سيد مرتضى السندي
قيادي في تيار الوفاء الإسلامي
المحتويات
مدخل
نشوء أول تنظيم سياسي شعبي وإسلامي عريض
عوامل انشقاق انشقاق في التيار السياسي الإسلامي
نشوء حركة الحريات والديمقراطية “حق”
نشوء تيار الوفاء الإسلامي
انطلاق ثورة 14 فبراير
التحديات أمام علاقات قوى المعارضة وانسجامها
التحدي الأول: مرجعية جامعة وضامنة
التحدي الثاني: الاختلاف الفكري والسياسي حول الأولويات والأساليب والأهداف المرحلية
التحدي الثالث: مخطط النظام التشطيري
التحدي الرابع: العلاقات الدولية والتزاماتها
التحدي الخامس: الاختلاف الإيديولوجي
جهود يتيمة لإطلاق الحوار الداخلي والانسجام بين أطياف المعارضة
مدخل
منذ ثورة التسعينات برز على الساحة تيار اسلامي تأصل اسلوب عمله على البعد الجماهيري (وليس النخبة) يوما بعد يوم. وانبرى لقيادته نخبه لديها رؤية معينة لإدارة العمل السياسي الذي يراد له تحقيق أهداف الشعب في الحرية والعدالة. وتميز هذا الفريق القيادي آنذاك بالشفافية وإدارة جماعية مبنية على التشاور وروح الفريق الواحد. وقد بلغت هذه القيادة قمة المصداقية جراء انصهارها في آلام شعبها، بل كانت وقتذاك في مقدمة المشاركين في الحركات الميدانية، فيقع عليها الظلم والسجن والقتل، ولم يكن أي من أعضائها من يطلب مركزا أو منصباً أو وجاهة، وأصبح لهذه القيادة موقع مؤثر في الساحة.
كما وجد دور مهم لكوادر ونخب من خطوط قومية أو يسارية لم تتقاطع مع عمل هذه القيادة بل أيدتها في أغلب المواقف. والمعارضة في خارج البحرين أيضا دعمت بشكل كبير كل الخطوات والمواقف السياسية لتلك القيادة، التي حازت أيضا على تزكية ودعم علماء الدين بالخارج والداخل. فتضحيات القيادة (المتمثلة في علماء دين واساتذة متشرعين) وقربهم من الشعب جعلت منهم آنذاك رموزا مؤيدون من أكثر قطاعات الشعب. وهذا الذي حصل في ظروف ثورة التسعينات فيما عرف بأصحاب المبادرة.
نشوء أول تنظيم سياسي شعبي وإسلامي عريض
حاول القادة المجاهدون من الصف الأول والنشطاء في التيار السياسي الإسلامي بدعم من العلماء العمل على جمع الأطياف السياسية من هذا التيار الشعبي الواسع في تنظيم مشترك بعيد الإفراج عن الرموز (أصحاب المبادرة) في عام 2001م. وهكذا برزت جمعية الوفاق الإسلامية للوجود كأول تنظيم سياسي أريد له بالأصل أن يتصدى لقيادة التيار الشعبي الاسلامي العريض، و كان هناك قسم من التيار الإسلامي متأطر في جمعية سياسية أخرى (جمعية العمل الإسلامي – أمل) وهو امتداد لحزب سياسي تميز في المراحل السابقة بفكر سياسي ومرجعية علمية محددة.
لقد انخرطت المعارضة البحرينية في سنة 2001م بأطيافها المتعددة فيما سمي حينها بالمشروع الإصلاحي الذي أطلقته الحكومة في نفس العام بعد أن أدركت الحكومة عجزها عن الاستمرار في الوقوف ضد مطالب وتطلعات شعب البحرين باستخدام لغة القوة والبطش. لذلك عملت الحكومة على إطلاق مشروع سوقته على أنه صفحة جديدة من العلاقة بين النظام والشعب. ابتدأ هذا المشروع فعلياً بإصدار ما عرف بالميثاق الوطني للتصويت العام من قبل الشعب. وبرغم كل التحفظات السياسية والقانونية على الميثاق كوثيقة سياسية، فقد صوتت المعارضة مع جماهيرها على الميثاق الذي نص على تحويل نظام الحكم الى نظام دستوري ملكي ونص على تفعيل الحياة الدستورية بآلياته الصحيحة.
خلافاً لما نص عليه الميثاق وأكدته التعهدات المكتوبة والشفهية من قبل النظام، أصدر النظام دستوراً في سنة 2002 وفرضه كأمر واقع وانتقص هذا الدستور من بعض الحقوق وسقف وآليات العمل البرلماني المتوفرة في الدستور العقدي لسنة 1973.
