عباس الجمري
باحث بحريني
مدخل
المحطة الأولى: هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات
الأسئلة الإشكالية حول الهيئة
المحطة الثانية: الوفاق وأخواتها وآفاقهم
الأسئلة الإشكالية حول الجمعيات
أولا: التأسيس غير المؤسس
ثانيا: الحراك في ظل صقيع آمن
المحطة الثالثة: ثورة فبراير 2011
الأسئلة الإشكالية حول ثورة فبراير
الخلاصة
التوصيات
مدخل
سؤالان شكلا عمد الإشكال القديم الجديد حول إمكانية اتحاد القوى الوطنية (إسلامية وغير إسلامية) لتحقيق أقصى غاية ممكنة لصالح الوطن، السؤال الأول: هل أن الاختلاف بين القوى المختلفة أمر غير طبيعي لكي يشغل رأي المواطنين طيلة عقود، ويحتل مساحة كبيرة من تفكير وشغل المهتمين في الشأن البحريني؟ السؤال الثاني: هل أن الاتحاد بين القوى المختلفة ليس ممكناً أم أنه يواجه عقبات “مسكوت عنها” تمثل الداء الذي يسمم الموضوع برمته؟
السؤالان يحتاجان لتنقيح تاريخي وتحليلي وقراءة في المكنون الاجتماعي الذي يكتنف طبيعة المزاج البحريني في التعاضد مع الآخر في بعده الاجتماعي، وقراءة صريحة في الكواليس السياسية التي شكلت تكتلات صورتها الظاهرة هي “الاتحاد والتعاون”.
في هذه الورقة سأمر على ثلاث محطات من التاريخ السياسي المعاصر، وسيتقدم كل محطة عدداً من الأسئلة التي اسميتها “الأسئلة الإشكالية”، هدف تلك الأسئلة التمهيد المفاهيمي للخلاصة والتوصيات التي ختمت بهما الورقة البحثية هذه.
المحطة الأولى: هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات:
الأسئلة الإشكالية حول الهيئة:
• لماذا شُكّلت الهيئة بسبب حادث طائفي اختلقته حكومة البحرين في الخمسينات، ولم تشكل لأسباب وطنية أبعد وأرفع من ممارسة دور “غرفة الطوارئ”، ولماذا انتهت بمجرد اعتقال ونفي كوادر منها؟ (هذا لا ينفي أهمية تشكلها طبعا في تلك الفترة الحرجة).
• هل كانت الهيئة تفتقد للبعد الاستراتيجي الذي يخلق ديمومتها؟ خصوصا وأن توقع الاعتقال والنفي وكل وسائل القمع كانت ولا تزال متوقعة بشأن أي حركة معارضة للسلطة في البحرين.
السرد التاريخي المعاضد:
كل مضابط التاريخ البحريني تبرز هيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات بوصفها المانع لفتنة “طائفية” كاد النظام أن ينجح في إشعالها، التاريخ يسرد أن النزاع الذي حدث في جزيرة سترة بالقرب من مصافي النفط في 15 يونيو 1954، وقتل فيه 4 من السنة، كاد أن يودي إلى حافة مؤسفة، حيث “ألقت الشرطة القبض على زعماء الشيعة في هذا النزاع، وحكمت المحكمة عليهم بالسجن لمدة 3 سنوات ودفع غرامة قدرها 5000 روبية. أثار هذا غضب الشيعة وظهروا في مظاهرات إلى “القلعة” حيث يسجن زعمائهم لمحاولة إخراجهم، فقتلت الشرطة 4 من الشيعة، مما زاد من غضب الشيعة فحملوا قتلاهم بمظاهرة إلى دار المقيم السياسي البريطاني، وأضربوا لمدة اسبوع، ولكن تم إيقاف هذا الإضراب بعد ما وعجتهم الحكومة بتعيين لجنة للبحث عن أسباب التي أدت إلى إطلاق النار ومعاقبة المسببين له. ولكن لم تقف النزاعات عند هذا الحد فاستمرت النزاعات بين الطائفتين”.
