جواد عبد الوهاب
التعرف على مكامن الخطر في حراكنا المستمر منذ أكثر من أربع سنوات هو أحد جوانب التعرف على الذات قبل أي شروع في عمل آخر، أو اعطاء أنفسنا مهمة تاريخية.
والمقدرة في الحكم على الذات هي في الوقت نفسه تعميقا لها، اذ أنها تصبح ذاتا وموضوعا في آن معا. والاشارة إلى هذه المخاطر والتنبيه عليها ليس ادانة لأنفسنا بقدر ما هي كشف عن بنانا الثقافية والثورية وتحليل النفس بوجداننا الحضاري وتشريح لأذهاننا.
هذا ما يجب أن تكون عليه “المراجعة ” التي طالب بها البعض في الآونة الاخيرة واثارت جدلا واسعا في الشارع البحراني وغصت بها شبكات التواصل الاجتماعي بين داع ومعارض لها.
ومما لا شك فيه أننا بحاجة الى هذه “المراجعة” اذا كانت بالفعل تشكل عملية نقد ذاتي تكشف العثرات والثغرات التي رافقت مسيرة ثورتنا طوال الفترة الماضية ومن ثم العمل على سدها وايجاد الحلول، وأن لا تكون محاكمة فكرية لتجربتنا الحركية والثورية، أو تنازل عن الثوابت وتراجع في المطالب، بل غاية استراتيجية تهدف الى احداث دوي في شعورنا، وطرح مسائل وبرامج، واثارة اشكالات وتأسيس فكر، ووضع قضايا وتنشيط اذهان تصب في مصلحة المسيرة واستمرار الثورة وتحصينها وبلوغ أهدافها بما يؤمن وصول الشعب الى غاياته في التحرر من كل القيود التي أجبرته على تفجير ثورته.
نريد “مراجعة” تسلط النور على الاسباب التي تقف حجر عثرة أمام تقدمنا نحو أهدافنا .. مراجعة، تبحث عن أساليب وطرق جديدة غير تلك التي مارسناها أو اعتمدناها فأثرت على أدائنا السياسي والثوري، وايجاد الخطط والبرامج والمشاريع التي تزيد من قوتنا وصلابتنا وتضاعف من اصرارنا وتمسكنا بثوابتنا ومطالبنا وتعيد للثورة حيويتها وترتقي بعملنا السياسي الى مستوى الحدث.
لأنه وفي ظروف مثل التي يمر بها شعب البحرين اليوم، وبعد أكثر من أربع سنوات من التضحيات، فإنه لا يمكن الحديث عن “مراجعة” تؤدي الى تقديم التنازلات والتفريط بالانجازات التي حققتها الثورة وهي كثيرة ومن أهمها افشال الخيار الامني الذي اعتمدته السلطة كخيار وحيد للتعاطي مع المطالب المشروعة والعادلة للثورة، حيث الاسراف في ممارسة شتى أنواع القمع والانتهاكات التي تتنافى والقيم الانسانية .. لا يمكن الحديث عن “مراجعة” تفضي الى مكافأة الحكم على الجرائم التي ارتكبها بحق شعب كامل ذنبه الوحيد أنه طالب وبطريقة سلمية وحضارية بحقوقه المسلوبة .. لا يمكن الحديث عن “مراجعة” تعيد للحكم هيبته التي أسقطتها الثورة وصار يتخبط يمينا وشمالا في سبيل استرجاعها.. لا يمكن الحديث عن مراجعة تمكن السلطة مجددا من التنكيل بشبابنا وبشعبنا.. ولا يمكن الحديث عن مراجعة تعيدنا الى ما قبل الرابع عشر من فبراير عام 2011.
إن مجرد الحديث عن ” مراجعة تفضي الى تقديم تنازلات وايجاد حل لا ينسجم ولا يتناغم مع مطالب شعب البحرين والتي على رأسها “تقرير المصير”، يعني نجاح منهج القمع، وأن السلطة استطاعت بخيارها الامني وبأساليبها اللاأخلاقية واللاإنسانية تركيع الشعب واخماد ثورته الامر الذي يعني عشرات السنين من التسلط والاذلال والقمع والارهاب.
لا أحد يرفض “المراجعة” و “التقييم”، لكن لابد من ضابط منهجي ومن شروط ومعايير أساسية أولية كاشفة ومميزة .. أي لابد من عقلية متطورة جديدة وحية نابعة من معاناة عميقة للتحديات التي تمر بها الثورة. والا فإن الحديث عن “مراجعة” لا تنمي وتطور من اساليب استمرار الثورة سيكون تكرارا مملا وآليا لما سبق البحث فيه في الماضي.