في بداية ما سمي زورا بالعهد الإصلاحي كانت القوى الإسلامية السياسية منصهرة في مشروع واحد متمثل في جمعية الوفاق الوطني الإسلامي، والتي كان أبرز مؤسسيها الأستاذ عبد الوهاب حسين، والذي أسس تيار الوفاء الإسلامي لاحقا، والشيخ علي سلمان الأمين العام لجمعية الوفاق حاليا، والأستاذ حسن مشيمع، والذي أسس حركة حق، والدكتور سعيد الشهابي رئيس حركة أحرار البحرين الإسلامية، كما ضمت الجمعية كوادر قيادية من الطراز الأول مثل الدكتور عبد الجليل السنكيس. هذا التنظيم الوليد لم يستطع أن يحافظ على انسجامه لفترة طويلة، ففي تلك الظروف تبلور التباين السياسي داخل أطراف المعارضة في آلية اتخاذ القرار السياسي وكيفية مزاولة العمل السياسي والقرارات اللازم اتخاذها في ضوء انقلاب الحكومة على المشروع الذي وعدت به الناس فحدث الانقسام الحركي بين صفوف المعارضة.
وقد نشأت بعد ذلك قوتان رئيستان، هما (حركة حق تأسست 2005م) و(تيار الوفاء الإسلامي تأسس في 2009م) في ظل تراجعات السلطة عما بدأ به الملك في بداية عهده من إصلاحات، وظهور أزمات على الساحة الوطنية، مثل: المسألة الدستورية، والتجنيس السياسي الاستثنائي الممنهج الذي هو في حقيقته عملية توطين يستهدف تغيير التركيبة السكانية والتمييز ضد السكان الأصليين، والتمييز الطائفي، والفساد الإداري والمالي والأخلاقي، وسرقة الثروة الوطنية والأراضي العامة، ونحوها، مع العجز الكامل للمؤسسة البرلمانية عن حل أي منها، لأن دستور المنحة الذي فرض على شعب البحرين في سنة 2002م، وقانون الجمعيات السياسية لسنة 2005م، لا يمنحان الفرصة للجمعيات السياسية التي تعمل ضمن الأطر الرسمية للعمل المعارض الحقيقي القادر على التغيير الجوهري، مما أدى إلى تزايد الغضب الشعبي وظهور الحركات الشعبية الاحتجاجية في مختلف مناطق وقرى البحرين خارج أطر قوانين السلطة.
عوامل انشقاق انشقاق في التيار السياسي الإسلامي
منذ ذلك الوقت بدأت معالم انشقاق في التيار السياسي الإسلامي متأثراً بعوامل أهمها:
- إخفاق المؤسسات الدينية والسياسية الشعبية في البلد في المحافظة على الخط الثوري والتضحوي الذي نشأ أبان ثورة الكرامة في منتصف تسعينات القرن الlvp[yماضي وتنميته واستثماره في مواصلة العمل السياسي والديني نحو الأهداف الكبرى
- خلاف حول الأولويات السياسية، وأساليب العمل السياسي والاحتجاجي.
- خلاف حول طبيعة الخطاب للجماهير وللعالم، بين من يؤمن في المعارضة بضرورة الخطاب العقائدي و الديني، إلى جنب الخطاب الوطني، وبين من يؤمن بالخطاب السياسي و الوطني المجرد.
- اختلاف الطيف السياسي المعارض حول نظرته للأساليب الاحتجاجية ودور الشارع و التعاطي السياسي بين مفهوم العنف والسلمية.
- اختلاف المعارضة آنذاك حول طبيعة وأولويات العلاقة السياسية الخارجية مع الأقطاب الدولية المتنافسة على النفوذ في المنطقة.
- استمرار النظام في تطبيق مشاريع خطيرة على الأرض مثل تطبيق تقرير البندر، والتجنيس والتوطين السياسي، وتزييف تاريخ البحرين في المؤلفات المدفوعة الأجر من قبل النظام وفي المناهج الدراسية خلافاً لما تنص عليه المصادر والوثائق التاريخية العلمية، دون وجود آليات من داخل العملية السياسية لمواجهة هذه المؤامرات والمشاريع الخطيرة.
- وجود قانون جمعيات سياسية مجحف حيث يؤطر العمل السياسي المعارض في مساحة محدودة جداُ ولا ترق لطموحات الشعب
- استمرار النظام في القمع الأمني والوحشي لشعب البحرين الأعزل، وفشل العملية السياسية في إيقاف هذه الانتهاكات.