تأسست الهيئة في 31 أكتوبر العام 1954 وتم القضاء عليها في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، حيث “نظمت تظاهرات حاشدة ضد العدوان، فتم اعتقال قادة الهيئة وصدر حكماً ضدهم وتم نفي كل من: عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان وعبدعلي العليوات إلى جزيرة سانت هيلانية، وسجن كل من إبراهيم فخرو وإبراهيم موسى، عشرة أعوام وتم نفي وتشريد الكثير من أعضاء الهيئة”.
المحطة الثانية: الوفاق وأخواتها وآفاقهم:
الأسئلة الإشكالية حول الجمعيات:
• على ماذا بنيت قائمة مؤسسي الوفاق الذين لم يصبروا على تحالفهم البيني؟ رغم المشتركات الكثيرة والتي تعتبر أساسية، كالمشرب الآيديولوجي مثلا؟
• ما هي القراءة العميقة للتحالف بين الإسلامي والعلماني في البحرين؟ والذي يبدو أنه تحالف “هش” كلما قفز إشكال معروف عند الطرفين؟
• وكيف لم تلحظ الخلافات الفكرية في تدشين تحالف سياسي بين طرفي خلاف؟
• وهل صنع السياسيون حالة ثقافية لأتباعهم توائم بين التحالف وبين الإيمان بالثوابت الداخلية؟
• السؤال الأهم في ذلك: ما هي استراتيجية السياسيين في تحالفاتهم غير هدف “مرحلي” حقيقي، وإن غلف بهدف “استراتيجي” نظري؟
السرد التاريخي المعاضد:
أولا: التأسيس غير المؤسس:
تأسست جمعية الوفاق الإسلامية في تاريخ 7 نوفمبر 2001 م. بعد إصدار ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة عفوًا عامًا، والسماح للجماعات بتشكيل جمعيات تمارس العمل السياسي.
ضمت الجمعية في قائمة مؤسسيها عددا من الأسماء المهمة إما على مستوى التمثيل الشعبي، أو على مستوى التموضع الحركي، وعكس اجتماع تلك الأسماء في تأسيس كيان موحد بشرى لمريدي الشارع الشيعي، أبرز الأسماء التي “قد تبدو” متناقضة في الآن الحاضر، السيد ضياء الموسوي، سعيد الشهابي، تقي البحارنة، حسن مشيمع، الشيخ علي سلمان، وغيرهم.
وبعد مراوحة بين المقاطعة والمشاركة في الانتخابات، والجدل المثير الذي اجتاح الجمعية بين 2002 و2006، عصفت في 2010 رياح الاستقالات بجمعية الوفاق الوطني الإسلامية بحسب تعبير صحيفة الوسط، إذ أعلن نائب رئيس الجمعية حسن مشيمع آنذاك، وعضو الإدارة عبدالجليل السنقيس، وعضو حركة أحرار البحرين في لندن سعيد الشهابي استقالاتهم من الجمعية، احتجاجا على رغبة الجمعية في التسجيل تحت قانون الجمعيات السياسية، وترددت أنباء عن استقالة شبه مؤكدة للناشط السياسي عبدالوهاب حسين (استقال لاحقا، وقاد تيارا عرف بتيار الوفاء الإسلامي)، وعضو الجمعية السيد كامل الهاشمي (الذي أكد فيما بعد استقلاليته عن التكتلات السياسية، ونظّر منتقداً آلية عملها).
