د. حسن سعيد
ينظر الكثيرون اليوم إلى الشيخ عيسى أحمد قاسم بوصفه أبرز عالم دين شيعي وأبرز معارض سياسي في البحرين. يعد الشيخ قاسم من رواد العمل الديني والسياسي في البحرين فهو من المؤسسين لأول جمعية دينية في البحرين عام 1972م – جمعية التوعية الإسلامية – ومن المشاركين في أول تجربة برلمانية تشهدها البحرين في مطلع السبعينيات.
رغم المميزات الفردية والتجربة الدينية والسياسية الطويلة، يبدو الشيخ قاسم كخلاصة تجربة بحرينية ممتدة برزت خلالها شخصيات متعددة لعبت أدوارا دينية وسياسية مهمة ولكنها كانت مقيدة بما تسمح به ظروف زمانها.
تسعى هذه الورقة لتسليط الضوء بشكل موجز على أبرز إنطلاقات الشيخ قاسم والتي يمكن تقسيمها لثلاث: الإنطلاقة الأولى عام 1972 بعد عودته من الدراسة في النجف الأشرف، الإنطلاقة الثانية عام 2001 بعد عودته من رحلته العلمية في قم المقدسة، والإنطلاقة الثالثة عام 2011 مع بدء حراك الرابع عشر من فبراير في البحرين.
خلفية تاريخية
ولد الشيخ قاسم في البحرين وبدأ دراسته الدينية فيها قبل أن يستكملها في حوزة النجف ثم حوزة قم. كان مولده عام 1940م في قرية الدراز، وهي ذات القرية التي ينتمي إليها العالم البارز الشيخ يوسف العصفور البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة والمتوفى عام 1772م. مارس مهنة التدريس في المدارس الحكومية في بداية شبابه بالإضافة لاهتمامه بالعلم الديني حيث درس على يد بعض علماء البحرين في تلك الفترة. ما بين الاعوام 1964 و1972 التحق بحوزة النجف الأشرف لاستكمال الدراسة الدينية ثم عاد للبحرين ليساهم في إنشاء جمعية التوعية الإسلامية عام 1972.
بدأ مشواره السياسي بالفوز بعضوية المجلس التأسيسي عام 1972، والذي عمل على استصدار أول دستور في تاريخ البحرين، ثم بالفوز بعضوية المجلس الوطني عام 1973 وهو أول برلمان منتخب في تاريخ البحرين. بعد حل البرلمان عام 1975 استمر الشيخ قاسم في أداء مهامه الدينية وكان من المعاصرين لبعض المراحل الحرجة من تاريخ البحرين خصوصا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وبعد استشهاد أستاذه السيد محمد باقر الصدر عام 1980 وانعكاسات هذين الحدثين المهمين على الوضع المحلي.
في بداية التسعينيات التحق بحوزة قم المقدسة لاستكمال الدراسة الدينية المتقدمة ثم عاد للبحرين عام 2001 بعد بلوغه مرتبة الاجتهاد. منذ عودته عام 2001 وحتى اليوم، برز الشيخ قاسم كقائد وأب روحي لمجموعة من المؤسسات الدينية والسياسية ولتيار عريض من البحرينيين وخصوصا بعد دعمه ومساندته لحراك فبراير 2011.
حوزة النجف والصدر الأول كمصدر إلهام
يبدو اتصال الشيخ قاسم بحوزة النجف في فترة دراسته الدينية وتتلمذه على يد الشهيد الصدر بشكل خاص مصدر إلهام أساسي. درس الشيخ قاسم بين عامي 1964 و1968 في كلية الفقه بالنجف الأشرف ثم رجع للبحرين ورحل للدراسة في النجف مرة أخرى بين عامي 1970 و1972 ولكن للاستفادة من علوم مراجع كبار هذه المرة من أمثال السيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر.
