بشكل صحيح، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الحالة بسرعة كبيرة على المجتمع ثقافة وفكرًا.
ما نعانيه فعلًا هو ابتعادنا عن العمل الاستراتيجي المفضي لاستقرار مجموعة من العناوين، فقلة من يفكر في مكسب جدير بعد ثلاثين سنة -مثلًا-، والأعم الأغلب يشخصون المشكلة ويريدون حلَّها وجني الثمار في نفس الوقت، ولذلك نحن في الغالب لم ننجح يومًا في صناعة واقع سوي، ولكنَّنا نجحنا تمامًا في خلق عقليات تحزبية تيارية؛ فهذا سهل يسير، ولا يحتاج لأكثر من تضييق الدائرة وحصر الحق فيها، وهو ما نعانيه بشكل معقد جدًا حتَّى على مستوى العلاقات في داخل الأسرة!
نعم، قد يتقدَّم آخرون برؤى تؤدي إلى وحدة أو تقارب أو تنسيق بين قوى المعارضة السياسية، وقد يوفقون للنجاح وتحقيق شيء ما، ولكن هذه الطريقة من التعاطي مع المشاكل العميقة تنقلب من بعد كونها حلولًا مشاكلَ أكثر عمقًا وأزمات أشد تعقيدًا، ومن هنا فإنَّ ما أدعو إليه هو التعامل مع مشكلة التعددية في المجتمع بشكل موضوعي علمي ينتهي بنا إلى حلول تُنتجها ثقافة المجتمع، ويحافظ عليها فكرُه وسلوكُه، وهذا وإن احتاج إلى وقت ومراحل، إلَّا أنَّه الأجدر ببذل الجهد من حيث استدامته وتوفره على مخرجات ذات شأن مهم في عمليات البناء المختلفة.