ثانيا: الحراك في ظل صقيع آمن:
شكلت السنوات الأولى من الألفية الثانية، أزهى أيام البرود الأمني، حيث أفرج عن المعتقلين وسمح للمهاجرين بالعودة ورفع قانون أمن الدولة، الأمر الذي شكّل حافزاً للتنافس بين الفرقاء السياسيين، ومثل ذلك رغم إيجابيته تحدياً حقيقياً لما عرف بتحالف الجمعيات، التي ضمت مشارب دينية وغير دينية، وقد إنبلجت الخلافات الفكرية بين مناصري جمعية الوفاق وجمعية وعد حول عدد من القضايا، كموقف الدين من العلمانية، وحرية المرأة، والاختلاط، والخلاف على قدسية كلام مراجع الدين من عدمه، وغيرها من القضايا التي تخص الدين والفكر، وهذه الخلافات رغم أنها طبيعية جدا لما تمثله تلك التيارات من أفكار متقابلة في المستوى المنطقي، فإن اللاطبيعي أن تشكل تلك الخلافات أرضية لاهبة تحت أقدام التحالف السياسي، وهذا ما شهده العام 2007 حينما هتف الشيخ عيسى قاسم (أكبر مرجعية سياسية شيعية في البحرين) بموت العلمانية، وبهذه الأسباب وغيرها تأثر التحالف ، كما أن الخلاف بين الوفاق وأمل (جمعية شيعية تمثل خط السيد الشيرازي في البحرين) طفح في موضوع محاصصة المقاعد البرلمانية، وعزيت الأسباب من قبل بعض المتابعين إلى الرؤية الحزبية، ولاحقا في مسألة التحيز لمطالب الشباب في دوار اللؤلؤة عام 2011.
المحطة الثالثة: ثورة فبراير 2011:
الأسئلة الإشكالية حول ثورة فبراير:
• لماذا بدا الإنسجام بين المعتصمين في الدوار في تصاعد رغم تباين مشاربهم السياسية؟
• كيف يؤثر التآزر الاجتماعي في الأزمات الاقتصادية إلى تعاطف سياسي؟ ولماذا؟ (لاحظ الفترة بين مارس 2011 ويناير 2012).
أحداث فبراير 2011، قلبت الموازين، بحيث لم يصدق السياسيون في بادئ الأمر أن آلوفا سيجتمعون في دوار اللؤلؤة (الاسم الرسمي دوار مجلس التعاون)، الأمر الذي خلق ذهولا في أوساط الساسة، وتماشيا لما عرف بـ “الربيع العربي” أراد السياسيون أن ينضموا إلى الشباب والشابات في الدوار، وأن يكون لهم صوت من منصته التي أنصت لها الآلاف طيلة شهر، تخللها ضربة أمنية في السابع عشر من فبراير، وفي منتصف مارس من العام 2011.
شكلت الأيام الأولى للدوار إنسجاما منقطع النظير بين كل الأطياف، ورفع الناس شعارات رددتها بلدان الربيع العربي، لكن الأهم أن الخلافات البينية برزت بعد أسبوعين من الاعتصام، رغم غالبية الحماس بين المتجمهرين وتوحد شعاراتهم.
بعد هدم الدوار في 18 مارس، وفرض حالة السلامة الوطنية، توحد الناس “اجتماعيا”، حيث أقيل أكثر من ألفي موظف من القطاعين العام والخاص بسبب مشاركتهم في اعتصامات الدوار، وبدا التآزر الاجتماعي يتنامى مع اشتداد الحاجة لذلك، حيث التضييق الرسمي على الناس أخذ مأخذه، وبعد رفع حالة السلامة الوطنية في يونيو من العام نفسه، واستمرار الاحتجاجات الشبابية، برزت وجهات النظر المتباينة بصورة فاقعة أكثر من ذي قبل، الأمر الذي يرسم حالة جديرة بالدراسة في صعود وهبوط التعاون والتآزر فضلا عن دراسة حالات “التحالف” بمعناه السياسي الصرف.
الخلاصة:
1) هناك “هبّات” سياسية مصدرها إما طارئ أمني أو طارئ سياسي، تؤدي تلك الهبّات إلى تكتلات سياسية تبدو في بداية تشكلها جادة، لكن ما تفتأ تبرز الخلافات فيما بينها إذا خفت سخونة الحاجة الأولى الذي نشأ التكتل بسببها.