عرف العراق في تلك الفترة بأنه أحد مراكز التيارات الفكرية التي انتشرت في تلك الفترة وأثرت بشكل كبير على تيار عريض من مجتمعات الدول العربية، إذ كانت بغداد حينها إحدى العواصم العربية التي استقطبت الطلاب العرب في جامعاتها كما كانت مركزا من مراكز الفكر الشيوعي والبعثي والعروبي الذي انتشر في العالم العربي آنذاك. في مقابل ذلك، كانت حوزة النجف تمارس دورها الديني في مواجهة هذه التحديات الفكرية.
شهدت حوزة النجف الأشرف في تلك الفترة تحديات وتطورات عدة كما كان للسيد محمد باقر الصدر تأثيره البالغ في هذه المرحلة، خاصة بعد انتشار الأفكار الشيوعية ووصول حزب البعث لسدة الحكم في العراق. برز اسم السيد محمد باقر الصدر كأبرز من تصدى للتحدي الفكري من جهة وللحزب البعثي الحاكم من جهة أخرى. فنظرا للتحديات الفكرية والسياسية التي واجهت العراق في تلك الفترة، بدت حركية السيد الصدر لافتة وقد برزت في مستويين: المستوى الفردي والمستوى المؤسسي. على المستوى الفردي، واجه الصدر التحديات الفكرية بنتاج إسلامي فكري عميق تمثل في كتاباته من قبيل “فلسفتنا” و”اقتصادنا” كما واجه التحديات السياسية بموقف صلب وكلمة جريئة أدت لاستشهاده في نهاية المطاف. أما على المستوى المؤسسي، فقد بدا الشهيد الصدر أحد الداعمين والمساهمين فيما عرف حينها باسم “جماعة علماء النجف” لمواجهة التحديات الفكرية كما كان أحد المؤسسين والراعين لتأسيس حزب الدعوة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي.
يتجلى تأثر الشيخ قاسم بأستاذه الشهيد الصدر في الكثير من النواحي التي اتسم بها حراك الشيخ قاسم منذ بداية السبعينيات وحتى اليوم. بعيدا عن التأثر في مسار العلم الديني أو الفكر الإسلامي العام، يبدو الشيخ قاسم مدينا للشهيد الصدر في ما يمكن أن يسمى بالإسلام الحركي والمؤسساتي والسياسي. حركية الشهيد الصدر ونزوله لساحات العمل الاجتماعي ومواجهة التحديات الفكرية وعدم اقتصاره على العلم الحوزوي المحصور في الحوزة أو المسجد تبدو ظاهرة في حراكات الشيخ قاسم حال نزوله البحرين عام 1972. كما أن الفكر المؤمن بأهمية البناء المؤسسي الذي تبناه الشهيد الصدر حين مساهمته في “جماعة علماء النجف” أو في مساهمته في تأسيس حزب الدعوة هو نفسه فكر الشيخ قاسم الذي سعى لتأسيس جمعية التوعية منذ وصوله للبحرين.
أما الإسلام السياسي الذي تبدى في مواجهة الشهيد الصدر لحكم البعث في العراق وفي تأسيسه لحزب الدعوة فله ما يشابهه في انخراط الشيخ قاسم في العمل السياسي من خلال مشاركته في المجلس التأسيسي ثم المجلس الوطني في بداية السبعينيات. يبرز تأثر الشيخ قاسم بنهج أستاذه الشهيد الصدر في إنطلاقاته الثلاث التي تختصر حراكاته منذ بداية السبعينيات وحتى اليوم.