نشوء حركة الحريات والديمقراطية “حق”
نشأت حركة حق في نهاية 2005 كأولى حركات تيار الممانعة الذي تصدر قيادته شخصيات معروفة وذات ثقل نخبوي وجماهيري (بعضهم انضوى في تشكيلات سياسية غير مرخصة كالأستاذ حسن مشيمع والدكتور عبدالجليل السنكيس “حركة حق”، وبعضها كان له تشكيله التنظيمي خارج البلاد كالدكتور سعيد الشهابي “حركة أحرار البحرين”، وبعضها عمل بشكل مستقل “غير مؤسسي” في بداية النشوء كالأستاذ عبدالوهاب حسين والشيخ عبدالجليل المقداد وثلة آخرين من العلماء، وبعضهم عمل كناشط حقوقي كالأستاذ عبدالهادي الخواجة) فقد أخذ منحى مختلف عن منهجية ووسائل عمل خط الجمعيات الرسمية.
عموما فإن هذا التيار عمل على اسقاط مشروع الطاغية حمد التدميري “الذي سمي طوال العشر سنوات الماضية بالمشروع الإصلاحي”، ودعا لضرورة التوقف عن التعاطي معه على أنه مشروع اصلاحي، فقدم هذا التيار من أجل ذلك تضحيات جسام من الملاحقة والاستهداف والاعتقال والتعذيب. وقد نال هذا التيار أيضا نصيبا واسعا من الاقصاء من قبل الخط الأول وما لديه من امكانيات معنوية واسعة احتماءً بعنوان دعم المرجعية العلمائية، والذي شكل حرجاً كبيراً على هذا التيار وعائقاً استمر لسنوات.
واختارت حركة حق مع فريق الممانعة من رموز ولجان شعبية وحقوقية اسلوب العمل الجماهيري الميداني الغير مرخص كالمسيرات والاعتصامات ورفع العرائض والشكاوى إلى المنظمات الحقوقية الدولية، وكشف زيف الحريات والديمقراطية لدى الشعب ولدى المحافل الدولية. فكان له حضورا قويا وسط الشريحة الشبابية من الجماهير وترشحت من خلاله لجان عمل كثيرة تلبية لحاجات العمل الميداني أو التخصصي فبعضها كان مؤقت وبعضها غير ذلك.
نشوء تيار الوفاء الإسلامي
وفي السنوات القليلة الماضية تبلور كيان جديد قوي من رحم خط الممانعة قاده فضيلة الأستاذ عبدالوهاب حسين مع علماء أجلاء في طليعتهم آية الله الشيخ عبدالجليل المقداد. وقد ظهر هذا الكيان ليسد الحاجة الملحة لحالة البعثرة في العمل الممانع وبناء تنظيم حزبي مقتدر، وإيجاد قيادة منسجمة قوية تأخذ على عاتقها إيجاد خطاب فكري وسياسي يقود الجماهير نحو الحصول على حقوقها التي أخذت في التقلص بسبب مخطط النظام التخريبي وعدم نجاعة المعارضة من داخل المؤسسات الرسمية. إلا أن هذا الكيان لم يأخذ شكله التنظيمي المؤسسي التام في أجواء مريحة، بسبب ما تعرض له من ضربات قمعية زجت بكوادره إلى السجون وحرمته من البيئة المثالية لتأسيس البنية التحتية القوية لقيادة الجماهير نحو اهدافها.
تم الإعلان عن تأسيس تيار الوفاء الإسلامي في مساء يوم الثلاثاء ـ ليلة الأربعاء، بتاريخ: 28 / صفر / 1430هج ـ الموافق: 24 / فبراير ـ شباط / 2009م، في بيان الانطلاق في الحفل الختامي للاعتصام الاحتجاجي في قرية النويدرات على الاعتقال التعسفي لفضيلة الأستاذ حسن المشيمع، وفضيلة الشيخ محمد حبيب المقداد، وسائر شباب المسرحية الأمنية لما عرف بقضية الحجيرة، وقد أطلق صحفيا على التحرك في ذلك الوقت عنوان ” التحرك الجديد “، وقد تعرض لحملة اعتقالات في قيادات الصف الأول في شهر أغسطس من سنة 2010.
انطلاق ثورة 14 فبراير
عندما انطلقت الثورات في المنطقة أواخر 2010 وبدايات 2011 كان الشعب البحراني يخوض صراعا متصاعدا مع السلطة، وكانت البيئة الأمنية تزداد قمعا ضد المعارضة الثورية وامتداداتها الشبابية، وعندما انطلقت ثورة 14 فبراير كانت مجموعة من قيادات ورموز المعارضة كالدكتور السنكيس والشيخين المخوضر والنوري والعديد من الشباب يرزخون في سجون النظام الخليفي. ويمكن أن يقال بأن الثورة في البحرين كانت جمرا تحت الرماد حتى قبل انطلاق موجة الثورات في المنطقة. كما أن التجربة السياسية في البحرين للعمل من داخل العملية السياسية الرسمية قد ثبت عدم جدواه، ولم يتحقق لشعب البحرين بعد 10 سنوات من المصالحة مع النظام أي مطلب سياسي أو معاشي جوهري، في الوقت الذي كان النظام يعمل على عامل الوقت لتنفيذ مشاريع ديمغرافية وسياسية وثقافية خطيرة، وستغير وجه البحرين في المستقبل حال نجاحها.