2) تكتشف القواعد الجماهيرية “متأخراً” أن تكتلاتهم بنيت على الحاجة الطارئة، مما يخلق لديهم بلبلة في التفاصيل التي “قد” ينحو بعضها ناحية النزاعات، وسببه فقدان العامل الاستراتيجي لقيام هذا التكتل أو ذاك.
3) استعير هنا مصطلح مهم لرائد الفلسفة النقدية الألمانية “هابرماس”، صاحب نظرية التواصل، والذي ينظر لـ “التواصل ” في حالتين، هما: الفعل الغائي والفعل التواصلي، فالفعل التواصلي عند هابرماس هو ذلك التواصل المبني على حاجة التفاهم لا حاجة السياسة نفسها، مما يشي بالفجوة الكبيرة بين نوعي التواصل، حيث أن “الفعل الغائي” هو التواصل المبني على حاجة سياسية لا حاجة للتفاهم نفسه. بمعنى أن الهدف من الفعل الغائي هي “السياسة وأهدافها”، بينما الهدف من الفعل التواصل، هو التفاهم والشعور به كحالة مُرضِية، لا يمكن العبور من خلالها إلى رسم مصير وتجاوز عقبات حزبية.
من خلال الفحص والمعاينة و مما تقدم من عينات تاريخية، فإن الفعل التواصلي للقوى السياسية هو القائم، وليس الفعل الغائي، وحتى لو قيل أن “وثيقة المنامة” مثلا فعلا غائياً للجمعيات، و”إسقاط النظام” هو الفعل الغائي للقوى الثورية، فإن ذلك لا يخلو من نظر، فالفعل الغائي ليس فقط شعار أو هدف “يجتمعون” حوله عدد من الأطراف، بل هو الغاية التي “يعمل” خلالها الأطراف (سياسيا) و(ثقافيا) و(اجتماعيا) على تجذيره، فضلا عن الاشتغال الحثيث على المقدمات العملية التي تؤدي لما أُجتمعَ عليه.
4) من خلال الملاحظات والمتابعة أيضا، ومن خلال قراءة سريعة لثلاث محطات مهمة، تبين أن لا فرق بين ديني وغير ديني في مسألة “التحالفات”، وذلك قد يعود إلى أن النشأة الاجتماعية واحدة، كما أن النزعة الحزبية لكل طرف متشابهة حد المواءمة في كثير من الأحيان، مما يخلق تشابها كبيراً وتكراراً كثيراً في المواقف وردات الفعل والاهتمام بالجزئيات على حساب رسم استراتيجية واضحة للأطراف ذات المصير المشترك.
التوصيات:
1) دراسة نشأة الأحزاب دراسة متخصصة من قبل باحثين في علم الاجتماع، وعلم اجتماع السياسة، وتقديم تصورات واضحة عن السلوك الاجتماعي للفرد قبل انضمامه للحزب وبعد انضمامه. ودراسة الأفكار التي تؤثر في “العاطفة” وتلك التي تؤثر في “الفكر”، وانعكاسهما على طبيعة تحزب/تعصب الفرد لحزبه.
2) عمل دراسة ثانية عن وزن “الأهداف الحزبية” عند الفرد، ومقارنتها مع “الأهداف الوطنية” لديه، وفحص التباين بين الهدفين على مستوى التقبل النفسي والعطاء الاجتماعي/السياسي.
3) على ضوء الدراستين عمل ورش عمل للجيل الجديد، لتخفيف داء الحزب الموروث، وخلق كوادر تعي ثوابتها مع فهم استراتيجية تحالفاتها مع الآخر.
4) الدفع بالعمل السياسي برافعة “إعادة صياغة الفكر” لدى الأطراف التقليدية، وهذا يسبب نوعا من الجراحة الاجتماعية لبعض العادات وأنماط التفكير.