الإنطلاقة الأولى 1972-1975
أولى إنطلاقات الشيخ عيسى قاسم بدأت منذ عودته من الدراسة الدينية في النجف الأشرف بالعراق عام 1972 واستمرت حتى حل المجلس الوطني عام 1975. مباشرة، وفي ذات العام الذي رجع فيه إلى البحرين، بدأ الشيخ قاسم مشواره الديني والسياسي بالترشح لعضوية المجلس التأسيسي من جهة وبتأسيس جمعية التوعية الإسلامية التي تعد أول جمعية إسلامية في البحرين من جهة أخرى. وإذا كانت عضويته في المجلس التأسيسي تبرز دوره السياسي/الفردي، فإن مساهمته في تأسيس جمعية التوعية الإسلامية تبرز دوره الديني/المؤسساتي. رغم أن مساهمة الشيخ قاسم في المجلس التأسيسي ثم المجلس الوطني قد تبدو في ظاهرها مساهمة “سياسية” إلا أنها في الأصل، كما يبدو، مساهمة “دينية” حيث كان للشيخ قاسم، بالإضافة لزملائه في الكتلة الدينية، دور أساس في التأكيد على الهوية الإسلامية في صياغة مواد الدستور البحريني أو في ما صدر عن المجلس الوطني. على أساس ذلك، ربما من الممكن القول بأن الهدف الرئيس لإنطلاقة الشيخ قاسم الأولى (1972-1975) كان تثبيت الهوية الإسلامية في المستويين الدستوري والقانوني من جهة وفي المستوى الشعبي من جهة أخرى. لتحقيق الهدف في مستواه الأول جاءت مشاركة الشيخ في المجلسين التأسيسي والوطني ولتحقيقه في المستوى الثاني جاء تأسيس جمعية التوعية الإسلامية.
في أحد لقاءاته الجماهيرية عام 2009، سئل الشيخ قاسم عن تجربة السبعينيات السياسية فقدم في إجابته صورة مهمة توضح مدى التحديات التي واجهتها الكتلة الدينية، التي كان من أبرز أعضائها، والدور الذي لعبته في تلك الفترة. يصف الشيخ الحالة الإسلامية العامة في البحرين آنذاك بأنها كانت “هامدة” وكان وجود الإسلام السياسي فيها وجودا “ضيقا وخفيا ومحدودا ولا يكاد يكون مؤثرا”. في مقابل ذلك، كان الفكر اليساري منتشرا إذ كانت “الجولة جولة اليساريين” الذين “كان فكرهم غازياً للقرى والمدن”. رغم ذلك، كان الطابع الإسلامي للكتلة الدينية “ظاهرا بشكل فاقع وواضح وغير متخف أبدا”. وقد ظهر منها “ما لم يكن يتوقعه اليساريون والقوميون بشكل عام” إذ لم يكونوا “يتصورون أن دراسة النجف مثلا تعطي قوة في الرأي وصلابة في الموقف كالذي رأوه من الكتلة”. كانت مواقف الكتلة “قوية وحادة في بعض الموارد” كتلك المعنية بإسلامية الدولة. وفي مقارنة بين الدعم الذي يحظى به اليساريين والإسلاميين في في تلك المرحلة، يرى الشيخ أنه رغم “تاريخ اليساريين الطويل”، ورغم “إمدادهم من الدول بمشاريع القوانين وبالرؤية السياسية”، إلا أن الكتلة الدينية كانت “كعصفور بلا أجنحة” حيث أنه لم يكن لهم “أي ارتباط بأي مكان”. إلا أنه لا ينسى دور الشهيد الصدر الأول والشيخ محمد أمين زين الدين. يقول الشيخ :”كانت الكلمة المشجعة كلمة الشهيد الصدر أعلى الله مقامه، وكذلك الموافقة من الشيخ زين الدين”. كان الشهيد الصدر “يشدد على النزول [من النجف] والمشاركة في تجربة المجلس التأسيسي”. وكنتيجة للدور الذي قامت به الكتلة الدينية في المجلسين التأسيسي والوطني، يضيف الشيخ ” بدأ الإسلام السياسي في البحرين في الظهور على الساحة”. (من لقاء مع الشيخ في مأتم أنصار العدالة بقرية الدراز في البحرين بتاريخ 12 يونيو 2009 – موقع المقاوم للثقافة والإعلام).