وعندما انطلقت ثورات المنطقة كان الشعب البحراني على موعد مع ثورته في 14 فبراير، فتصدت القوى الثورية، تيار الوفاء الإسلامي وحركة حق وحركة أحرار البحرين الإسلامية وامتداداتهم الشبابية للتحشيد ليوم الغضب في 14 فبراير. وبالرغم من الشك في إمكان إطلاق الثورة، من قبل الجمعيات السياسية، فقد تبين قبل 14 فبراير بأيام قليلة أن الثورة منطلقة لامحاله، و أن البحرين على موعد مع عصر سياسي جديد، و أن ما بعد 14 فبراير ليس كما قبله.
بعد 10 سنوات من التجاهل والقطيعة السياسية بين الطرفين، عملت أطراف في الجمعيات السياسية وبعض الوجوه العلمائية على التواصل مع القوى الثورية، و الضغط على قيادات في القوى الثورية بشكل مباشر وغير مباشر لإيقاف الدعوة ليوم الغضب، بحجة عدم توفر أرضية نجاح، و عدم ضمان العواقب السياسية و الأمنية، إلا أن الوقت كان متأخرا لمنع الغليان الشعبي من الإنفجار، كما كان الوقت متأخرا لعمل تفاهم سياسي بيني يفضي لوقف انطلاق ثورة 14 فبراير.
التحديات أمام علاقات قوى المعارضة وانسجامها
الواقع الجديد بعد ثورة 14 فبراير أفرز القوى الثورية وامتداداتها الشبابية كقوة رئيسة لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها، لذلك اتجهت الجمعيات السياسية للقاء مع القوى الثورية، والجلوس معها في لقاءات ثنائية، و صدرت في أيام الاعتصام في ميدان الشهداء بيانات مشتركة بين القوى الثورية و السياسية، بل و دشن الطرفان بعض المسيرات المشتركة.
إلا أن هذا التلاقي ثبت فيما بعد أنه نسبي ومؤقت وتكتيكي، ولم يكن نتيجة إرادة وقناعة عميقتين، فبعد اعتقال قادة الحركات الثورية والكثير من كوادرها توقف أي نوع من التواصل واللقاء والتنسيق السياسي بين القوى الرئيسة في الجناحين السياسي والثوري للمعارضة. ورجعت العلاقة لسابق عهدها في مرحلة ما قبل ثورة 14 فبراير من المزاحمة والمحاصرة والمناكفة والتسقيط. هناك تحديات وعوامل كثيرة وعقبات جذرية تمنع الانسجام بين القوى الرئيسة في جناحي المعارضة السياسي والثوري.
التحدي الأول: مرجعية جامعة وضامنة
خلال العمل معا في جبهة معارضة واحدة في بداية مرحلة ما بعد 2001، كانت أفكار الحمائم والصقور تتمايز شيئا فشيء تبعاً للرؤى السياسية وحاجات العمل السياسية وتطورات الصراع مع النظام الحاكم. وكان يمكن لهذا التمايز في الفكر والفهم والتنظير ومستلزمات العمل الحركي المنسجمة معه أن يستوعب في وعاء وهيكل تنظيمي ينضم التوجهات وينتج قرارات ضمن آلية واضحة ومنصفة ومتفق عليها، إلا أن آليات العمل والإرادة والغطاء الديني الجامع والضمانة لآلية جامعة لم تكن متوفرة. وقد أدى ذلك في النهاية إلى حدوث تكتلات في التنظيم. فمثلا كان لوجود مرجعيات علمائية من خارج التنظيم فعل مؤثر على امكانية التقاء أو تنافر قيادات التكتلات والوصول بها إلى وحدة القرار، إلا أن المرجعيات العلمائية لم تستطع أن تلعب هذا الدور، فأخذ التباين في التعاظم بحيث أن اختلاف القيادات أو الرؤى لم يعد من الممكن احتوائها في أجهزة تنظيم موحد.
من جهة أخرى فإن القوى السياسية والثورية البحرانية لها علاقاتها الإقليمية مع أحزاب و مرجعيات دينية و دول، وهذه الأطراف الدولية لم تلعب دور المشجّع أو الوسيط أو الضاغط على القوى البحرانية المعارضة من أجل الانسجام و التوافق أو التنسيق.