نقطة الانطلاق في “المراجعة” تتحدد اذن في الموقف من مطالب الشعب وأهداف الثورة، والذي يلخص اجابتنا عن السؤال الذي يجب أن نطرحه بجدية ومسؤولية على أنفسنا: عن كيفية تطوير الخطط والاساليب والبرامج والمشاريع التي تمكن شعبنا من الوصول الى أهدافه وثورتنا من الانتصار.
ولابد أن نكتشف الجواب، وأن نكشف عن القوانين التي تسمح بمحاصرة هذه الدعوة اللامعقولة عبر تحريك الابعاد الاساسية التي تضمن استمرار الثورة وديمومتها الى أن تتحقق المطالب، ونجعل من هذا الفهم قاعدة انطلاق بأساليب وخطط ومشاريع جديدة وزخم أكبر، فديمومة الثورة كـ (هدف وفكرة ومسيرة نضالية) تتطلب اليوم انضاج الاجوبة النظرية والعملية عن سبب تأخر الانتصار وبلوغ الاهداف على الرغم من مشروعية الحراك وعدالة المطالب وسلمية الممارسة.
هذه “المراجعة” التي هدفها الحفاظ على ديمومة الثورة واستمرارها وكشف الاخطاء والقضاء عليها وتغذية الثوار روحيا ومعنويا ودعمهم في الصمود وتوفير الامكانيات لهم، قد حان وقتها، وهي أي “المراجعة” تمثل في اللحظة الراهنة أكثر من ضرورة خاصة أن الخطر على الثورة لا يأتي من أعداءها فقط، بل من أبنائها أحيانا، عندما يكون لنقص الوعي أو نقص الجدية أو الخبرة مدخلا لإجهاضها، وعندما تتحول الاهداف والمواقف الى غطاء ولأهداف وأغراض لا علاقة لها بالهدف الاكبر للشعب وهو استرجاع حقوقه كاملة من دون نقصان، ذلك أنه حتى بعض المحسوبين على الثورة يمكن أن يساهموا في اخفاقها اذا لم يعيشوا الاهداف والمطالب التي تفجرت من أجلها الثورة، والتي تأتي من خلال عمل “مراجعة” في داخلهم ليتحسسوا معنى الاهداف الكبرى التي تتركز فيها كثافة المعنى الانساني للثورة وأهدافها ومطالبها.
ومن هذا المنطلق فـ”المراجعة” المطلوبة لابد أن تكون مدخلا لانضاج الافكار والرؤى التي تستطيع أن تقدم جوابا اصيلا عن التحديات التي تواجهها الثورة وقد دخلت العام الخامس من عمرها، فكل مبادرة في هذا الاتجاه لابد وان تفتح أبوابا لمرحلة جديدة تضع حدا لسلبيات المرحلة التي سبقتها.
اننا مع “مراجعة” تكون مطبخا لإنتاج معالجات جدية لأخطاء قد تكون وقعت على الصعيدين الحركي والسياسي وتنسجم مع مطالب شعب البحرين في الحرية والعزة والكرامة، ونتجنب بواسطتها متاهات الرجوع الى الوراء أو تقديم تنازلات أو الانزلاق نحو حلول لا تتناغم مع التضحيات الكبيرة، فما قدمه الشعب البحراني خلال أكثر من اربع سنوات ليس بالقليل، فهناك دماء سالت، وأنفس أزهقت، وأعراض انتهكت، ومقدسات دنست، وأكثر من 4000 أسير لا تزال السلطة تمارس بحقهم شتى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، فلا يصح بعد ذلك أن نقوم بمراجعة تجعل من كل هذه التضحيات هباء منثورا.
“المراجعة” التي ينشدها شعبنا ليست مجرد نظرية أو عملا سياسيا تجريبيا، فوراء الفكرة والعمل والمسيرة والمواقف والصيغ والمشاريع حقيقة اجتماعية حضارية نضالية هي استمرار الثورة وحمايتها وتحصينها حتى تصل الى اهدافها وتحقق كامل مطالبها .
من هنا .. من هذه الحقيقة ينبغي أن ينطلق مشروع “المراجعة” .. من داخل واقع الثورة ومن تحديد المرحلة التاريخية التي تمر بها الثورة بكل تفاصيلها واحداثياتها وليس من خارج واقعها الذي قد يكون معاديا لها ويرغب في انهائها حتى لو كان ذلك بثمن بخس.