على صعيد آخر، مارس الشيخ قاسم دوره التوعوي من خلال مساهمته في تأسيس وإدارة جمعية التوعية الإسلامية التي تعد أول مؤسسة دينية تؤسس في البحرين. تولى الشيخ قاسم إدارة الجمعية التي كان من أبرز أهدافها تثبيت الهوية الإسلامية ومواجهة التحدي الفكري اليساري الذي كان سائدا آنذاك. لتحقيق هذا الهدف اعتمدت الجمعية مجموعة من الأنشطة والفعاليات الدينية التي استقطبت من خلالها مجموعة من أبرز الشخصيات الإسلامية من خارج البحرين من قبيل السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي الآصفي والشيخ علي الكوراني. كما عملت على نشر الثقافة الإسلامية من خلال افتتاح مكتبة ضمت الآلاف من الكتب كما قامت بتنظيم دروس دينية إلى جانب المدرسة التي تعنى بتدريس البنات.
هذه الأدوار التي لعبها الشيخ قاسم في بداية السبعينيات، سواء على صعيد المساهمة في المجلسين التأسيسي والوطني أو مساهمته في جمعية التوعية الإسلامية، تبرز مجموعة من النقاط التي تميز إنطلاقته الأولى. يبدو من الواضح أن التحدي الأبرز بالنسبة للشيخ قاسم في تلك المرحلة كان تحدي مواجهة الفكر اليساري وتثبيت الهوية الإسلامية. لمواجهة هذا التحدي الفكري، بدا حراك الشيخ في صورته العامة كحراك إسلامي عام أشمل من كونه حراكا معنيا بقضايا الشيعة فقط الأمر الذي جعل الهوية الإسلامية للشيخ هي الهوية الأكثر بروزا. من جهة أخرى، يمكن اعتبار هذه الفترة هي فترة إنطلاق حراك إسلامي متقدم لتثبيت ونشر القيم والثقافة الإسلامية في المجتمع بالإضافة لبروز ما بات يعرف بالإسلام السياسي في البحرين. مساهمة الشيخ قاسم ورفاقه في الكتلة الدينية في المجلسين التأسيسي والوطني قدمت الإسلام كهوية متجددة ومتحركة وغير محصورة في المسجد والمأتم والقرية الأمر الذي ساهم في نهوض حركة الإسلام السياسي في البحرين. يضاف إلى ذلك، فإن تأسيس جمعية التوعية في تلك المرحلة يؤشر لدخول الإسلاميين، وعلى رأسهم الشيخ قاسم، مرحلة المؤسساتية وعدم الإكتفاء بالجهود الفردية. بشكل إجمالي، يمكن اعتبار الإنطلاقة الأولى للشيخ قاسم في بداية السبعينيات كإنطلاقة تأسيسية للإسلاميين على عدة مستويات: في المستوى الأولى هي إنطلاقة التأسيس لحراك إسلامي يهدف لتثبيت الهوية الإسلامية ونشر الثقافة الإسلامية في المجتمع. أما في المستوى الثاني فهي إنطلاقة التأسيس لنهوض ما بات يعرف بالإسلام السياسي في البحرين وقد تمثل ذلك في المشاركة السياسية في المجلس التأسيسي والمجلس الوطني. وقد تمثلت الإنطلاقة الثالثة في التأسيس لمرحلة بناء المؤسسات، بدلا من الجهود الفردية، وقد برز ذلك في تأسيس جمعية التوعية الإسلامية.
الإنطلاقة الثانية 2001-2010
يمكن اعتبار عودة الشيخ قاسم من قم المقدسة إلى البحرين عام 2001 هي الإنطلاقة الثانية لحراكه. منذ حل البرلمان عام 1975م وحتى سفر الشيخ للدراسة في قم المقدسة في بداية التسعينيات كانت ظروف البحرين السياسية والأمنية لا توفر مناخا مناسبا لحراك سياسي وديني واسع. في هذه الفترة كان لمجريات الأحداث في إيران والعراق انعكاساتها السياسية والأمنية على البحرين التي كانت تعيش تحت وطأة قانون أمن الدولة. انتصرت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 فزادت القبضة الأمنية في العراق الأمر الذي أدى لاستشهاد السيد الصدر عام 1980. كما كان للحرب العراقية الإيرانية واحتلال العراق للكويت والهجوم الأمريكي على العراق آثارهم على الداخل البحريني. أما على الصعيد الداخلي، فبالإضافة إلى الحالة الأمنية المضطربة جاءت أحداث التسعينيات والمطالبات الإصلاحية وتبعاتها التي انتهت مع طرح ميثاق العمل الوطني عام 2001 والذي أدى إلى فتح صفحة جديدة من العلاقة بين السلطة والشعب كان من مفاعليها إفراغ السجون والسماح بعودة المبعدين. وقد كانت عودة الشيخ في تلك الفترة إيذانا ببدء إنطلاقته الثانية.