التحدي الثاني: الاختلاف الفكري والسياسي حول الأولويات والأساليب والأهداف المرحلية
تبلور خلال السنوات التي تلت تأسيس جمعية الوفاق خطان سياسيان رئيسيان، وقيادتان واضحتان في طرق عملهما والمرجعيات الداعمة لهما. اختار أحدهما العمل وفق قانون الجمعيات السياسية وما تسمح به الظروف الضاغطة من عمل مرخص من قبل النظام، واصطلح عليه بالجمعيات المسجلّة تحت قانون الجمعيات، بينما ارتسم خط آخر لم يسجل في قانون الجمعيات وسمي بخط الممانعة.
أما جمعية أمل فكانت تدخل تارة في إطار العمل المرخص (وفق قانون الجمعيات) وتقف تارة أخرى في إطار العمل الممانع.
خط الجمعيات السياسية المرخصة
الخط الأول قد قبل بدستور 2002م وأرغم أو وافق على القبول بكل مستلزمات العمل السياسي المرخص (في إطار المشروع الذي سماه النظام “المشروع الإصلاحي”). فدخل في دورتين انتخابيتين (2006 و2010) تميزتا بتصاعد خطط النظام التهميشية وتغييب الإرادة الشعبية. فريق الجمعيات السياسية كان يراهن على التغيير ببطء من داخل العملية السياسية، و كان يعتقد بعدم إمكانية المواجهة السياسية الشعبية مع النظام، و أن الأولوية السياسية هي بناء مؤسسات سياسية و كوادر لها نفوذ، وعلاقات سياسية محلية و دولية واسعة، والسعي لإقناع المجتمع الدولي بفرض التغيير الداخلي في البحرين
ولقد عمل النظام على تضييع جهود هذا الخط داخل قبة البرلمان، ومن دون مردود حقيقي لصالح الشعب، بل استغل النظام وجود هذا الفريق في العملية السياسية الجديدة، وبالتحديد داخل البرلمان (فاقد الصلاحيات) لإظهار أن الديمقراطية متوفرة وأن النظام يتمتع بالشعبية، في الفترة التي شهدت انكشاف المخطط التدميري (تقرير البندر) وقمع النظام المستمر ومصادرته للحريات العامة، واستمرار عملياته الإرهابية ضد المواطنين والحقوقيين ورموز التيار الممانع بشكل خاص.
وقد تميز عمل الجمعيات الرسمية بالمركزية النخبوية والغير تفاعلية مع نفس الجماهير، وعملت على الاقتراب من المرجعية كثيراً حتى حسبت عليها في ذهن العوام. وقد اعتمدت الجمعيات الرسمية في تسويق برامجها على أنها تحضى بدعم المرجعية الدينية، حيث أثر “دعم المرجعية الدينية في داخل البلد وخارجه” كثيرا في نوع تعاطي الجمعيات الرسمية مع التكتلات أو القيادات الأخرى وانعكس على نمط التعامل والشحن الجماهيري لمحاصرة وابعاد باقي القيادات الممانعة وتضعيف تأثيرها الجماهيري.
كما أخذ التوجه النخبوي يسيطر على العمل السياسي والاحتجاجي في هذه الفترة حتى تراجع دور الجماهير وابداعاتها وتقدم النمط البرجماتي السياسي على مبدأ الوضوح مع الجماهير، وكان من نتائج ذلك التقارب إلى حدود كبيرة من مؤسسة الحكم السياسية وحليفاتها في المنطقة وخصوصا الإدارة الأمريكية أملا في تحقيق منجزات يمنحها النظام تقديرا منه لدورها، أو تحصيل المكاسب السياسية والشعبية من خلال ضغط الدول والسفارات الغربية.
وبقي خط الجمعيات الرسمية طوال الأعوام الماضية (2006م إلى 2011م) يعمل في الأطر التي رسمها النظام ووفق قواعد اللعبة الرسمية، بينما عمل خط الممانعة وفق رؤى ومنهجيات مغايرة تماماً.
خط القوى الثورية
في الجبهة الأخرى من المعارضة كان هناك حركتي حق و تيار الوفاء الإسلامي وحركة أحرار البحرين الإسلامية، ومجموعة من الحقوقيين كعبد الهادي الخواجة ونبيل رجب وحسين عبد الله و مجموعة من اللجان الشعبية، كالجنة الوطنية للشهداء وضحايا التعذيب، ولجنة مكافحة التجنيس السياسي، و غيرهم، وائتلاف شباب ثورة 14 فبراير، والذي نشأ بعد انطلاق ثورة 14 فبراير.