مع عودة الشيخ قاسم إلى البحرين عام 2001 بدا الظرف السياسي والوعي الشعبي مهيئا لانطلاقة جديدة أكثر عمقا هذه المرة. رغم أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 كانت له تداعيات محلية سلبية على المستوى الأمني، إلا أن ذلك النجاح ساهم في انتشار وتعميق الهوية الإسلامية الذي كان أحد أهداف إنطلاقة الشيخ قاسم الأولى في السبعينيات. من جهة أخرى، فإن الوعي السياسي لدى قطاعات شعبية واسعة أصبح أكثر نضوجا وخصوصا بعد حراك التسعينيات. هذا التطور الفكري والسياسي صاحبه انفتاح سياسي نسبي يسمح بالعمل المؤسسي. هذه الظروف مكنت الشيخ من لعب أدوار أساسية سواء على الصعيد الفردي أو المؤسسي.
في هذه المرحلة بدا الشيخ قاسم كأب روحي ومرجعية فكرية وسياسية لمجموعة من المؤسسات السياسية والدينية ولتيار عريض من المواطنين البحرينيين وخصوصا من الشيعة. منذ عودته من دراسته الدينية في قم ارتأى الشيخ قاسم أن تكون وظيفته في هذه المرحلة وظيفة تبليغية دينية لا تهمل السياسة ولكنها لا تتولى المسئولية السياسية المباشرة في هذه المرحلة. هذا التموضع “التبليغي” للشيخ قاسم كان يتسق مع الأدوار التي صار يلعبها بعد ذلك كمرجعية فكرية أساسية للمؤسسات التي صارت تمثل شريحة واسعة من المواطنين البحرينيين الشيعة. تأسست جمعية الوفاق الإسلامية، التي تمثل الجناح السياسي لتيار شيعي عريض، عام 2001 ثم جاء افتتاح جمعية التوعية الإسلامية عام 2003، التي تأسست في البداية عام 1972 ثم تم إيقاف عملها عام 1984، لتمثل الجناح الديني. أما المجلس العلمائي الذي يعتبر أكبر تجمع علمائي في البحرين فقد تأسس عام 2005. هذه المؤسسات الثلاث لم تكن بعيدة عن تأثيرات الشيخ قاسم الذي يعد اليوم المرجعية السياسية والفكرية لها والأب الروحي لتيارها العريض. رغم أدواره المهمة على صعيد المؤسسات، حافظ الشيخ قاسم على العلاقة المباشرة مع الجمهور الذي بات يلتقي به ويستمع لخطابه في كل صلاة جمعة أو في العديد من المناسبات والفعاليات الدينية أو من خلال بياناته التي يصدرها بين فترة وأخرى. على أساس ذلك ربما من الممكن القول بأن العلاقة المباشرة بين الشيخ والمؤسسة لم تؤثر على العلاقة المباشرة بينه وبين الجمهور وبالتالي فإن وظيفته التوجيهية للمؤسسات لم تنل من موقعه كقائد ومرجعية فكرية وسياسية للجمهور.