هذه القوى كانت تؤمن بأنه لا يوجد أفق حقيقي لتحقيق أي مطلب سياسي أو معاشي جوهري للشعب من خلال العمل وفق الآليات الرسمية التي وضعها النظام، وكانت تشخص بأن النظام يعمل على عامل الوقت لإضعاف المعارضة، وتمييع المطالب الشعبية، وتنفيذ مخططات خطيرة كالتجنيس والتوطين السياسي، وإقصاء الشعب عن مواطن النفوذ. فكانت هذه القوى تضع في مقدمة أولويات أهدافها السياسية اسقاط مشروع حمد المسمى زورا بالمشروع الإصلاحي، والمطالبه بالمطالب السياسية الجوهرية، بدل الانشغال بالمطالب الآنية والمعاشية، والتي كان يحاول النظام إغراق المعارضة بتفاصيلها داخل أروقة المجلس النيابي الصوري.
اعتمدت هذه القوى في عملها على أساليب منها العمل السياسي الغير مرخص، والقيام بفعاليات غير مرخصة تكسر حاجز الخوف من بطش النظام، والذهاب للمحافل الدولية، و اعتماد خطاب سياسي جريء لا يعترف بالخطوط الحمراء التي وضعها النظام.
وطرح أصحاب هذا التيار الممانع فكرة استفتاء الشعب وتعزيز سيادته على مقدرات بلاده. ولذلك أصر هذا الفريق على العمل الميداني الشعبي الضاغط لكتابة دستور يخطه الشعب بيده. وعمل على محاسبة المسؤولين عن المخطط التدميري وتقديم المجرمين إلى القضاء المستقل، ومحاكمتهم على جرائمهم بحق الشعب. وتوج هذا الخط خطابه السياسي بفكرة اسقاط ومحاكمة العصابة الحاكمة المجرمة.
وخاض هذا التيار عمله الجماهيري الميداني من خلال شعبية رموزه وإدارة لجان وملفات متفرقة، ولكنها تصب في نفس الأهداف المرسومة داخليا، وهي لم تكن كيانات تنظيمية كبيرة ومتخصصة كالفريق الأول من المعارضة. فالبنية التنظيمية لتيار الممانعة كانت ضعيفة ولا تملك المؤسسات التي يمكن لها استيعاب حاجات العمل النضالي الشعبي الكبير، على الرغم من وجود لجان أهلية كثيرة ولدت من رحم هذا التيار. أما خطاب هذا الفريق السياسي فكان تنظيرا واقعيا وموضوعيا بعيد المدى، قد حاز على دعم علماء أجلاء لم يشتركوا مباشرة في العمل السياسي واكتفوا بالتنويه على شرعية وصحة وجود وعمل هذا الفريق.
التحدي الثالث: مخطط النظام التشطيري
لعب النظام على إضعاف الخطين (الرسمي والممانع) في المعارضة كل في دائرة منهجيات عمله، وضمن خطط مدروسة، بل منصوص عليها في (تقرير البندر). وواصل النظام في خطته التدميرية وعلى رأسها إبادة الشعب الأصلي بمخطط التجنيس وتقنين السياسات التمييزية في حقوق المواطنين السياسية والمدنية وتشريعها من تحت قبة البرلمان أو بواسطة القوانين التي لا يستطيع البرلمان البت فيها أو اسقاطها.
كما أوجد النظام حالة من التشرذم في صفوف التيار السياسي الذي دخل معه في مشروعه “الإصلاحي” (التدميري). وأخذت تعبر حالة التفكك عن نفسها في شكل تقارب وتباعد فصائل هذا التيار من بعضها البعض خلال العمل الوطني وفي المفاصل المهمة من الاستحقاقات (الانتخابات مثلا). فأحياناً يلتقي عدد من الجمعيات على بعض الأهداف، وسرعان ما ينقص عدد الجمعيات الموافق عليها، فيبتعد أحدها هنا أو هناك ثم يلتئم بعضهم في اصدار بيان مشترك وينزوي بعضهم إلى زاوية أخرى. بمعنى آخر لم تكن صيغ التفاهم بين الجمعيات قادرة على رسم برنامج وطني يحقق أهداف مشتركة.
من جهة أخرى فقد وصم النظام القوى الثورية بالإرهاب و العنف، مما يعني أن اللقاء مع هذه القوى محرم لديه، و له تبعاته السياسية و القضائية، و قد أوصل النظام الخليفي بشكل مباشر و غير مباشر لقيادات الجمعيات السياسية انزعاجه من أي فعل تقوم به الجمعيات، و يفهم منه دعم جهود المعارضة الثورية، بل و ضغط النظام كثيرا بمعية السفارات الأجنبية على الجمعيات السياسية لاستصدار مواقف سياسية علنية، و على نقيض من مواقف وخطاب القوى الثورية، مما عقد المشهد أمام أي لقاء أو توافق و لو نسبي في الخطاب و الخطوات على الأرض.
التحدي الرابع: العلاقات الدولية والتزاماتها
من أجل الحفاظ على خيوط التقاء وقنوات سياسية مفتوحة، فإن القوى السياسية الرسمية لا تذهب بعيدا في خطابها وفعالياتها ومواقفها وخطواتها من الحدود والأطر التي ترسمهما السفارتين الأمريكية والبريطانية في البحرين، كما تملك القوى السياسية الرسمية علاقات مباشرة مع النظام الخليفي وأمريكا وبريطانيا والسفارات الأجنبية، وتعتقد القوى السياسية الرسمية بأن مفاتيح الحل في البحرين وتحقيق المطالب الشعبية يعتمد على الدعم الأمريكي والبريطاني والموافقة السعودية بشكل كبير.
كما نأت القوى السياسية الرسمية بنفسها عن أي نوع من العلاقات العلنية مع الجمهورية الإسلامية في إيران، فأصبحت لا تستفيد من القوة التي تملكها الجمهورية الإسلامية وروسيا على المسرح الدولي، وتنأى بنفسها عن الانفتاح على بعض أصدقاء الشعب البحراني من القوى الإقليمية خشية إغضاب أمريكا والسعودية أو لعدم قناعتها بنفع التواصل مع هذه القوى الصديقة.
في الجهة المقابلة فإن القوى الثورية نسجت علاقاتها السياسية مع الجبهة الدولية المقابلة، وخصوصا مع القوى المناهضة لأمريكا وللغرب.
اصطفاف قوى المعارضة على مستوى العلاقات الدولية مع هذا الطرف أو ذلك فرض التزامات معينة على هذه القوى من ناحية الخطاب السياسي والخطوات السياسية والاحتجاجية وحتى إطار العلاقات البينية في المعارضة، فمثلا لن يتسامح النظام او صانع القرار الأمريكي أبدا مع الجمعيات السياسية لو رأى لها بيانا أو موقفا سياسيا أو خطوة احتجاجية جامعة مع القوى الثورية. فهذا خط أحمر بالنسبة لهم.
التحدي الخامس: الاختلاف الإيديولوجي
يقصد بالاختلاف الإيديولوجي هو اختلاف التركيبة الفكرية وانعكاساتها لدى القوى السياسية والثورية، فمثلا فإن الخطاب السياسي لتيار الوفاء الإسلامي هو خطاب سياسي ممزوج بالتأصيل الديني، وتكون مواقفه السياسية وفعالياته الميدانية وحتى الرؤى السياسية التي يطرحها، ونشاطه الإعلامي و الثقافي مليء بالخطاب الديني و العقائدي، بينما يتخذ النشاط والخطاب السياسي لقوى سياسية أخرى في الساحة المنحى الوطني المجرد عن الانتماء الديني الفاقع، أو المعاني الدينية و العقائدية.
من مصاديق هذا الاختلاف الإيديولوجي هو الخلفيات الفكرية للقيادات والكوادر القيادية العاملة في كل من القوى الرئيسة في جناحي المعارضة: السياسي والثوري. وقد انعكس هذا الاختلاف على السلوك السياسي والعلاقات الدولية والشعارات المرفوعة والفعاليات الدينية والميدانية وغيرها، وكان انعكاس هذا الاختلاف فاقعا وحادا في مرات عدة، ومثال على ذلك الموقف من العنف والعنف المضاد في الشارع.
فمثلا بالنسبة للموقف من العنف والسلمية فإن المواقف السياسية لكلى الطرفين تنطلق من فهمين مختلفين، الأول هو النظرة البرغماتية المتبناة من قبل القوى السياسية الرسمية، والثاني هو النظرة العقائدية، المتبناة من قبل مجموعة من القوى الثورية. وانطلاقا من إيمان الجمعيات السياسية بعدم صحة الذهاب في منحى سياسي أو ميداني عنيف وتصادمي مع السلطة فقد انتهجت المنحى الغير تصادمي وأقامت فعالياتها السياسية والاحتجاجية المرخصة وفي الأماكن والأوقات المحددة من قبل السلطات الأمنية في البلد، ولم تصرح عملياً بتأييدها للأساليب الدفاعية تحت أي عنوان ديني أو سياسي، بل وقفت في محطات عدة موقف الإدانة السياسية لأي نشاط ميداني يؤدي للصدام مع السلطة، وكانت العقيدة الراسخة لدى الجمعيات السياسية هو لزوم إدانة أساليب الدفاع والردع حتى لو كانت كرد فعل على قمع السلطات وجرائمها، فتبنّت السلمية و العمل المرخص كاستراتيجية ثابتة وصالحة لكل ظرف و وقت في الثورة.