رغم الهوية الإسلامية البارزة في شخصية الشيخ قاسم والتي تجلت بشكل واضح في السبعينيات مع وجود التحدي اليساري، إلا أن التحديات السياسية والدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في فترة عودته عام 2001 ربما ساهمت في بروز الهوية الشيعية بشكل أكبر في إنطلاقته الثانية. في مقابل انحسار الفكر اليساري، برزت الهويات الدينية الإسلامية في قوالب مذهبية شيعية وسنية في هذه المرحلة. ومثلما ساهمت التجربة الديمقراطية في السبعينيات في ولادة الكتلة الدينية وكتلة الشعب اليسارية، ساهمت التجربة الديمقراطية في مرحلة ما بعد الميثاق الوطني في 2001 في ولادة الجمعيات السياسية الشيعية والسنية. يضاف إلى ذلك، فإن إثارة بعض القضايا ذات الصلة بالجوانب المذهبية في تلك الفترة قد ساهم في بروز الخطاب المذهبي والهويات المذهبية بشكل أكبر من السابق وذلك من قبيل توزيع الدوائر الانتخابية بشكل غير عادل أو طرح بعض القوانين التي قد تمس بعض التشريعات المذهبية كقانون الأحوال الشخصية. في ظل هذه الأجواء، وفي ظل الأدوار التي لعبها الشيخ قاسم كمرجعية فكرية وسياسية للمؤسسات الشيعية ولجمهور شيعي عريض، بدت صورة الشيخ تتشكل بألوانها المذهبية الشيعية. بدا الشيخ في هذه المرحلة منشغلا ببناء ورعاية التيار الإسلامي العريض في مؤسساته وجمهوره الذي ينتمي أغلبه للمذهب الشيعي وفي ملفاته السياسية والدينية.
الإنطلاقة الثالثة 2011
مع بدء حراك الرابع عشر من فبراير 2011 في البحرين ربما يمكن تلمس بداية مرحلة جديدة من مراحل حراك الشيخ قاسم. منذ البداية، وقف الشيخ قاسم مع الحراك داعما له ومقوما لمساره. بدا الشيخ في هذه المرحلة كأب روحي لجمهور واسع من المواطنين بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية والدينية وكقائد لحراك سياسي قوي. مما يميز هذه المرحلة عن سواها من إنطلاقات الشيخ أنه بدا كمدافع عن حقوق سياسية تتعدى ثنائيات الإسلامي/غير الإسلامي والشيعي/غير الشيعي. في إنطلاقته الأولى في بداية السبعينيات وحين كان يمارس مهامه كنائب للشعب في المجلس التأسيسي أو النيابي كان يبدو كممثل للإسلاميين من الشعب وخصوصا في القضايا المثيرة للجدل بين الإسلاميين وغيرهم. كان حينها جزءا من الكتلة الدينية التي تمثل الإسلام في مقابل اليساريين وغيرهم. أما في الإنطلاقة الثانية التي بدأت منذ عودته من قم المقدسة عام 2001 فقد بدا راعيا لمؤسسات وتيار عريض من الطائفة الشيعية. أما الجديد في إنطلاقته الثالثة عام 2011 فهي رعايته لحراك وطني الأمر الذي أدى لبروز الهوية الوطنية التي تتسع للإسلامي وغيره والشيعي وغيره. لم تتغير هويات الشيخ في انطلاقاته الثلاث ولكن ظروف وتحديات كل مرحلة زمانية كانت تساهم في بروز هوية ما أكثر من سواها.
ختاما،
في إنطلاقات الشيخ الثلاث يبرز الإسلام في شكل حركي ومؤسساتي وسياسي. يبدو نهج الشيخ قاسم قريبا من نهج أستاذه الشهيد الصدر كما أن فكرهما فكر إسلامي ملتزم دينيا ومعارض سياسيا يؤمن بالحركية والمؤسساتية في معالجة قضايا الدين والسياسة. دائما ما تحكم حراكه الظروف المحيطة ودائما ما يجد طريقا ما للقيام بدوره. حين يضيق الظرف بالمؤسسة ينتقل إلى حراك الفرد، وحين يقيد الهاجس الأمني السياسة يتواصل الدور الديني. تتغير الظروف وتمر الأزمنة ويبقى الشيخ، كما هو، وفيا لدينه وتاريخه وأستاذه الصدر الأول.
جميع الحقوق محفوظة لـ مركز البحرين للدراسات في لندن
الآراء تعبير عن رأي كتابها، وليس بالضرورة عن موقف المركز.