هذا بطبيعة الحال لم يكن يتوافق مع نظرة القوى الثورية للعنف والعنف المضاد، حيث تعتقد القوى الثورية بأن السلمية و العنف هما أداتان من أدوات العمل، فقد تكون أحدهما راجحة في وقت ما، وغير راجحة في وقت آخر، كما تبنت القوى الثورية حق الدفاع عن النفس، وحق استخدام بعض الأساليب العنيفة ضمن ضوابط واستراتيجيات محددة، لتحقيق أهداف سياسية وميدانية معينة.
جهود يتيمة لإطلاق الحوار الداخلي والانسجام بين أطياف المعارضة
جدير بالذكر أن هناك محاولات عدة بذلت خلال 10 سنوات الماضية لإطلاق لقاء أو حوار على مستوى فردي بين أقطاب العمل السياسي والثوري، أو على مستوى الحركات السياسية والثورية، وأهم هذه المحاولات:
أولا: أن قام عالما دين، أحدهم له نفوذ في القوى الثورية وآخر له نفوذ في إحدى كبرى الجمعيات السياسية، بالاتفاق على السعي لعقد لقاء جانبي مقدمة لحوار وتقارب بين إثنين من أهم أقطاب المعارضتين الثورية والسياسية. عرضت فكرة اللقاء على الجانبين المعنيين، فقبل بها الطرف في المعارضة الثورية، ورفضها الطرف في الجمعية السياسية.
ثانيا: أطلق فضيلة الأستاذ عبد الوهاب دعوة عامة وخاصة للقاء والحوار بين أطراف المعارضة، وتم نشر ” رؤية التكامل ” من قبل تيار الوفاء الإسلامي آنذاك في سنة 2010، إلا أنه لم تتفاعل القوى الرئيسة من أطراف المعارضة الرسمية مع الدعوة، ولم تستجب لها.
ثالثا: بعد انطلاق الثورة واعتقال قادة القوى الثورية أرسلت كوادر الصف الثاني في تيار الوفاء الإسلامي دعوة مكتوبة وخاصة لإحدى أكبر القوى السياسية في البلد للحوار والتنسيق في الملفات المشتركة، فلم يرد على الدعوة و لم يتفاعل معها.
رابعا: بادرت حركة أحرار البحرين الإسلامية للتسويق لمشروع تنسيقي ووحدوي، ففي نوفمبر 2015 تلقت القوى السياسية والثورية دعوة ومقترح مشروع مكتوب لتدشين تكتل سياسي للمعارضة في الخارج عابر للأطياف السياسية بمختلف توجهاتها السياسية والفكرية وأساليب عملها، على أساس أن التغيير المنشود، وفق أي من سقوف المعارضة، يتطلب تلاحم قوى المعارضة وابراز جبهة عريضة للعالم، وبوتقة تنصهر فيها جهود المخلصين من أبناء الوطن. واذا كان تشكيل الجبهة في داخل الوطن غير ممكنة في الوقت الحاضر فان فصائل المعارضة خارج البلاد قادرة على اعادة لملمة شملها لكي تظهر للعالم قدرة الشعب على توفير بديل للحكم الخليفي يحقق امن البلد واستقرارها ويقود شعبها نحو المستقبل على طريق البناء والعطاء والنضال. مرة أخرى لم تتعاطَ أي من القوى السياسية الرسمية مع مقترح المشروع لأسباب لم تفصح عنها.
اليوم فإن الحراك المعارض النخبوي والجماهيري يمر بمنعطف مهم، وتحديات جمة، في ضوء الاستهداف الأمني المبرمج لكل الساحة، ولكل الأطياف العاملة، وتظهر الساحة أنها بحاجة لاستنهاض سياسي وميداني قادر على خلق توازن مع السلطة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بتقارب وتفاهم وجهود مشتركة بين أطياف العمل السياسي والثوري. فقد ثبت بالتجربة عدم قدرة طرف واحد من أطراف المعارضة على استنهاض الساحة كافة و خلق توازن جديد، كما ثبت بالتجربة استحالة أن تنفرد قوة ما في جهد سياسي وميداني يؤدي لتحقيق أي من المطالب السياسية، دون التفاهم والالتقاء مع القوى الفاعلة الأخرى في الساحة.
التحديات الخمس المشار إليها قد تكون أهم ما يجابه أي مشروع للالتقاء بين القوى السياسية والثورية، ومن أجل الوصول لمشروع التقاء، وتعاون وتنسيق في المشتركات، وللوصول لنوع من التفاهم والاحترام المتبادل، وتجنب التصادم أو الإضرار بالآخر، فلابد من معالجة هذه التحديات والعقبات الجوهرية.
جميع الحقوق محفوظة لـ مركز البحرين للدراسات في لندن
الآراء تعبير عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن موقف المركز.